في كتابه (فتح دارفور سنة 1916 م ونبذة من تاريخ سلطانها علي دينار) ذكر البكباشي حسن قنديل، أحد الضباط المصرين الذين شاركوا في تقويض عرش السلطان على دينار، وإحتلال مدينة الفاشر، ذكر: "ولقد فاتني أن أذكر السبب الرئيسي للفشل الذي حل بابن دينار، وهربه: عند اقترابنا من عاصمة ملكه كان في تصميمه أن يعتصم بالبلد، ويخندقها، ثم يلقانا بكل ما يملكه من حَول وطَول، إلا أن أمراءه وذوي شوراه عقدوا مجلسًا قرروا فيه بعد مناقشة حادة قتالنا خارج البلد «العاصمة». وقد كان ذلك بقرار الأغلبية، وعلى الأخص قائد جيشه العام المدعو «رمضان واد بره»، الذي تبعه في قراره هذا بقية الأمراء الذين يعتمد عليهم، كالخليل وسليمان، وغيرهما. وقد أقسم الجميع على المصاحف بأنهم لن يعودوا إليه إلا والنصر مكلل على رءوسهم أو يموتوا فداءً لسيدهم."
منذ صبيحة يوم 23 مايو 1916م، حين فقد فاشر السلطان سلطانها، جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وظلت الحقيقة، إن المدنية، لم تذق طعم الحرية كاملة، ولا غرو، فقد بادر أهالي الفاشر بحرق العلم الإنجليزي في 2 فبراير1952م كسابقة وطنية نحو "التحرر"، توج ذلك الحراك الوطني بمغادرة المستعمر الإنجليزي ـ المصري أراضي البلاد في يناير 1956م، تاركا وكلائهم المخلصين يحيكون الدسائس، ويمارسون الاستعلاء، ضد أبناء غالية الشعوب السودانية الأصلية.
منذ ذلك التاريخ الموسوم زورا وبهتانا بتاريخ الاستقلال إلى يوم الناس هذا، تشكلت عشرات الحركات المسلحة باسم تحرير السودان، في معظم ربوع البلاد، رافعة السلاح في وجه الدولة المركزية (وريثة المستعمر) بحكم وضع اليد، ولم تجئ هذه التسميات اعتباطا أو عبثا، وإنما تعبيراً عن شعور صادق، إن هنالك عملية غش وتدليس حدثت، إثناء عملية تنكيس علم المستعمر الأجنبي، ورفع علم وريثه الوطني.
من داخل ردهات قصر السلطان الشهيد على دينار، حاك ورثاء المستعمر، أبشع سيناريوهات التنكيل بأبناء السلطة، ونفذوا إبادة جماعية ضد أهاليها العزل، شهد العالم على بشاعتها، بمساعدة أيدي آثمة لرقيق المنازل من أبناء السلطنة بكل أسف.
ومن سخرية الأقدار، أن بعض قيادات ما سميت نفسها "حركات تحرير السودان"، الآن تستبسل للإبقاء على فاشر السلطات تحت رحمة دولة-56 ورثية الاستعمار، ظننا منهم أن هذا المسلك، سيضمن لهم نصيبا من كعكلة السلطة المتداعية، في موقف يرثى له،
يوازي هذا الموقف المخزي، هنالك قوى ثورية أخرى، تمنى نفسها بورثة وريث المستعمر، دون تضحيات تذكر، بينما تعيش مدينة فاشر السلطان منذ عدة أشهر تحت الحصار المطبق من قوات الدعم السريع، ولا نظن هنالك ما يعصم جحافل اشاوسها، من دك قيادة الفرقة السادسة مشاة، إلاّ إيفاءً بالعهود التي قطعتها قياداتها للمدينة، والتزاماً بكلام "رجال"، لا يخلو كلامهم من لجاجة، ولا نظن أن إلتزام قيادات الدعم السريع، بعدم تحرير فاشر السلطان من قبضة الفرقة السادسة، بقوة السلاح، مراعاةً لأعداد وأوضاع النازحين بهوامش المدنية، حسبما هو معلن، إلتزاما على بياض.
فالرمال متحركة ومتقلبة في شوارعها الحزينة، والمشاهد تمور بعنف في بقية أرجاء البلاد، والمجتمعين الإقليمي والدولي، لم يصمتا لحظة عن تناول الشأن السوداني، والحسابات الحربية والتواقيت العملياتية، جميعها لها منطقها، كل هذه الأثقال، تجعل نبض قلب المدنية مضطربة، وليس بالإمكان أن يغض لها جفن، ولسان حالها يقول "كتلوك، ولا جوك جوك". اللهم جنب فاشر السلطان "التكلة"، وكذلك بقية مدن السودان، اللهم اجعل تحررها من أيدي القتلة المستبدين حينا لينا.
ما يدهش المتابع، الغياب التام لاعيان المدنية التاريخية العريقة، لا حس لهم ولا خبر، يبدو أنهم جلسوا القرفصاء مشدوهين، منتظرين الأقدار، بين فرقة مشاة معزولة، تضر ولا تنفع، وغير مرغوب فيها، وشظايا حركات التحرير تائهة، تطلع إلى التحرير ونقيضه، وحصار "أم زريده" من قوات الدعم السريع، لا يقل فتكا بأهالي المدنية على المدى البعيد من نيران المدفعية الثقيلة، والمدينة ترتعد فرائسها من المصير المجهول.
رغم التعهدات، إن أصرت الفرقة السادسة مشاة على الاعتصام بالمدنية، فالمواجهات العسكرية لا محالة واقعة، وإن تنامت أطماع فصائل حركات التحرير على الوراثة الشرعية أو "الكيري"، أيضا نظن من الصعوبة تفادي المواجهات، ولكن بكل تأكيل، إن اندلعت الاشتباكات لا سمح الله في شوارع الفاشر، ستكون مختلفة، لتعقيد المشهد.
قناعتنا ليست للفرقة المعزولة، ولا الحركات المسلّحة المتكلسة ثوريا ما يقدمونها للمدينة، لا امنيا ولا معيشيا ولا وسياسيا، ببساطة لان فاقد الشيء لا يعطيه، حركات أجهضت ثورة ديسمبر، مع سبق الإصرار والترصد، وقوضت الحكومة الانتقالية، وهي الخطوة الإجرامية التي مهدت للحرب الحالية، ثم ما برحوا يذرفون دموع التماسيح على ضياع البلاد، وتشريد العباد!
ورشة القاهرة الأخيرة، ما هي إلاّ محاولة، للفت الانتباه لوجود حركات تم تهميشها في اتفاق جوبا للسلام، وهنالك من له مصلحة في تقويتها، على حساب الحركات الكبيرة، التي تخندقت ضد التحرر.
وما لم تحدث مفاجآت على بقية مسارح العمليات، نظن أن الدعم السريع سيترك مآل "حيرة" فاشر السلطان، لمفعول الحصار المحكم، وعلى أعيان المدنية، التحرك لتحديد مصيرهم، قبل فوات الأوان.
اللهم جنب البلاد المزيد من الموت والدمار، أهدي العباد سبل الرشاد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة