حلقت بي طائرة بحجم ركشة تقريباً فوق جوبا ومنها إلى بور. كانت الأرض من وديان وجبال مغطاة بالخضرة الدافئة، والغمام يرسل خيوطه البيضاء حتى تلتصق بالأرض، أما البحيرات الصقيلة كالمرآة، فكانت تعكس ظل طائرتنا على سطحها الرائق. الثيران البرية كانت تهرول بشكل حلزوني وهي تتسلق الجبال، والأدغال على امتداد شاسع تبرز بهرجها وثروتها الغنية. بدا لي الجنوب حينها كنزاً هائلاً لا يمكن التفريط فيه، لكن لم يمض سوى سنة واحدة بعدها واستقل الجنوب، وخسر السودان برمته ذلك الكنز إلى الأبد (وأقول إلى الأبد). ظلت العقلية الشمالية وريثة الاستعمار، تتعاطى مع شبه الدولة بفوضوية كبيرة. العقل الشمالي لم يملك يوماً استراتيجية واضحة للحركة ولا للتعامل مع الدولة. كان الرعيل الأول شديد السذاجة وشديد النرجسية، وما تلاهم كانوا مجرد لصوص ايا كان القناع الآيدولوجي الذي يخفي حقيقة بلادتهم وإجرامهم. لقد استطاع الرجل الأبيض في أوروبا وأمريكا وأستراليا السيطرة على تلك الدول، ولكن باستراتيجية منفتحة وفي نفس الوقت مسيطر عليها، وهذا ما أدى إلى بقاء الرجل الأبيض محتفظاً بنفوذ معقول يمكنه من توجيه دفة إدارة تلك الدول مع منح هامش واسع للحقوق والحريات لكل الأجناس والعرقيات الأخرى. أما عندنا، فقد ورث الشماليون الحكم، إما عبر أحزابهم اطأو عسكرييهم، ولكنهم ظلوا متمركزين حول مصالحهم شديدة الضيق، وفي نفس الوقت لم يمتلكوا عقلية استراتيجية لإدارة التنوع مع احتفاظهم بدرجة أعلى من إدارة الدولة وتوجيهها التوجيه الأمثل. فشل الشماليون فشلاً ذريعاً في إدارة الدولة، وظلوا يكوِّنون أسراً مستفيدة من الحكم والسلطة، واغتنت تلك الأسر ولكن اغتنت على حساب باقي الشعب، في دولة لا يمكن أن يغتني فيها سوى اللصوص لأنها دولة فقيرة في كل قطاعاتها (الزراعية والصناعية والخدمية). أدى ذلك إلى شح الفرص للآخرين، فلجأ الآخرون لحمل السلاح، ولكنهم لم يملكوا (حتى الآن) رؤية استراتيجية. لأن من حملوا السلاح هم ضحايا الفقر وانعدام فرص التعليم والعلاج والعدالة..الخ. لذلك تاثروا بالعقلية الشمالية البائسة. إن من دمروا جنوب السودان -في الواقع- هم الذين تعلموا في الشمال ومع الشماليين وتاثروا بطريقة تفكيرهم المعوجة الخبيثة. وكذلك سيحدث هذا في باقي الأقاليم لو انفصلت، فالشماليون لم يورثوا غيرهم سوى البؤس المادي والذهني. فكانت صراعاتهم غير العقلانية وغير الوطنية وغير الأخلاقية تخلق نمطاً عاماً يمتد إلى غيرهم. إن التفكير الاستراتيجي لا يكون كذلك إلا حين يتم النظر إلى مصالح كل الشعوب التي تشكل أحد أهم عناصر الدولة الحديثة، لكننا رأينا كيف كان الشماليون يمارسون قمعاً عبر سياسات (التمكين) الحمقاء، كان الشيوعيون هم من تعلمها من الأحزاب الطائفية، ثم انتقلت إلى الإخوان المسلمين، وهكذا تم تبادل القمع بين كل المكونات السياسية، وإلى اليوم يفكر الإسلاميون في قمع غيرهم والتمكين لأنفسهم إذا انتصروا في هذه الحرب، كما كان القحاطة قد فعلوا خلال سنتين فقط من حكمهم. هذه هي العقلية الشمالية، التي حكمت منذ الاستقلال، وحاولت باستمرار تهيئة كل الدولة لخدمة بعض من في الدولة. وهكذا كان لزاماً أن تحدث هذه الحرب. والتي أرى انها أفضل ما حدث لهذه الدولة منذ الاستقلال، كي يحدث تجريف حقيقي للماضي وغربلة دقيقة للكيانات التاريخية. نعم هذه الحرب يجب أن تستمر لأطول وقت ممكن، بحيث لا تنتهي إلا وقد آبت العقول البليدة إلى الصواب، ورأت العيون الأنانية حقوق غيرها قبل حقوقها. وكما قال تعالى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] (216) صدق الله العظيم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست