(١) يتوقع المرء العاقل من الجيوش المحترفة - بل حتى من المليشيات التي ترغب في الاستفادة من قوانين الحرب- الإلتزام بتلك القوانين واحترامها، بإعتبار أنها وضعت بعد معاناة البشرية من قبح الأفعال المصاحبة للحرب بطبيعتها. فالمجتمع البشري في سياق تطوره الذي لم يصل حتى الآن إلى وضع الحرب ذاتها في متحف التاريخ، والتوصل لحل قضايا الصراع السياسي بطرق سلمية متمدنة بسبب حدة الإنقسام الاجتماعي ، إهتدى إلى ضرورة تنظيم القبح والحد من آثاره وتداعياته، بوضع قوانين للحرب وصلت قمة تطورها في القوانين الدولية الراهنة. حيث جرم مثلا قتل الاسرى وحدد طريقة معاملتهم، ومنع الرق واستعباد البشر، كما جرم التعذيب والاغتصاب، وقنن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ، ونظم حتى القضاء الجنائي العادل والحاسم لجرائم الحرب منذ محاكمات نورمبيرج الشهيرة بعد الحرب العالمية الثانية ، وحتى ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية. وبما أن الجيش السوداني يعتبر جيشا حديثا محترفا منضبطا قبل اختطافه من قبل الحركة الإسلامية ، وبرغم ارتكابه لتجاوزات في الحروب الداخلية السابقة كحرب الجنوب المتطاولة، كان المتوقع ان يستمر نسبيا في الحفاظ على تقاليده إن لم يكن على مقتضيات التزامه بقوانين الحرب، وأن يظل الخروج عنها في إطار التجاوزات الخاضعة للتحقيق والمحاسبة والمحاكمات الميدانية ، وفقا للقوانين سارية المفعول والقوانين الدولية الملزمة للبلاد. لكن بكل أسف، إنتشرت مقاطع محزنة لمنسوبيه، منها مطالبة ضابط عظيم للجنود بجز الرؤوس مع الوعد بحافز على ذلك، وممارسة عملية لجزها مع بقر البطون واستخراج الاحشاء، وتصوير مثل هذه الأفعال الوحشية ونشرها. (٢) مثل هذه الأفعال كانت متوقعة من مليشيا الجنجويد بحكم تكوينها والمهمة التي كلفت بها من قبل نظام الحركة الإسلامية المتمكن، وبحكم تقاليد نشاطها وفهمها للحرب القادم من القرون الوسطى وقوانينها القائمة على الاستعباد الجنسي والغنيمة ونهب المهزوم، وبحكم ما مارسته من جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، قادت إلى تحويل الرئيس المخلوع وعدد من المجرمين إلى محكمة الجنايات الدولية. وبالرغم من مشاركة الجيش في تلك الجرائم عبر إسناد المليشيا بالتخطيط والدعم اللوجستي والجوي في ارتكابها تلك الجرائم وفقا للوقائع التي اسست لاتهام قياداته السابقة أمام المحكمة الجنائية الدولية ، إلا أننا نشهد الان تحولا كبيرا في السلوك، بالارتكاب المباشر للجرائم والإعلان عنها وتسويقها في وسائل التواصل الاجتماعي ، ومواجهتها بالإنكار بدلا من التحقيق والمحاسبة والعقاب، مما يجعل منها فعلا مؤسسيا محميا بالمخالفة للقانون، وسياسة متبعة لها اهدافها. والهدف بالتأكيد من هذا السلوك ، هو دعشنة الحرب ، وتطبيع التوحش وجعله حالة طبيعية سائدة متعايش معها حتى وإن لم تكن مقبولة. فحضورها لفظا وتحريضا ، وتنفيذها في ارض الواقع ونشرها وتدويرها إعلاميا، يرتب الأثر النفسي المطلوب. وهي ان كانت تقدم في اطار أرهاب مليشيا الجنجويد المجرمة ومنسوبيها ، إلا أن المقصود منها إرهاب جميع المواطنين بشرعنة التفلت وتجاوز جميع القوانين والأعراف وتعميم حالة الفوضى لنشر الرعب. ويؤكد ذلك ما نشره حزب المؤتمر السوداني عن استشهاد المحامي صلاح الطيب له المجد والخلود رئيس فرعيته بالقرشي ، تحت التعذيب الذي مارسته ضده الاستخبارات العسكرية بمنطقة العزازي بعد اعتقاله. والاغتيال السياسي تعذيبا ، يواكب الذبح وبقر البطون، بهدف تجريف الحياة السياسية، وتصفية جميع الخصوم والتأسيس لدولة استبدادية قادمة أبشع من سابقتها، خارجة عن جميع القوانين والأعراف ، ومستعدة لارتكاب اي جريمة مهما كان نوعها، عبر جيشها النظامي الذي يعتبر القوة المسلحة المحتكرة لاستخدام السلاح شرعياً. وهذا السلوك ، يعتبر رسالة تحدي للمجتمع الدولي ايضاً، ومحاولة لارسال رسالة بأن الحرب تمت دعشنتها، وأن سلطة الأمر الواقع قادرة إلى تحويل الوضع إلى الأسوأ وتحويل البلاد لمركز للارهاب والسلوك الارهابي، في حال لم يتم الاعتراف بسلطة انقلابها غير الشرعية وقبول شروطها في اي مفاوضات قادمة لوقف الحرب. ويقيننا أن هذا السلوك الوحشي ستكون نتيجته عكسية تماماً، فهذا النوع من الجرائم لا يسقط بالتقادم، والمحاسبة قادمة ولا إفلات حتما من العقاب. (٣) وما يؤكد ما تقدم، النشاط المحموم للحركة الإسلامية لشرعنة سلطة هذا الجيش الذي اختطفته، وتحاول استخدامه مجددا واجهة لسلطتها الاستبدادية كما فعلت في ايام الإنقاذ الأولى. وفي هذا السياق شهدنا حملة تفويض الجيش الفاشلة الأسبوع الماضي، كما شهدنا خلال الايام الماضية مؤتمر لقوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية ، الذي جمع كل القوى الحليفة للحركة الإسلامية والمعادية لثورة ديسمبر المجيدة والملتحقة بالقوى الانقلابية ، والتي عرفت بجماعة "الموز"، لتعلن دعمها للقوات المسلحة وتنحاز لها ضد المليشيا المجرمة، بدلا عن الالتزام بشعار الثورة " العسكر للثكنات والجنجويد يتحل ". والمؤتمر يأتي في إطار توسيع الحاضنة الشعبية للنظام الانقلابي المنبوذ ، الذي فقد ذراعا ضاربة بتمرد الجنجويد عليه في اطار الصراع على من له اليد العليا في السلطة فقط لا غير. فبعد فشل اكذوبة المقاومة الشعبية، وفشل حملة تفويض الجيش ، عادت الحركة الإسلامية لتعبئة حلفائها مجددا ، وصمتت وصمتوا صمت القبور عن مجرد التعرض لحالة التوحش والدعشنة التي يمارسها الجيش في قبول ضمني لها، ومواكبة (مدنية) داعمة لهذه الجرائم وللجيش المختطف الذي يرتكبها، تستحق المساءلة والمحاسبة السياسية على الاقل. وخلاصة ما تقدم هو أن ما يتم ارتكابه من جرائم قذرة ومحاولات لدعشنة الحرب، ليس تجاوزات بل سلوك مؤسسي ، مسئولة عنه قيادة الجيش غير الشرعية بحكم انها سلطة أمر واقع، لأنها على اقل تقدير لم تقم بالتحقيق وتطبيق القانون بعد وقوعه، ولم تقم بمنعه ابتداءا لأنها قادرة على ذلك بوصفها الجهة التي تصدر الأوامر. وهو يحظى بمساندة الحركة الإسلامية المختطفة للجيش وحلفائها الذين غضوا النظر عنه ولم يدينوه ويطالبوا بمحاسبة مرتكبيه. وجميع ذلك يأتي في اطار تطبيع التوحش لتجريف الحياة السياسية والتأسيس لدولة استبدادية قادمة للحركة الإسلامية، لن يقيض لها النجاح في مواجهة ارادة شعبنا الغلابة، الذي قرر أن دولته القادمة مدنية تؤسس لانتقال وتحول ديمقراطي، العدالة احد أركانها والمحاسبة قادمة ولا إفلات من العقاب. وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!!! ١٠/٥/٢٠٢٤
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة