لم يترك الباريسيون شيئآ لتتريس الشوارع به...إستخدموا البراميل المعبأة بالتراب والحجارة ... وإستخدموا الطوب المخصص لرصف الشوارع، وكراكيب المنازل من كراسي وطاولات ودواليب وكنبات قديمة، والعربات التي تجرها الدواب (الكارو) وحتى الخيول النافقة سدوا بها الشوارع .....هذا ما يقوله البروفسير مارك تراقيت، من جامعة كاليفورنيا "سانت كروز"، في كتابه المعنون بـــ(The Insurgent Barricade) الذي خرج للنور في سنة 2010 م، وترجمته (متراس المتمرد) وفيه تقصي تاريخي عن نشوء فكرة المتاريس وتطورها...وكلمة (Barricade) التي إنبثقت من اللغة الفرنسية، وإنتشرت في جميع اللغات الأوربية بنفس الجذر اللغوي، تعني في معناها الحرفي "البراميل،" التي كانت تشكل أساس أدوات "التتريس."
|| صورة رقم (1): عن المتراس الذي أقيم في مدخل شارع فاوبورق سانت أنطونيو بباريس، خلال ثورة سنة 1848 م، وكانت من أكثر مناطق بارس إكتظاظآ بالسكان، ومعظمهم من الفئات الفقيرة||
||صورة رقم (2) متاريس على مسافات متباعدة بشارع سانت ماور - باريس خلال ثورة سنة 1848م
||صورة رقم (3): عن متراس أقيم في نفس الشارع الباريسي المذكور أعلاه، خلال ثورة 1871 م وقيام كومونة باريس، لمنع القوات الحكومية من الوصول إلى (ميدان الباستيل) وقد قتل فوق هذا المتراس أكثر من مائة ثائر||
صورة رقم (4) تتريس أحد شوارع باريس إبان قيام كومونة باريس سنة 1871 م
ويرى البروفسير مارك تراقيت، أن هناك رأيآ شائعآ، بأن المتاريس ظهرت في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، وإستخدمت في سلسلة الثورات التي ميزت ذلك القرن، ولكنه يشكك في ذلك، ويشير إلى أنه هناك من الدلائل، بأنها ظهرت في معمعان الثورة الفرنسية الكبرى، التي إنطلقت سنة 1789 م.....ويذهب الكاتب في بحثه أبعد من ذلك، بقوله أن هناك شكلآ بدائيآ من المتاريس، عرف قبل الثورة الفرنسية بمائتي سنة، أي في القرون الوسطى، وهي متاريس من السلاسل الحديدية الغليظة، كانت تثبت في أول جدار في مدخل الشارع، وتمد إلى الجدار المقابل له، لمنع مرور القوات الحكومية، او لدرء هجمات المتشردين والصعاليك الفتاكين...ولقد إستخدمها بالفعل بنجاح مواطنو مدينة قنت الفلمنكية (حاليآ في بلجيكا) للدفاع عن الحكم الذاتي الذي أعلنوه... وإستخدمت كذلك عندما نشب صراع مسلح، بين مقاطعتي نافار وفالوس في سنة 1356 م، وتبدت شواهد الحرب الأهلية....فقد كانت متاريس السلاسل الحديدية من الوسائل الدفاعية الناجعة، عن المدن والأحياء في القرون الوسطى....ويعدد البروفسير مارك عدد الأحداث السياسية والاجتماعية الساخنة، التي أدت إلى إقامة المتاريس في فرنسا، بين العام 1569 والعام 1898 م، ويقول أنها تبلغ 155 حدثآ. وفي عصرنا الراهن أقيمت المتاريس في باريس، إبان ثورة الطلاب، التي إندلعت في مايو 1968 م، وقد أطاحت تلك الثورة بالرئيس الفرنسي شارل ديجول، بالرغم من أنه بمثابة الأب الروحي، لمقاومة الاحتلال النازي لفرنسا.
||صورة رقم (5): من متاريس ثورة الطلاب سنة 1968 م في باريس||
صورة رقم (6) متراس خلال ثورة الطلاب سنة 1968، لاحظ التتريس بالعربات القديمة المركونة
وقد وثّق الأدب العالمي متمثلآ في الرواية الواقعية الشهيرة (البؤساء) للكاتب الفرنسي المعروف فيكتور هيجو للمتاريس...ففي هذه الرواية التي نشرت لإول مرة في سنة 1862 م، ورد ذكر المتاريس، كمصطلح جديد لإحدى آليات الدفاع المشروعة ضد القمع...فأحداث إنتفاضة سنة 1832 م الباريسية، وضعها فكتور هيجو في سياق سرديته عن الشخصية المحورية للرواية جان فالجان، الذي بات يعد من عتاة المجرمين، في نظر ضابط الشرطة الذي قبض عليه، وهو يسرق من أحد المخابز قطعة خبز، لإطعام إبن أخته الطفل، الذي كان يبكي من آلآم الجوع، في بيت فقير عائله هو جان فالجان العاطل، الذي أعياه البحث عن عمل ...وبعد خروجه من السجن، طفق ضابط الشرطة المعني، يطارده ويلقي عليه القبض، كلما حدثت جريمة بالمدينة، على إعتبار أنه أحد الجناة المحتملين، وبذلك حوّل حياته إلى جحيم...وعندما إندلعت إنتفاضة سنة 1832م ، كان جان فالجان أحد المنغمسين فيها، ويقف مع الثوار عند متراس شارع فاوبورق سانت أنطونيو...وتجمعت قوة شرطية على الجانب الآخر من المتراس لمداهمته، فإشتبك الثوار معها في معركة عنيفة، وكان الضابط الذي يطارد جان فالجان ضمن تلك القوة....وتمكّن فالجان بمساعدة الثوار من القبض عليه، وقد همّ الثوار بقتل الضابط، وتدافعوا نحوه للقضاء عليه، ولكن جان فالجان حال بينه وبين الثوار، وطلب منهم أن يتركوه وشأنه ويخلوا سبيله...وهكذا نجا الضابط من موت محقق، على يد الثوار بفضل جان فالجان، ولكنه لم ينج من شح نفسه، ومن عذاب الضمير، إذ أقدم على الإنتحار، ولسان حاله يقول: لقد طاردته طوال تلك السنوات، وحوّلت حياته ألى جحيم، وهو يرتقي كل هذا الرقي من السمو النفسي، ويطلق سراحي بعد أن تمكن مني تمامآ.
ولعل في هذا المغزى الأخلاقي، الذي يطرحه فيكتور هيجو في روايته (البؤساء) ما يدعم تمسك شبابنا الثوار، بسلمية الثورة الديسمبرية، التي أطاحت بالسفاح البشير، وما زالت تستعر، ويبذل الثوار الأشاوس ضريبة الدم، لكنس بقية السفاحين، وعلى رأسهم رب الفور المرتجف.
أحمد القاضي
ووترلو | كندا
الأحد 23 يناير 2022 م
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 01/22/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة