أينما وجدت الموارد والثروات وجدت الصراعات، ولو أن روائيا فذا عبقريا شاطح الخيال أراد أن يروي قصة أرض منكوبة بالأزمات والصراعات لما بلغ خياله واقع القارة الأفريقية، ورغم أن خيال الروائيين في كل الأحوال يتفوق على الواقع غير أن واقع أفريقيا المرير لا يضاهيه خيال بشري ولو بعث الناس في الأرض حاشرين ليأتوا بكل روائي جِهباذ. ولو تركنا خارطة الصراعات الأفريقية إلى ما قبل 10 سنوات مضت واكتفينا بالحاضر لما اتسع المجال لعدها وذكرها؛ فاليوم القارة تئن تحت وطأة صراعات دموية في أثيوبيا والصومال والسودان وليبيا وتشاد والنيجر، هذا غير بؤر الصراعات النائمة في معظم بلاد القارة. إن التخلف الذي تعيشه أقطار القارة الأفريقية ما هو إلا نتاج لتراكم أوضاع تاريخية مرتبطة بدخول الاستعمار إلى القارة. فعلى سبيل المثال فإن التخلف الاقتصادي ليس بسبب نقص الموارد الطبيعية؛ ولكن بسبب عجز الحكومات الأفريقية بعد الاستقلال عن إدارة الموارد التي تزخر بها القارة. فهذه الموارد سبب الاستعمار بشكله التقليدي السابق وبشكله الحديث عبر وكلاء من أبناء القارة. بيد أن الاستقرار والأمن والسلام والديمقراطية ضد مصالح المستعمرين، فتلك البيئة تستدعي الانتباه للثروات والموارد واستثمارها لصالح أصحابها وإدارتها إدارة رشيدة تمنع استغلالها وسرقتها من الطامعين والاستعماريين. في رواندا ظلت قبيلتا الهوتو والتوتسي متعايشتين وفقا للنظم الأفريقية التقليدية إلى أن جاء الاستعمار البلجيكي فقامت الحرب الدموية بين القبيلتين (1990 - 1993)، على خلفية تداعيات انحياز المستعمر البلجيكي لقبيلة التوتسي (20% من تعداد سكان البلاد) على حساب قبيلة الهوتو (80%)، فيما ركّزت الكنيسة جهودها على فصيل دون آخر، فأصبح مثلا الهوتو كاثوليك والتوتسي بروتستانت كما أصبح التوتسي أنفسهم «أنجلوفون»، والهوتو «فرانكفون»، وتركّز التعليم والسلطة في أيدي أقلية ممثلة في التوتسي. ولذا لا نستغرب حديث الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت مِل (1806 – 1873) فليسوف الحقبة الاستعمارية، بأن الاستعمار من باب الحسنات أينما وجد الاستبداد في الحكم. وهو تبرير رغائبي لخطيئة استعمار واستعباد الغير، وذلك أمر وصمت به النظم السلطوية التقليدية في أفريقيا زوراً وبهتاناً في نظر أبنائها. صحيح لم تكن النظم السياسية التقليدية في أفريقيا ما قبل الاستعمار نظماً ديمقراطية بالمفهوم الغربي الحديث، لكنها كانت ملائمة على الأقل لطبيعة القارة ولم ينتج عنها تلكم الإشكاليات والصراعات الماثلة. وكتب رئيس كينيا الأسبق جومو كينياتا مؤلفه الشهير «في مواجهة جبل كينيا» ليُبيّن فيه ما أسماها «ديمقراطية جماعة الكيكيو» التقليدية، وهي في رأيه ديمقراطية سحقها الاستعمار. في العموم ساد أفريقيا ما قبل الاستعمار نمطان أساسيان للسلطة والحكم: النمط الأول؛ قبائل ذات كيانات متعددة بنظم سياسية مختلفة تحكم نفسها بنفسها. أما النمط الثاني؛ فهو قبائل تخضع لحكم أو حماية قبائل أخرى، سواء طوعاً أو كرهاً. لكن بعد الاستعمار أصبحت الانقلابات العسكرية الآلية الرئيسية لانتقال وتبادل السلطة في أفريقيا. وأفريقيا قارة متعددة القبائل واللغات والأعراق والأديان وعوضا من أن يكون هذا التنوع مصدر قوة فإن النظم السياسية ما بعد الاستعمار التقليدي فشلت في إدارته، ومن ثمّ تحول هذا التعدد إلى عامل ضعف استثمر فيه المستعمر لتنفيذ مخططاته وأطماعه. وعلى سبيل المثال لا يذكر السودان إلا وتذكر خيراته الزراعية والحيوانية والمائية، فضلا عن مخزونات هائلة من المعادن أبرزها الذهب، ويزخر إقليم دارفور وحده بكميات هائلة من اليورانيوم. لكن هذه الثروات لا تنعكس على اقتصاد البلاد بسبب سوء إدارتها من جانب النظم السياسية التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال، فعدم الاستقرار السياسي كان السمة الغالبة لفترة ما بعد الاستعمار منذ العام 1956. وهكذا الحال في قارة أفريقيا التي تعتبر مستودعا مهما للمواد الأولية، ولم يكد يتم استغلال ما يزيد عن الطبقة السطحية من أرضها إلى اليوم. ولأن الحدود بين الدول الأفريقية أقامها الاستعمار الأوروبي وهو كان يتقاسم أراضي القارة فكانت أزمة استمر أثرها الكارثي حتى اليوم، وفي معظم الأحوال كان الحد الفاصل بين كل دولة وجارتها خطا لتقطيع القبيلة الواحدة إلى نصفين وكثيرا ما نجد مواطني قبيلة حدودية هم أقرب لأبناء عمومتهم في الدولة الأخرى من مواطنيهم في الدولة التي ينتمون لها. اليوم كل من أثيوبيا والسودان وتشاد تربط بينهم قبال مشتركة، السودان وأثيوبيا من جانب والسودان وتشاد من جانب آخر. وانعكس هذا الارتباط على حالة الأمن والاستقرار في كل بلد على حدة. ومع وجود بؤر الصراع النائمة في أثيوبيا وتشاد، كان المنطق يقول إن الصراع الذي نشب في السودان ابريل الماضي لا محالة ممتد إلى الجارتين أثيوبيا وتشاد ما لم تتعاون الحكومات على فرض الأمن والاستقرار وألا تكون دولة من الدول جزءًا من الصراع الداخلي للدولة الأخرى فإن لم تكن داعمة للاستقرار والأمن فلتلتزم الحياد. إذ أن أي نشاط عسكري سالب لأي من الدول الثلاث مع طرف ثالث يهدد الأمن والسلم في الدولة الأخرى. وقبيل اندلاع الحرب في السودان زار رئيس تشاد الخرطوم سرا مشتكيا من نشاط مشبوه لمليشيا الدعم السريع السودانية على الحدود مع دولة أفريقيا الوسطى المجاورة للبلدين، حيث أقام قائد مليشيا الدعم السريع بالتعاون مع مجموعة فاغنر معسكرات لتدريب المعارضة التشادية قرب الحدود السودانية مع أفريقيا الوسطى، في مخطط للإطاحة بحكمه. لكن اليوم للمفارقة هناك الآلاف من عناصر المعارضة التشادية، والذين دربتهم فاغنر في أفريقيا الوسطى يقاتلون حاليا مع المليشيا في الخرطوم، منهم زعيم معارض تشادي الذي هدد من داخل الخرطوم قائلا: «إنهم بعد إسقاط البرهان في الخرطوم سينتقلون إلى العاصمة انجمينا للسيطرة على تشاد».
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة