أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم. وَ لَقَد صَرَّفْنَا فِي هَذا القُرءانِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مثلٍ و كان الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جَدَلَا. صدق الله العظيم
٢)
سقطت بيزنطة في أوروبا قبل ستة قرون فبرد الجو و نزل المطر ثم اعتدل كل شيء بعد ذلك. أما في شارع البرلمان بمدينة كرش الفيل فقد احتدم الجدل البيزنطي و أحال إعتدالها لصيف حار جاف طول العمر.
٣)
لقد صارت المشاهد تتكرر على مدار الدقيقة و الساعة و اليوم بمصير يتقرر بترديد جنود السلطان لجلالتهم الدائرية كلو يوم زي دا. كل يوم يمر الجنود بالقرب من شباك شقة أيمن و أيسر المطلة على تقاطع شارع الجمهورية و شارع القصر وسط المدينة.
٤)
شاءت الأقدار أن يجبر هذا الكسر الدائري، فخرجت من جنوب الخرطوم مظاهرة مليونية، تكاد تكون الأكبر في سجل تظاهرات ثورة الشباب القوية. كانت بداية جحافل الثوار تزحف كأفعى خرافية ذيلها في شارع باشدار و رأسها في قصر الشعب رمز السلطة. عجزت كل دوريات الديوم و الخرطوم عن صدها و وقف زحفها. أما في شارع النيل و شرق العاصمة فقد احتشد ثوار بحري و أم درمان جنوب القصر و أسود البراري في شارع الجمهورية رمز الشعب. مواكب تهدر كالزئير ارتفع فيها صوت الهتاف قويا عاليا رددت العمارات الشاهقة صداه.
٥)
على عكس هدير و زئير أسود البراري و ثوار بحري و غاضبون أم درمان، كانت مظاهرة الديوم صامتة تماما لكن صمتهم كان يستبطن هتافا يهدد بموت كل الظالمين. شعاراتهم الصامتة رفعتها لافتات تتقدمها آية قرءانية؛- أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون و على الله فليتوكل المتوكلون الثانية الديامة قيامة الثالثة تسقط الدوامة و الرابعة لافتة ثوار جبرة الجبابرة مطبوع عليها جبر الكسر علامة.
٦)
رغم قوة الهتافات و عظمة المواكب لكنها لم تقو على رفع قاذورة واحدة شوهت قارعة الطريق أو قارورة فارغة وثقت للفراغ العميق. لقد شاركت أكياس النايلون جنود السلطان في كل حفلات التعذيب و تآمرت في تلك المليونية فتطايرت هنا و هناك تشي بأخبار الثورة و تنقل عدوى خفتها للثوار قبل أن تحجب الضوء عن المدينة و تطفئ كل الأنوار.
٧)
من نقطة رمادية وسط السوق الأفرنجي في تقاطع شارع القصر مع الجمهورية خرج أيمن من شقته متأخرا، مرتدياً لبسته البلدية على الله المخططة بالأخضر و الأبيض. بينما خرج أيسر مرتديا برمودة سوداء و قميص أحمر. خرجا مؤخرا بعد أن تقلب كل منهما يمنة و يسارا على سريره الوثير و وضع مسند عنقه على أذنيه حذر الموت.
٨)
عندما بلغا منتصف تقاطع الشارعين نشبت مشادة كلامية بينهما و تطورت لمشاجرة ثم صراع تقلبت فيه أدوار الغالب و المغلوب. أخذ كل منهما بتلابيب الآخر و سدد له عدد من اللكمات في أنفه ثم رجع الأثنان لشقتهما في صمت يندد بالوعيد و التهديد بعد قرار هدنة غير معلنة.
٩)
كان حائط غرفة أيسر أسود اللون مرسوم عليه خطوط و نقاط حمراء، بينما حائط أيمن أبيض منقوش عليه دوائر خضراء. ما أن اقترب كل منهما من باب غرفته حتى تواصل تراشقهما بالكلام. أيسر:- المنطق أن الدجاجة أولاً يا بيضة. أيمن:- أنا لست بيضة أيها الدجاجة و البيضة أولا. أيسر:- يا رفيق الدجاجة قبل البيضة لأن اللون الأسود يسبق الأبيض و المادة قبل الروح. أيمن:- الروح أولاً لأن الأساس العدمي المجرد سبق الوجود المادي المجسد. ستدرك ذلك حين يفنى جسدك و تبقى روحك. لا تنسى هذا الحوار عندما تلتقي أرواحنا في البرزخ. أيسر:- كل كلامك يجافي قوانين العلم و الحقائق العلمية أيها المأفون المتخلف. أيمن:- دعني في تخلفي فكلامي مرتب بالنسبة لي و بندول ساعتي يتجاوز زمنك الفلكي ليرقص على دقات الزمن الكوني في مداره الكلي. الدين واقع يا صديقي يرسم حياتنا السودانية كلها شئت أم أبيت. أيسر:- من أنت حتى تفترض أن رؤيتك هي رؤية الجميع؟ لا يهمني الرد كثيرا. لكن ألا ترى أن بندول الوقت يتأرجح و أن الحقيقة أرجوحة؟ إذاً لا تطلق رأيك إطلاقاً. أيمن:- قلت لك بالنسبة لي ثم أن الحقيقة الكلية واحدة في سكونها و حركتها لكنك تراها من زاويتك و أراها من زاويتي، فلكم دينكم و لي دين. أيسر:- إتفقنا إذن و انجبر الكسر فلا تحجر علي و لا أحجر عليك.
١٠)
على بعد سبعة أمتار أسفل شباك غرفة أيمن في الطابق الثاني وقف سلفي ملتحي يلبس جلباب قصير و صوفي يلبس جبة خضراء و دار سجال بينهما في نفس النقطة الرمادية. ربما نقلت أكياس النايلون عدوى الجدل البيزنطي لهما، و ربما كان سجالهما امتدادا لخلاف أهل الأثر و أهل الرأي و إختلاف منهج النقل عن العقل.
١١)
قال السلفي للصوفي:- خاف الله يا شيخ، إن الله موجود في السماء السابعة بدليل معجزة الإسراء و المعراج. رد الصوفي:- أولاً أنا أحب الله أكثر من خوفك منه، ثانيا ً، الله واجد و ليس موجود، ثم إنه في كل مكان و زمان، بل في اللازمان و لا مكان و لا يسعه إلا قلبي العاشق له. السلفي: ماهذه الزندقة يا شيخ، اتقي الله. ألا ترى أنكم تسعون لإخفاء الحقائق البينة و طمسها؟ ألم يسبق النهارُ الليلَ كما يسبق النور الظلام؟ الصوفي: الحق واحد عندي، أبلج لا يخفي، كما أن الليل قبل النهار و ليلة الجمعة تبدأ عند مغيب شمس الخميس. دع عنك الجفاء و زرنا في حلقة ذكرنا لتتعرف على معاني الحب و جمال إنحناءات الدائرة. السلفي:انتم تؤمنون بالخرافة و الكرامة و نحن نؤمن بأن الإستقامة خير من ألف كرامة، أهل الإستقامة هم أصحاب الوقت. الصوفي:- الكرامة كرم الكريم للمكرمين، أما أنتم فقل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. الخط المستقيم هو الطريق للحقيقة و ألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءت غدقا. لن يستقيم ألف الجلالة حتى ينحني و يستدير في هاء الجلالة كاستدارة الكون كله، أهل الدائرة هم أصحاب الوقت و دوائر الزمن الحلزونية.
١٢)
غربت الشمس فغرب معها كل شيء حتى الغربان التي كان نعيقها يشق صمت ثوار الديامة الهتافي، ثم جن جنون الليل البهيم..
١٣)
في شارع جانبي من باشدار قبض عسكري على أحد الثوار. وضع العسكري سلاحه في جبهة الثائر و سأله مهدداً :- عسكرية ولَّا مدنية؟ الثائر:- مدنيااااااااااو. ضغط العسكري على الزناد فشق الصمت صوت طلقة تزامن مع انقطاع التيار الكهربائي.
١٤)
في داخل غرفة أيسر تسلطت بقعة ضوء ليزر حمراء على جبينه من مصدر لا يراه. صار يجري هنا و هناك داخل غرفته ثم يختبئ تحت سريره و النقطة الحمراء تتبعه في كل مكان.
١٥)
أما أيمن فقد تسلطت عليه بقعة ضوء كبيرة من مركز سقف حجرته، لعل مصدرها كشاف قوي أضاء قلبه قبل ان يضيء عتمة الغرفة التي صارت تشبه النفق. خرج أيمن من غرفته مستغربا فناداه أيسر مستغيثا. فتح أيمن باب أيسر فوجده يجري و يقفز كأنه يريد أن يحلق:- أدركني يأ أيمن، لقد ضاقت علي غرفتي، أنا مستهدف و مقتول لا محالة. أيمن ببرود و تفاؤل:- بالعكس غرفتك واسعة جدا بلغة الأرقام و الحساب. ربما ضاقت عليك بسبب لون جدرانك الأسود و هذه الدوائر الحمراء التي تؤجج غضبك و تدرر خوفك.
١٦)
فجأة قفز أيسر من شباك غرفته المطلة على الحشود فحاول أيمن الإمساك به. قبل أن يصل جسد أيسر الأرض إصطادته رصاصة قناصة فسكبت دماءه الحارة في الدوامة، بينما ارتطم جسد ايمن بالأرض ليلفظا آخر أنفاسهما وسط قيامة الديامة. شيعوهم على رؤوسهم و توجهوا بهما صوب القصر. دفن الأثنان في قبر واحد وسط فناء قصر الشعب. قبل أن يودع المتظاهرون قبرهما خرج دخان باللون الأخضر و الأحمر من القبر، حلق في الأفق على خلفية شمس الشروق قبل أن يتلاشى الشفق الأحمر.
١٧)
شهد أحد ضباط الحرس الجمهوري المشهد مشدوها بشهادة الشهيدين و مندهشا للافتات المتظاهرين التي ما أن قرأها حتى أدرك مغزاها و صرف جنوده ثم انتحب و هو يردد بصوتٍ متهدجٍ جبر الله كسركم. رددها الجميع لبعض بصوت واحد عرج للسماء في يوم كان مقداره ألف سنة. شهدته أرواح أيمن و أيسر و كل الشهداء الذين استشهدوا في وسط الخرطوم فداءً للوسطية و العدالة و الحرية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة