ليست الحرب المُجيّشة ضد فلسطين في غزة بدعم أمريكي أوروبي صريح وسخي، هي طائرات مدمرة ومدرعات حصينة وقنابل قاتلة فسفورية وانفجارية من كل نوع وجنس وازنت في قدراتها التدميرية القنبلة النووية التي ألقيت في هيروشيما وناجازاكي في اليابان إبان الحرب العالمية الثانية؛ بل إن أدوات ووسائل الحرب بدت أبشع من كل ذلك بكثير، فإن كانت تلك وسائل خشنة، فهناك وسائل ناعمة معنية بتجريف واحتلال العقل وتوسيع مجال المستهدفين ليشمل كامل الأمة العربية والإسلامية وكل من تحدثه نفسه من شعوب العالم بالتعاطف ودعم الحق الفلسطيني وإدانة الطغيان والجبروت الإسرائيلي والغربي، وتمثل ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي الرئيسية في العالم مثل فيس بوك، وتيك توك، وتويتر وغير ذلك، وهي تحت سيطرة ومُلك الطاغوت الدولي الداعم لدولة الكيان الإسرائيلي. وقد غدا عالم اليوم يحاكي رواية جورج أورويـل 1984، التي روت قصة أمة ترزح تحت نير نظامٍ سياسيٍّ يدعو نفسه «زورا» بالاشتراكية (الحُر)، وتملك زمام هذا النظام (العولمي) نخبة أعضاء الحزب الداخلي الذين يلاحقون الفردية والتفكير المغاير بوصفها جرائم فكر. تُجسَّد (الدولة الأعظم) طغيان ذلك النظام، وهي دولة (قائدة) تحكم كزعيم لا يأتيه الحق من بين يديه ولا من خلفه، وإن كان ثمة احتمال أنه لا وجود له. يسعى الحزب للسلطة (الهيمنة) لا لشيءٍ سوى لذاتها، لا لمصلحة الآخرين. أما بطل رواية أورويـل هو (وسائل التواصل الاجتماعي) فهو عضو في الحزب الخارجي وموظفٌ في وزارة الحقيقة المسؤولة عن الدعاية ومراجعة التاريخ؛ وعمله إعادة كتابة المقالات القديمة وتغيير الحقائق التاريخية بحيث تتفق مع ما يعلنه الحزب (الطاغوت الدولي) على الدوام. اليوم تمنع إدارات فيسبوك وتيك توك وغيرها انسياب حقائق الحرب على غزة وتضع القيود والمتاريس على الرأي الحر. وتمضي تغلق الحسابات (المتمردة) وتحذف كل ما لا يروق لها ويمثل تهديدا ومقاومة لاحتلال العقول وفرض دعاية حربية ورواية أحادية تقنن وتجمّل الإبادة الجماعية التي تقوم بها دولة الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين وغزة. حدثني أحدهم أن تيك توك حذفت دعاء كان قد ردّ به على فلسطيني ملتاع طالبا من متابعيه الدعاء له، فجاءت لصاحبي رسالة من تيك توك تقول له ان مساهمته حذفت لأنها تشتمل على (عنف) وتتعارض مع الضوابط. وقال انه كان قد كتب داعيا: (اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا). ليس مطلوبا من جماهير العالم الثالث أن تتعاطى وتتبادل الرأي الحر ولا حتى الدعاء بالنصر، لأنها بذلك تعارض (الحقيقة) المصممة في الدوائر العليا في دولة (أوريل) الحاكمة عالميا؛ إنما المطلوب فقط أن تستخدم تيك توك وصويحباتها للتسويق والترويج الإعلاني والتجاري لمنتجات العالم الأول في أسواق العالم الثالث. فاحتلال العقل يبدأ مـن إعلان لمنـتج تجاري إلى دعايـة سياسية وحـربية مـدمرة. المطلوب استسلامك وخضوعك وقبولك وأنـت في قمة الرضا. ومـن أجـل منـع الآخر من الوصـول إلى أي أفكـار مناهضـة غـير مطلوبـة أو وجهـات نظـر أو مشاعر أو أفعال لا يوافـق عليهـا الطاغوت، يـتم منـع اسـتخدام تعابير وكلمـات محددة. ومن المعروف أن الكلمات تعـبر عـن الأفكـار والمشـاعر، وأن هـذه الأفكار قادرة على تحريك الأفعال. إذن حين تـتم السـيطرة عـلى الكلـمات يمكن السيطرة بالتالي على الأفكار والمشاعر والأفعال. هناك جهود مكثفة ومسـتمرة لتقليـل مـن ثقـة الآخر بنفسه وخلـق إحساس بالعجز والضعف. بل أكثر من ذلك يجبر على الاعتقاد بأن (الطاغوت) يعرف ما هو خير له وأنـه عـلى صواب دائمـا وأن الفـرد (الآخر) مخطئ وعليـه نبـذ قناعاتـه السـابقة والثقة بذلك الطاغوت الذي لا يأتيه الباطل مطلقا. كان مـن المفترض أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي وسـيلة لتطـور العقـل الــبشري بيد أنها أصــبحت الوســيلة المــثلى لغســيل الــدماغ بــما يخــدم الأهــداف السياسية الطاغوتية. وكان من المفترض أن تكسر هذه الوسائل احتكار الشركات التجارية الكبرى لاسيما الإعلامية الكبرى التي ظلت الأداة الباطشة للطاغوت الدولي. إن تيك توك وصويحباتها ظللن يمُدّنّ ألسنتهن كمنتصر غاصب وقد تجبّر وافترى؛ فعلاوة على توحشهن السياسي لكونهن أدوات حرب فهن غاصبة لفكرنا وانتباهنا، وقد ورطن المستهدفين في عالم افتراضي يموج فضاؤه بصراعات الشركات وإعلاناتها، وافتراء الأيدلوجيات المعادية ودعاياتها السوداء، وفوق كل ذلك يمثلن فضاء تسرح وتمرح فيه شياطين الإنس مبشرة بكل ما هو هادم للقيم، تروج بضاعة مزجاة قوامها الجنس والمخدرات وكل فكر منحل. وقبل أن تدوي هزيمة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هناك خطوات ضرورية لتقويض ركائز احتلال العقل وتجريفه، بتطبيق ونشر نهج التربية الإعلامية، وهي سلسلةٌ من الكفاءات الإعلامية مع قدرةٍ على الوصول والتحليل والتقييم والتواصل. فهي تتيح للأفراد لاسيما النشء ليكونوا مفكرين ناقدين لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي. وتعرّف اليونسكو التربية الإعلامية والمعلوماتية بأنها: «الكفاءات الأساسية التي تتيح للمواطنين التعامل مع وسائل الإعلام على نحو فعّال، وتطوير الفكر النقدي ومهارات التعلّم».فالتربية الإعلامية باختصار تُعني بمهارة التعامل مع وسائل الإعلام واتقاء شرورها المتناسلة بكثافة. وباختصار تكمن أهمية التربية الإعلامية في أنها تتيح للأفراد اكتساب المهارات والخبرات التي تمكنهم من فهم الكيفية التي يشكل بها غول الإعلام إدراكهم، بل أكثر من ذلك، وهو إرفادهم بكل ما يعينهم على المشاركة في صناعة المحتوى الإعلامي وتعديل اعوجاجه ليتماشى مع أخلاقيات المجتمع وقيمه وقوانينه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة