لعبت قصائد الأغنية الوطنية دوراً مهما في تاريخ السودان وارتبطت بالنضال الوطني ضد المستعمر في بداياتها، وكانت خير معين في غرس القيم الوطنية والنضالية في نفس الإنسان السوداني .
ولكل أمة من الأمم شعراء وأدباء يفتخرون بهم ، فهم صوت وجدانها ومشاعرها ، ولا سيما أولئك الذين يتغنون في حديقة الوطن بنبض الإبداع و فيض الخواطر لينثروا مداد الحروف المتلألة لتتلى في صحف منشرة بأيدي كرام بررة .
من أمدرمان عاصمة الوطنية والصمود ، شاعر تواءم مع ظرف الزمان وجغرافية المكان فأنتج شعراً خالداً، طبع بصماته الخالدة في ذاكرة المجتمع السوداني ، وهو صاحب القصيدة الغنائية الشهيرة : " في الفؤاد ترعاه العناية" . شاعرنا: يوسف مصطفى التني (1907-1969)، الذي ولد عام 1907م بمدينة أم درمان «حي ود نوباوي»، وتخرّج في قسم الهندسة بكلية غردون عام 1930م، وعمل مهندساً بعد تخرجه مباشرة، ثم عمل ضابطاً في الجيش عام 1942م حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م. ثم عمل بالخدمة المدنية والتحق بالسلك الدبلوماسي. زاول مهنة الصحافة ورأس تحرير جريدة الأمة 1945م ـ 1947م ، وأصبح سكرتيراً لتحرير جريدة الفجر. كما عمل سفيراً بوزارة الخارجية وسفيراً لجمهورية السودان بجمهورية مصر العربية وإثيوبيا والسعودية ويوغسلافيا. ترك لنا الشاعر "التني" إنتاج أدبي رصين : ديوان شعر بعنوان "الصدى الأوّل" (1938)، "ديوان التِّنَيّ " (القاهرة 1955)، ويحمل في طياته "الهوى الأول"و"السرائر"، وافته المنية بمسقط رأسه أمدرمان سنة 1969. تنقل شاعرنا في وظائف متعددة كان لها أكبر الأثر في تكوين شخصيته الأدبية ، وهو من جيل الشعراء المبدعين، الذين عملوا من أجل استقلال السودان، فقصيدته المشهورة “في الفؤاد ترعاه العناية”؛ التي ابتدرها بهذا الإيمان الراسخ، بأن جعل أمر الوطن وحفظه ورعايته من صنع المولى عز وجل (يد العناية الإلهية)، فلم يكن عندهم شيء أعظم من (إن شاء الله تسلم وطني العزيز).
وقد ألهبت القصيدة الشعور الوطني، وأيقظت ضمير الأمة الوطني وأجَّجت نار الثورة ضد المستعمر حتى سُجن بسببها:
في الفؤاد ترعاه العناية بين ضلوعي الوطن العزيز لي عداه بسوي النكاية وإن هزمت بلملم قوايا غير سلامتك ما عندي غاية إن شاء الله تسلم وطني العزيز *** مرفعينين ضبلان وهازل شقوا بطن الأسد المنازل نبقى وحدة كفانا المهازل نبقى درقة وطني العزيز ***
حوى النص مضامين كبيرة تدعو للوحدة وضمّ الصفوف في مواجهة الاستعمار البغيض: نبقى وحدة كفانا المهازل نبقى درقة لوطني العزيز
وتضمن النص دعوة لنبذ عصبية القبيلة ومناجاة لتوحيد الهوية السودانية : ما بندور عصبية القبيلة تربي فينا ضغائن وبيلة تزيد مصائب الوطن العزيز
رحم الله هؤلاء الأفذاذ من جيل الرواد رحمة واسعة ، فقد كانوا أكثر فهماً ووعياً بما يحاك ضد الوطن ، بل كانوا أكثر حرصا منّا بوحدة الوطن، وسلامته من التمزق والتشرذم: (نحنا للقومية النبيلة…ما بندور عصبية القبيلة..تربي فينا ضغائن وبيلة..تزيد مصائب الوطن العزيز…كأمة واحدة بوطني العزيز) .
ارتبط شاعرنا بجيل الرواد الذين سطروا أروع العبارات في حضرة الوطن وتحديداً في حقبة المستعمر، فقد انتج شعراء هذ الحقبة أدباً إنسانياً رصيناً، منافحاً للمستعمر الذي تمقته الشعوب ، واشتهرت من أغنيات الكفاح الوطني لشاعرنا أغنية: يا غريب يلا لي بلدك يلا لي بلدك سوق معاك ولدك لملم عددك .
شاعرنا من شعراء السودان الذين اتسموا بالرصانة والتمكن التّام من أدوات اللغة العربية وبحور شعرها، وعندما نتصدى لبعض أعماله الشعريّة تتفتق الكلمات رصانة، وتتوهج العبارات جزالة ، وموسيقى شعره تطفح بين القوافي وفوق هذا وذلك يؤثرك تصوير وخيال بديع :
وطني شقيت بشيبه وشبابه زمناً سقاك السم من أكوابه قد أسلموك إلى الخراب ضحية واليوم هل طربوا لصوت غرابه؟ وطني تنازعه التحزب والهوى هذا يكيد له وذاك طغى به ولقد يعاني من جفا أبنائه فوق الذي عاناه من أغرابه
بلا شك الوطن يتمتع بمكانة كبيرة وغالية في قلوب كافة البشر، فقد خلق الله تعالى الإنسان وهو مفطور على حب الوطن، فوطن لا نحميه ولا نكون في قامته.. لا نستحق العيش فيه، فعندما نقرأ قصيدة شاعرنا يوسف مصطفى التني :
وطني يعـيثُ بـه العدوُّ ولا ترى مِنْ دافعٍ عن حَوْضه ورِحابه وإذا انبرى ليذودَ عن سُودانهِ ألبارعُ المِقْدام من كُتّابه لم يعدمِ الشرُّ الدخيلُ جماعةً لتُرتّلَ الأمداحَ فـي محرابه وطني أُصيبَ بمعشرٍ آواهمُ وأظلَّهم فسعَوْا ليوم خرابه لو طُهِّر السـودانُ من دخلائهِ لتَطهّرَ السودانُ من أوشـابه لهفي على السودان من دخلائه لهفي على السودان من أحزابه
وكأن التاريخ لم يمض أصلاً ! فقصيدته بكائية ومرثية من أجل عيون الوطن، وقد عالجت فترة تاريخية مضت ، لكنها عكست بجلاء بمرآة اليوم ما نحن عليه من البلايا التي لا تعد ولا تحصى، فالتاريخ لا يعيد نفسه على اعتبار أن الأحداث لا تتكرر حتى وإن بدت متشابهة في تفاصيلها، ولكن نحن نكرر التاريخ عندما نفشل في التعلم من الماضي.
وطن الجدود نِعم الوطن.. خيراته كم يتدفقن آن الآوان أن نُُمتحن في سبيلو لا نطلب ثمن
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة