تهدف هذه الكتابة الي تسجيل مشاهد الحرب العبثية- كما قيل في الرواية الرسمية لقائد الجيش السوداني- ونقول نحن الذين مررنا بتجربة هذه الحرب اللعينة ولمدة عشرة أشهر بالتمام والكمال، انها حرب كارثية لأنها لم ولن تخلف سوي الدم، والدموع، والامهات الثكلى، والنساء اللائي يفتقدن الزوج، والاخ، والحبيب. هذه الحرب عملت علي تدمير الإنسان اولا، والبنية التحتية علي تواضعها ولم تترك البيئة وما عليها من شجر، وطير، وحجر. والكتابة عن تجربة الحرب التي دارت رحاها في الخرطوم عمل يجب أن يقوم به كل من مر بهذه التجربة المريرة التي خلفت ندوب اجتماعية وآلام لن يمحها الزمن، وهي عمل مطلوب من الجميع وليس حكرا علي من مروا بها، ويجب أن لا يكون علي طريقة "لو قام به البعض سقط عن الباقين" الكتابة عن تجربة الحرب بها منافع متعددة، منها علي سبيل المثال لا الحصر: تحميل الأطراف- ما ظهر منها وما بطن- التي شاركت في الدمار الذي لا يمكن وصفه، الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت في حق المواطنيين من قبل الجيش السوداني ومن خلفه الفلول، والدعم السريع الذي صنعته ، ورعته دولة الإسلام السياسي في سودان العجائب بعد أن تم هدم مؤسسة الجيش السوداني والتي بالرغم من انغماسها في الانقلابات العسكرية في بواكير الاستقلال إلا أنها لم تكن حكرا علي جماعة سياسية تدعي الحكم بما انزل الله، وربط قيم السماء بالأرض ولكنها حكمت بكتاب الأمير وحينها قال امير الجماعة مفاخرا بصنعه للمليشيا وفي تخريج مجموعة من قوات الدعم السريع : "ده حمايتي ما حميدتي." اي حمايته من جيوش الجوعى، والبشر المهانين، والمهمشين الذين لا محالة سيحيلون ليله ومن معه من الفسدة و القتلة الي جحيم- وقد كان.
أيضا حمياته من المؤسسة العسكرية التي تم تجييرها لصالح الجماعة، ولكن لن نقل بالكامل لأن بها ضباط وطنيون لم يرضيهم العبث الذي يتم داخل مؤسستهم العريقة، ولكن الطاغية كان عبئا ثقيلا حتي علي الجماعة، وصار طريد العدالة الدولية، ولا يمكن الحفاظ علي السلطة والثروة التي اغتصبت بحد السيف، والمال وهم يمنون أنفسهم- اي الإسلاموين- الاحتفاظ بها وكأنها مسألة سرمدية وكأنهم نسوا أو تناسوا "وتلك الأيام نداولها بين الناس" او حتي الحكمة السودانية التي تقول بأن المال وكذا السلطة ضل ضحي، اي الي زوال ولو دامت لغيرك ما كانت آلت إليك إذ قال سبحانه وتعالى: "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ." وصدق الله العظيم ايضا في قوله :" إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ." كذلك الكتابة عن تجربة الحرب فيها مصلحة ومنفعة للأجيال القادمة والمستقبل "اللسه سنينو بعاد" كما في غناء فنان أفريقيا الأول، الراحل محمد عثمان وردي. ليس مطلوبا من المثقفين التطبيل لاحد طرفي الحرب تحت ذرائع دعم المؤسسة الرسمية التي تمتلك وتستحوذ علي 80% من ميزانية السودان سنويا علي حساب الصحة والتعليم، ومن المخزي إنها فشلت حتي عن القيام بدورها في حماية المدنيين بل وفشلت حتي عن حماية حامياتها العسكرية التي تتساقط الواحدة تلو الأخرى في يد مليشيا خرجت من رحمها، كما قال بذلك قائد الجيش في حوار تلفزيوني شهير! كذلك ليس مطلوبا من المثقف ان يكون عضويا علي طريقة الفيلسوف الماركسي غرامشي، Gramscian notion of organic intellectual ولكن يجب علي المثقف من حيث المبدأ يجب أن يقف ضد كل ما يدمر الإنسان ويخلف جراحات لا يمكن الشفاء منها، والحرب بالطبع أكبر مفسدة صنعها الإنسان. يجب علي المثقف ان يقف مع الرقي الإنساني وكل ما يجلب الخير للانسان، ويحقق النمو المطرد وليس الانحياز الاعمي لمؤسسة تركت مهمتها الأساسية في حماية الدستور، والحدود، وصارت تمارس البزنيس من أوسع أبوابه من تجارة الماشية الي السمسم- ويا حليل سمسم القضارف والزول صغير ما عارف- هذا غير الذهب الذي يذهب في الصفقات المشبوهة التي تتم بعيدا عن أعين وزارة المالية. قل لي بربك أيها المثقف النحرير الذي يدعم المؤسسة الرسمية لماذا تم الإنقلاب علي الثورة؟ إن لم يكن الحفاظ علي دولة النهب، والسلب التي لا يوجد بها حسيب ولا رقيب علي المال العام. أيضا، علينا الابتعاد عن الحكي الشفاهي كما هو شائع وسط شريحة المتعلمين السودانيين سيما وأننا نعيش في عصر الكتابة والتوثيق ليري جيل المستقبل الدماء التي سكبت علي هذه الأرض التي "تغطت بالتعب." وأخيرا، الكتابة بها جانب شخصي، اي فيه شفاء للروح، تشفي الجروح والروح. ولدي تجربة في تعليم اللغة الانجليزية، والكتابة على وجه الخصوص هي عملية للشفاء. يا الله كم هي الحرب قاسية ولعينة، وخصوصا حينما تتخد كوسيلة للوصول للسلطة وتكويش الثروات علي حساب الجوعي، و ولكم كان رسولنا الكريم محقا حينما تمني أن يعيش بين المساكين و يحشره الله سبحانه وتعالى معهم يوم الحشر :" اللهم احيني مسكينا، وأمتني مسكينا" والله اعلم! ولم لا فقد كانت رسالة الإسلام في جوهرها موجهة الي المستضعفين والمساكين اولا قبل سادة قريش ووجهائهم. كان صباحا بهيا ولكن...! 15أبريل، 2023 كان يوميا من ايام رمضان ذات الجرعة الروحية كاملة الدسم، ويومها كنت في طريقي الي كلية كمبوني بالخرطوم شارع القصر. ادرت محرك العربة من بحري متوجها صوب الخرطوم بشارع الشهيد مطر الذي قدم نفسه فداءا للوطن ومعه فتية آمنوا بقضية شعبهم في دولة الرخاء والعدالة وما بدلوا تبديلا- رضوان الله عليهم- هؤلاء الشباب والشابات الذين يشبهون قطرات المطر المنهمر في الصباح في يوم خريفي ممطر، وعلي شهداء بلادي الرحمة والمغفرة في عليائهم السامقة. كان صباحا منعشا للروح مع الموجة الصباحية- كما قال شاعرنا الدوش. وصلت الزوادة بحري ووجدت محطة البنزين وبها عربات محدودة العدد يود أصحابها التزود بالوقود، قلت لنفسي لم لا اتزود بالوقود طالما لا توجد زحمة. حينها أدركت القول السوداني الشائع في التأخير يوجد خير كثيرا! وحقا كلما تريث الإنسان لعلي الله يكتب له خيرا كثيرا. بعد مضي دقائق للتزود بالوقود احسست ان هنالك شيء غير طبيعي يجري. تحركت نحو كبري بحري للعبور الي الخرطوم ورأيت علي يساري عسكري من الجيش السوداني قادما من سلاح الإشارة يلوح بكلتا يديه لشخص ما! وأنا بالقرب من مدخل كبري بحري، تشير إلي بعض النسوة بالتوقف وهن في حالة من الخوف والجزع . توقفت لهن وهن في حالة يرثي لها، صعدن علي العربة وهن يرددن: " كتلوهم في برج الدهب، الناس كتلوهم كتل شديد." حاولت أن اخفف عنهن حالة الخوف التي تنتابهن مع سماع صوت الرصاص المنهمر من اتجاه الخرطوم والساعة التاسعة الا ربع. يا الله كم هي لعينة الحرب! وكاننا علينا دفع ثمن القتل المجاني مئات المرات. الم ترتوي أرض النيلين من دماء الأبرياء والجوعي؟ الم يكفيها دماء شباب القيادة التي لا تزال علي الرصيف؟ الم تشبع الة الموت العمياء من دماء السودانيين؟ عشرات الأسئلة بدأت تطل براسها في تلك اللحظة ولكنها بلا إجابة! ام انها الأقدار وهذا قدرنا كما جاء في اشعار مظفر النواب : يا غريب الدار إنها أقدار... كل ما في الكون مقدار وأيام له إلا الهوي ما يومه يوم.... ولا مقدار مقدار.
جاء في الأثر ان ذو القرنين كان وحيد امه، وقد طاف الأرض من مشرقها إلي مغربها فاتحا لها، ولما وصل إلي بابل مرض مرضا تمكن من جسده وحينها احس بدنو أجله. لم يفكر في شيء سوي في الحزن الذي سوف يأكل امه وهي حية، فارسل لها مكتوبا يقول فيه : أماه هذه الدنيا آجال مكتوبة، واعمار معلومة، فإن بلغك تمام أجلي فاذبحي كبشا، ثم اطبخيه واصنعي منه طعاما ثم نادي في الناس جميعا ان يحضروا إلا من فقد عزيزا. صنعت الأم الطعام كما اوصي ابنها ولكنها تفاجأت أن أحدا لم يحضر ليتناول الطعام، فعلمت انه ما من أحد إلا وقد فقد عزيزا وحينها فهمت رسالة الإبن ومقصده، وحينما حُمل إليها تابوته قالت: لقد وعظتني فاتعظت وعزيتني فتعزيت... رحمك الله من ابن حيا أو ميتا، ثم أمرت بدفنه.
تذكرت يومها دخول حركة العدل والمساواة مدينة ام درمان في العام 2008 وحينها كانت تبحث عن العدل والمساواة التي غابت مع الخليفة العادل عمر الفاروق و"متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا؟!"، ووقتذاك كانت الحركة بقيادة الراحل خليل ابراهيم تبحث عن العدل وليس عن المال والوظائف قبالة البحر الأحمر عند جنرال تآمر علي ثورة الشباب عشرات المرات وختمها بحرب لا تبقي ولا تذر. وقتها كنت مندمجا في الدرس مع طالباتي في جامعة الأحفاد بالطابق الخامس بمدرسة اللغات. سمعت طرق خفيف علي الباب الذي كان مواربا، ذهبت ووجدت احد العمال الذي أخبرني بأن هنالك ضرب للنار بالقرب من سوق لبيبا وعلينا بالسماح للجميع بالذهاب الي بيوتهم حفاظا علي الأرواح. لاحظت ان الخوف بدأ يتسرب الي نفوس الطالبات وطلبت منهن ان يتصلن بالترحيل او ركوب المواصلات العامة والذهاب الي المنازل ولن يصيبهن مكروه وتمنيت للجميع السلامة. امطتيت عربتي ومعي بعض الزملاء صوب بحري. شارع العرضة بأم درمان يعج بالبشر الراجلين وبالعربات الخاصة والعامة، لان اليوم كان يوم عمل. لحظة خروجي من البوابة الجنوبية للجامعة التي تطل علي استاد المريخ لاحظت الخوف علي عيون الناس والكل يهرول مسرعا للوصول إلى بيته؛ طلاب وطالبات المدارس، وعلي طريقة يوم يفر المرء من أمه وابيه! والحق يقال أن القوات التي دخلت ام درمان ممثلة في حركة العدل والمساواة لم تقم بالاعتداء علي المواطنيين العزل. وصلت الي بلدية ام درمان والرصاص من ورائنا وحينها سقط مقذوف من سلاح كبير علي مبني البلدية. وصلت الي الملازمين وعند مدخل كبري شمبات كانت هنالك قوة من جهاز الأمن والمخابرات في انتظار القوة الغازية. عبرت كبري شمبات وصولا الي بحري، وصلت الي البيت وليس كما قال الشاعر الكبير محمود درويش : "الذهاب إلى البيت أجمل من البيت" بل البيت يومها كان أجمل من رحلة الذهاب إليه! تكلمن معي بعض النساء عند مدخل كبري بحري علي المعركة التي دارت في الخرطوم بين الدعم السريع والجيش السوداني، واظن انهن استيقظن باكرا، الم يقل محمد الماغوط، وحدهم الفقراء يستيقظون مبكرين قبل الجميع حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد! وطلبن مني أن اوصلهن الي كافوري - قلت لنفسي ولم لا لعل الله يجزيني خيرا ويضعها في ميزان حسناتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون- وليس علي طريقة سدنة الإسلام السياسي الذين يكنزون الذهب والفضة ويذهبون بها الي تركيا وماليزيا وينسون اليوم الذي تكوي به الجباه بتلك الفضة التي جمعت علي حساب الجوعي والعطشى، ولم تنفق في التعليم، والصحة وما يعود بالنفع علي الإنسان الذي كرم في البر والبحر. يتبع
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة