(١) ينشغل الناس - وهم محقين- سقوط سلاح المدرعات في ايدي الجنجويد ، وظهور قائد الانقلابات العسكرية المزمن خارج مخبئه في القيادة العامة للجيش بعد هذا السقوط مباشرة. ولكن هذا الانشغال ، يجب الا يحجب القضية الرئيسية وهي الحرب نفسها واهدافها بالنسبة للطرفين المتحاربين. فالطرفين المتحاربين نجحا بلاشك في عسكرة الصراع السياسي وتحويل الحدث الرئيس من شارع ناشط لاسقاط انقلابهما الثاني في اكتوبر ٢٠٢١م، الى حرب مدمرة اوقفت الحراك السياسي السلمي وقطعت الطريق امامه مجددا ، لفرض اجندة احدهما في حال انتصاره، او فرض وجودهما معا كطرف اصيل في المعادلة السياسية. فاندلاع الحرب العبثية بالنسبة للمواطن السوداني ، كان فعلا ذو اهداف بالنسبة لطرفيها. فكل طرف كان يسعى لتحقيق انتصار يعطيه اليد العليا عند الجلوس لاستكمال الاتفاق الاطاري ، في حال لم يمكنه من طرد الطرف الاخر بصورة نهائية من الساحة السياسية حتى ينفرد ب (قحت) ويفرض عليها شروطه. الجيش المختطف كان مختطفوه من الاسلاميين يتوهمون انهم قادرين على هزيمة الجنجويد في سويعات، ليفرضوا جناحهم السياسي المعزول على (قحت) بدلا من الاكتفاء بجناحهم الامني العسكري الممثل مع الجنجويد في اللجنة الامنية للانقاذ ، والجنجويد توهموا بأنهم يستطيعون تحقيق انتصار يجعل من (قحت) واجهة لهم تسمح بغسل ادرانهم وتسويقهم كشركاء في السلطة بتغطية مدنية تعمل كواجهة لسلطتهم وتقوم بتعويمهم دوليا. (٢) الان وبعد تقدم الجنجويد عسكريا وسيطرتهم على معظم العاصمة القومية والعديد من معسكرات الجيش المختطف، تأكد لهم وللقوى الراعية لهم ، ان امكانية تحقيق انتصار شامل يغطي كامل مساحة البلاد، ويتيح لهم التحول الى سلطة فعلية مستقرة بواجهة مدنية ، امر بعيد المنال. فبالرغم من النجاحات العسكرية التي حققتها هذه المليشيا المجرمة ، فهي غير قادرة على التحول الى سلطة مستقرة، بحكم بعد قاعدتها الاجتماعية عن المركز، وبحكم الكراهية التي كرستها عبر جرائم الحرب التي ارتكبتها، وحكم العزلة الحتمية التي ستتعرض لها بعد انتهاء الحرب، وصعوبة تمرير عملية الاحلال والتغيير الديمغرافي الذي انتهجته في دارفور بالعاصمة القومية. يضاف الى ذلك عدم قدرتها على تمديد انتصاراتها العسكرية لتشمل كافة البلاد، واستحالة تحولها الى حكومة مقبولة ومعترف بها دوليًا ، في ظل رفض مغلظ من جمهورية مصر ، ورغبة دولية في استثمار الانهاك الناتج عن الحرب في فرض العملية السياسية والشراكة مجددا. (٣) ايضا الهزائم الكبيرة والمتكررة للجيش المختطف من قبل الاسلاميين ، ووجوده في حالة دفاع منذ اندلاع الحرب عن مقراته وقيادته، والتي اخذت في التناقص يوما بعد يوم، حتى وصل به الامر الى فقدان اهم اسلحته سلاح المدرعات، حيث حشد الاسلاميين نخبة مليشياتهم غير الشرعية التي تقاتل بإسم الجيش علنًا ، اوضحت لقيادة الجيش واجهة الاسلاميين واداتهم الانقلابية ، ان إمكانية تحولهم من الدفاع الى الهجوم - ناهيك عن الانتصار- مشكوك فيها ان لم تكن مستحيلة في ظل الظروف الراهنة. فالاسلاميين المسيطرين على الجيش بلغوا ذروة سنام قدرتهم على الحشد والتعبئة، وفشلت نخبة مليشياتهم في الحفاظ على سلاح المدرعات بكل رمزيته وكل اهميته، وحملات الاستنفار التي قاموا بها لم تنجح في تضليل العدد المتوقع من المواطنين ، بالرغم من حالة الرعب التي خلقتها مليشيا الجنجويد المجرمة، وعزلة الجيش المختطف اصبحت واضحة لكل ذي عينين. وفوق ذلك وبالاضافة اليه، كانت خسائر الجيش كبيرة في المعركة ، وقدرته على التعويض محدودة جدا خصوصا بعد فقدانه للتصنيع الحربي وللمدرعات ولجميع معسكراته في الخرطوم، وسيطرة الجنجويد على شرق النيل وبحري ما عدا جزء من سلاح الاشارة، وعلى ام درمان القديمة كلها تقريبًا ، ووقوع جميع ما تبقى من معسكرات تحت حصار الجنجويد الخانق وهي في حكم الساقطة عسكريا وفي انتظار السقوط الفعلي في اي لحظة. (٤) الوضع الموصوف اعلاه ، هو توازن ضعف ووضع انهاك انتظره المجتمع الدولي منذ بداية الحرب لفرض شروطه. فجولات جدة التي انتهت بالتوقف او الايقاف من قبل الوساطة، توقفت بسبب عدم استعداد الاسلاميين المختطفين للجيش بتقديم التنازلات المطلوبة، ومحاولتهم الفجة لاستثمار الحرب لانتزاع اعتراف دولي بهم كسلطة امر واقع وتسمية ما قامت به مليشيا الجنجويد بالتمرد، وفشلوا بالطبع في ذلك، ولكنهم واصلوا توهم قدرتهم على تحسين وضعهم التفاوضي بتحقيق بعض الانتصارات العسكرية ومحاولة تحويل الحرب الى حرب اهلية عبر الاستقطاب القبلي والاستقطاب المضاد من قبل المليشيا. وهو امر يدل بوضوح على مدى الانيميا الاجتماعية والعزلة التي يعاني منها طرفا الحرب ، وفشلهما المزمن في استقطاب مؤسسات المجتمع المدني الحديثة، الذي الجأهما الى توسل مؤسسات المجتمع الاهلي للاستمرار في الحرب. فوضع الانهاك الماثل ، هو الوضع الامثل ليفرض المجتمع الدولي شروطه وعمليته السياسية ، مستصحبا نتائج الحرب التي كسرت قرن الحركة الاسلامية ، وسهلت فرض الاتفاق النهائي على جناحيها المدني والعسكري، بدلا من الذراع العسكري الامني الذي قبل الاتفاق الاطاري و اجبره الجناح المدني على اشعال الحرب لمنع ابرام الاتفاق النهائي للخلل في التوازن الذي خلقه خروج المليشيا عن طاعة الحركة الاسلامية. والمعلوم هو ان المليشيا موافقة على الاتفاق الاطاري وعلى استكماله باتفاق نهائي، لأنه يوفر لها عملية غسيل تحافظ على مكتسباتها العسكرية والاقتصادية وتحميها من المحاسبة وتسوقها دوليًا بمستوى يوفر لها قبولا دوليا عاما لا دعما من دول محدودة في ظل عدم اعتراف دولي بها. (٥) في ضوء هذه المعطيات، مقروءة مع ان قائد الانقلابات المزمن كان محاصرا حصارا محكما لا يمكن معه الهروب او التسلل، يكون خروجه مؤشرا واضحا فصفقة تمت مع المجتمع الدولي الذي يسر له الخروج. وهذا يعني اننا سنشهد عودة الى العملية السياسية لابرام الاتفاق النهائي الذي رفضته الحركة الاسلامية ، وسنشهد شرعنة للجنجويد وقبول على مستوى دولي بعد ان كانت شرعيتهم قانونية ثم دستورية بواسطة الوثيقة الدستورية المعيبة ، كذلك سنشهد وضعا متميزا لهم خلف الواجهة المدنية القديمة الجديدة ، وستتم المحافظة على مكتسباتهم الاقتصادية كاملة غير منقوصة، ولن تتم محاسبتهم ولا محاسبة قيادة الجيش غير الشرعية على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكباها ، وسيعترف بهما طرفا اصيلا في المعادلة السياسية فعليًا ، مع الترويج الى ان الاتفاق النهائي اعاد الجيش للثكنات وقنن دمج الجنجويد، وستقبل قحت شراكة دم جديدة على اساس عفى الله عما سلف برعاية دولية، وسوف توافق قيادة الجيش على اصلاح الجيش ولكنها ستصر على ان تصلحه هي بنفسها كالعادة حتى تمنع اصلاحه، لكن هزيمتها العسكرية ستعطي الجنجويد الكلمة الفصل في مثل هذا الاصلاح، وتجعل للمليشيا فعليا تحكمًا اكثر في الجيش المهزوم. (٦) هذه التسوية القادمة لامحالة، على الارجح ستتم قبل سقوط سلاح المهندسين والقيادة العامة ، الا في حال تمرد الحركة الاسلامية على قيادة قائد الانقلابات المزمن ، وهو امر محتمل. وفي هذه الحالة سيترك للمليشيا امر سحق ماتبقي من مليشيات الحركة الاسلامية المختطفة للجيش ، الذي في الاغلب سيحدث انقسام بداخله يسهل هذه المهمة. والمطلوب حتما هو عدم الجلوس في مقاعد المتفرجين ، ورفض اي تسوية تؤسس لشراكة دم جديدة، والمطالبة بسلطة مدنية خالصة، اولى مهامها اعادة هيكلة القوات المسلحة ، ومن ثم حل الجنجويد ، وتقديم قيادة المؤسستين للعدالة وعدم السماح بافلاتهما من العقاب، وبناء مؤسسات دولية انتقالية بما فيها مؤسسة تشريعية ثورية وقضاء عادل مستقل ومؤسسات عدلية فاعلة، مع حل جهاز امن الانقاذ، واستعادة الاموال المنهوبة من قبل الجيش والجنجويد وجهاز الامن. كل هذا الجبهة المدنية القاعدية قادرة على انجازه، في حال تم بناؤها من قوى الثورة الحقيقية ، بعيدا عن القوى صاحبة ادعاءات الرغبة وقف الحرب وحقن الدماء عبر السماح للطرفين المتحاربين برسلمة الحرب والتربح من تداعياتها بالدخول معهما في شراكة دم جديد. وليكن شعار المرحلة: لا للحرب نعم للثورة ولا للسماح برسملة الحرب والتربح من تداعياتها. وقوموا الى ثورتكم يرحمكم الله!! ٢٤/٨/٢٠٢٣
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة