من حرب خاطفة تعيد الابن العاق لحظيرة الأسرة، أو على الأقل تحييده وتحول دون ارتمائه كليا في أحضان المعسكر الخصيم، إلى حرب استنزاف قد تطول لعقد من الزمان. اليوم الجبروت الروسي وكبرياء القيصر في محك وتحدٍ كبيرين. في 24 فبراير 2022، أبتدرت روسيا عملية عسكرية في أوكرانيا، لمنعها من خطط الانضمام إلى حلف النيتو، وهو ما اعتبرته موسكو تهديدا لأمنها الإستراتيجي. اليوم ومع تصاعد الدعم العسكري النوعي الأوروبي – الأمريكي قفز من الأسلحة الدفاعية إلى الأسلحة الهجومية، فقد بدا للمراقب العادي أن كفة الحرب تميل لصالح أوكرانيا التي تجرأت على ضرب العمق الروسي، فيما تتراجع القوات الروسية في عدد من المحاور. بيد أن سلوك الدب الروسي لا يمكن التنبؤ به، ومع تباشير الشتاء الذي طالما انحاز تاريخيا إلى جانب الروس، حيث دأب ضباط نازيون على تسمية الشتاء الروسي بـ”الجنرال جليد”. إذ يمثل الشتاء مختبرًا للأطراف المتصارعة في أوكرانيا؛ فهل يعبر بوتين نهر الروبيكون؟، وعبور هذا النهر الإيطالي يعني في الأمثال الروسية الإتيان بفعل حاسم يتجاوز كل التوقعات، ففي عام 49 قبل الميلاد، حين اشتعلت الحرب الأهلية بين يوليوس قيصر وبومبيوس الكبير في روما، عبر القيصر الروسي وجيشه ذلك النهر الشهير فمضى الأمر مثلا. إن هذه الحرب الدائرة اليوم أثبتت تطوراتها حالة عدم اليقين فيما يمكن أن تُقدم عليه موسكو؛ فقبل اندلاع الحرب، قيل إن بوتين لن يهاجم أوكرانيا وسيكتفي بإطلاق التهديدات، لكنه فعل، وقيل أيضًا إنه لن يطلق التعبئة العسكرية، لكنه فعل، وتم استبعاد تكرار سيناريو شبه جزيرة القرم، لكن الجيش الروسي اقتطع أجزاء كبيرة من أوكرانيا وضمها إلى روسيا. وبينما لم تحقق روسيا أهدافها من الحرب بعد، كذلك لم تتمكن أوكرانيا، رغم الدعم والإسناد العسكري الذي لم تحظ به أي دولة تخوض حربا مثيلة، تحرير الأراضي التي ضمتها روسيا. وكانت روسيا قد سيطرت على مساحات شاسعة من منطقتي خيرسون وزابوريجيا في الجنوب، بما يشمل المفاعل النووي هناك، كما تسيطر تقريبا على كل لوغانسك وعلى نحو نصف دونيتسك، أي أنها لا تزال تسيطر على نحو 20% من مساحة أوكرانيا. وروسيا التي تشهد تراجعا وتقهقرا نسبيا لم تكن تضع في حسبانها الدعم الغربي غير المسبوق ولم يقف الدعم عند السلاح العسكري المتقدم، بل شمل عناصر وميزات تفتقدها روسيا ولم تضعها في حسبانها وخططها الحربية؛ فعناصر الدعم شملت قوة دفعها الضغوطات الاقتصادية والاعلامية والدبلوماسية فضلا عن العسكرية والتي يتم توظيفها مجتمعة بالتزامن، حيث إن التفاعل بين هذه العناصر يغطي على أي نقص في أي عنصر حتى لو كان العنصر الأهم وهو الجانب العسكري. لقد استطاعت الدبلوماسية والإعلام في المعسكر الداعم لأوكرانيا (الولايات المتحدة وأوروبا)، رسم وتشكيل صورة لروسيا باستخدام «سياسة عدم الاستفزاز» بحيث لا تدخل روسيا في حرب عالمية يكون لها فيها فرصة لاستخدام أسلحتها النووية وهذه قدرة لا يمكن الجزم بنجاحها بشكل دائم. ومن يتابع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يلاحظ كيف يستخدم التأطير العقلي والتلاعب اللغوي في بث رسائل غير مباشرة. ونتيجة لهذه السياسة تبلور ما يمكن تسميته بـ»الموقف الدولي» حيث ظل الناس يميلون لتصديق الأخبار التي مبعثها دولة ذات سلطة ونفوذ سياسي وتعتبر الولايات المتحدة أكثر الدول التي تملك مثل هذه القوة والتأثير. لقد جعلت القوة الأمريكية من الإعلام أداة لاستراتيجياتها الدبلوماسية من خلال مناهج تغطية مسار الحرب الروسية وقرارات بوتين من خلال الدبلوماسية الإعلامية الأمريكية. إن العالم غير القابل للاستقطاب لأي من طرفي هذه الحرب يتطلع لنهاية ترسي دعائم التوازن العسكري وتحول دون الأحادية القطبية. المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ساعٍ بقوة لنهاية تمنع روسيا من أن تكون طرفا في هذا التوازن بل تستهدف أن تكون قطبا أوحد وبجانبها الحلفاء الأوروبيون. وبالنسبة للمنطقة العربية فيجب أن تعلم أن استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي في مجملها تصب في مصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى، وربما بدرجة أقل ضمان استمرار تدفق الطاقة. إن هناك حقائق لابد أن تكون حاضرة لأصحاب القرار العالمي إن أرادوا إيقاف هذه الحرب وتجنيب العالم مخاطر الانزلاق في أتون حرب نووية شاملة تمثل نهاية العالم أجمع. إن استمرار صمود الجيش الأوكراني الذي يبدو قائما على الدعم العسكري الغربي الذي اقترب من حدود استفزاز الدب الروسي، كما أن ذلك يؤكد أن كييف غير قادرة على تسليح نفسها بنفسها، وهو ما يطرح سؤالا ملحا وهو إلى أي حد تستطيع دول الغرب الاستمرار في تسليح أوكرانيا، لاسيما في ظل الضغط الذي أصبح يواجه المخزون الاحتياطي لحلف النيتو؟. ومع فرضية استمرار هذا الدعم فإنه غير قادر على إلحاق هزيمة بروسيا، وإن طال أمد الحرب فإن الوقت سيكون لصالح موسكو، مع قلق أوروبي متزايد من انتقال الحرب إلى المواجهة المباشرة مع روسيا. إذن فإن الحل القائم على المعادلة الصفرية وسحق الآخر، لا يبدو واقعيا ولا ممكنا لكلا الطرفين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلفاؤها من جهة أخرى. ولا تظن واشنطن أن هزيمة روسيا يعني القضاء عليها، لأن الهزيمة التي تعرضت لها هي في الحرب الفيتنامية سنة 1954 وكانت ضربة قاسية لها، لم تمنعها من أن تستمر باعتبارها قوة عظمى. لا بديل لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية إلا الحل الدبلوماسي، وربما يكون على أوكرانيا إن أصرت على أن تكون جزءًا من النيتو، أن تقبل بالتخلي عن (بعض) أراضيها باعتبار ذلك خيارا قد تقبله موسكو.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة