في رواية شيكاغو لعلاء الأسواني، يعطنا الكاتب تصوراً جيداً عن العنصرية، وهي رؤية للآخر كناقص أهلية، أو غير كامل أو غير قادر على الأداء أو حتى لا يملك اللياقة العاطفية ليحب ويكره كالآخرين فهو لا يستحق (....). إنني لا أتذكر المقطع المفاهيمي بشكل واضح لأنني قرأت الرواية منذ وقت بعيد، ولكننا سنجد أن حمور زيادة في شوق الدرويش عكس تصور الغربي الأبيض الذي يشم رائحة عفنة من السود. وهذا التصور موجود أيضاً لدى السود تجاه البيض. إن المسألة كلها تدور في العقل، ويتم تناقل تلك الأفكار لتندرج ضمن الوعي الثقافي العام. فلا يوجد في الحقيقة دماء ملكية ولكن مجرد تصور عن دماء ملكية. في فيلم وثائقي، يقوم القطيع بطرد أحد افراده حين يسقط في الوحل ويتغير شكله وتتغير رائحته. إن الحيوان لم يعد يملك قاسماً مشتركاً مع قطيعه عبر السمتين الرئيسيتين وهما الشكل والرائحة، وهكذا يتم عزله عن القطيع. هنا يمارس القطيع نبذاً على أسس أقوى من الأسس التي تنبني عليها عنصرية البشر، فالبشر لا ينبذون بعضهم بعد تحليل الجينات والتي يدركون أن تحليلها قد يوقعهم في ورطة كما حدث للأمريكان البيض إثر نقاشهم لمشروع قانون القطرة الواحدة، بل هم -وخلافاً للحيوان- يدركون أن الشكل والرائحة لا تمثل نزعاً للنوع البشري عن الفرد. مع ذلك فهم يمارسون نبذاً ثقافياً، أي تكوين مجموعة مفاهيم مغلوطة تجاه الآخر، وتسريبها ببطء داخل الوعي الجمعي، وهكذا لا يمكن نزعها إلا بعد تجارب قاسية ومريرة. إن فكرة الرائحة كدلالة هوياتية انتقلت إلى الأدب، كما في رواية كازانوفا في بولزانو لساندور ماراي وأكثر منها وضوحاً في العطر لباتريك زوسكند، حيث يبحث البطل عن هوية عبر اختلاق رائحة لجسده وهو الذي ولد دوناً عن سائر البشر بلا رائحة. ربما ليس المقصود في الرواية ذلك بشكل مباشر، بل قد يمثل انعدام الرائحة شعورَ المبدعين بالمعاناة من عدم قدرتهم على التكيف الإجتماعي مع محيطهم الأقل ذكاءً، وقد يكون التأويل غير ذلك، لكن، وفي كل الاحوال، فإن النبذ الإجتماعي نتيجة الإختلاف لا يعزب عن الرؤية الدرامية. هناك إذاً دوما توجه نحو البحث عن أصل عام، ليحدث فيه الإندماج مع الجماعة، بحثاً عن الأمان أولاً، وعن الشعور بمعنى للحياة من خلال التبادل التفاعلي ثانياً. هنا تتضح أهمية الرائحة والشكل. غير أن النبذ الإجتماعي أقل من العنصرية، لأنه مجرد إبعاد عن القطيع، أما العنصرية فهي الأعنف لأنها مجموعة مفاهيم مغلوطة عن الآخر المختلف تصوره لنا كمعاق ذهنياً وأخلاقياً (الآخر هو المجرم دائماً، هو اللص وقاطع الطرق، هو البليد، هو الفاشل وغير القادر على معالجة مشكلاته، هو الإعتمادي). وإذا لم يقاوم الآخر تلك المفاهيم الثقافية، فسيصبح بالفعل لصاً وقاتلاً وفاشلاً، إذ تتسرب إليه تلك المفاهيم ببطء للتركز في عقله الباطن وتتحول إلى حقيقة لا مجال لدحضها، لذلك كنت دائما مندهشاً من تعريض برنارد شو بالإنجليز في مسرحياته حتى عرفت أنه إيرلندي، وسنجد أن المسرح الإيرلندي -على وجه التحديدي- كان صوتاً للمقاومة باستمرار. وهكذا تبدو خطورة العنصرية الثقافية، أكثر من النبذ لمجرد الإختلاف. وهنا أيضاً يبدو "المثقف" كالقائد الأول للمعركة نيابة عن المُضطهَد والمضطهِد. لأن من أهم أدوات المثقف هو تفكيك الظواهر الإنسانية لفهمها جزئياً ثم كلياً، ومن ثم إيجاد علاج لها أو طرحها مكشوفة وعارية على الملأ. ولهذا السبب بعينه يتحسس السياسيون مسدساتهم حين يسمعون كلمة "مثقف". فمن الواضح أن العنصرية الثقافية تنشئ تحالفات فوقية تحافظ على تلك المعرفة المغلوطة لتحافظ على مصالح المتحالفين التي تحميها القواعد عبر تأكيد تلك الرؤية المشوهة للآخر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست