المشاهد المُروّعة لتساقط المواطنين الافغان المتشبثين باجنحة طائرة الشحن التابعة للجيش الامريكي، والمقلعة من مطار العاصمة كابول، احدثت ارتجاجاً باذهان الناظرين للمشهد التراجيدي الغريب الذي لا يمكن أن تخرجه استديوهات هوليوود وبوليوود، لحظات حبس فيها سكان العالم انفاسهم وهم ينظرون بقلوب خافقة راجفة وواجفة من بشاعة الموت الرخيص لعدد من المواطنين الافغان، المحاولين الهروب من جحيم طالبان فزعاً باتجاه الحضن الامريكي، في ابلغ رسالة للانسانية جمعاء أن المهدد الأول لفناء البشرية ليس القنبلة النووية، وانما اسلحة الدمار الشامل المخزّنة في العقول المهووسة الممسكة بقشور النصوص، غير المبحرة في اعماق السفر الذي جعل من الانسان قيمة في حد ذاته دون النظر الى لونه ولسانه ودينه وعرقه، وذلك في اكثر من مناسبة – (يا أيها الناس)، عجيب أن يلوذ الانسان بالفرار خوفاً من بني جلدته وجزعاً من اخوته في العقيدة، ويستغيث بمن عُد عدواً ازلياً احتكاماً الى فكرة الاختلاف العقدي، غريب أن يستنجد الشقيق على شقيقه بالغريب. من الاخبار المحزنة حد الاجهاش بالبكاء الجهير المهدور فيه الدمع السخين، اكتشاف جثة الشاب لاعب المنتخب الافغاني ملفوفة ومفرومة كلحم (الشاورما) حول اطار الطائرة بعد هبوطها، والاكثر الماً وطعناً حارقاً في لباب القلب التغريدة التي ارسلها المرحوم ناعياً فيها نفسه بعبارة تدمي قلوب عتاة المجرمين السافكين للدماء، الذاكرة الشعبية في افغانستان مليئة بالصور الكئيبة المحزنة والمؤسفة للعهد الأول لهذه الجماعة المتطرفة، ذلك العصر الحجري الظلامي البعيد كل البعد عن عالم اليوم الفارض لادبياته بحجج واقعية ملموسة اقنعت الاجيال الحاضرة عملياً لا نظرياً، فحينما يفضّل الفرد الموت بين فكي اسد هصور اعلم أنه هارب من أنياب تنين شرير عملاق نابه الواحد بحجم هذا الهزبر الهصور، وافهم دائماً أن الدافع الذي يجبر احدهم لتجرع الكؤوس المُرة من العلقم هو استسقائه من كؤوس اخرى مرارتها تفوق مرارة الحنظل، والا لما اقدم الشباب الطامح لمستقبل مزهر على التمسك اليائس بالحديد الملتهب لمحركات الطائرة العملاقة، ولما حمل الآباء اطفالهم فوق سياج المطار ليأخذهم الجندي الأمريكي بعيداً عن المصير المجهول الذي ينتظرهم. المتطرفون المتزمتون يبشرون فقراء بلادهم بنصوص الكتب الصفراء، ولا يوفرون لهم خدمات التعليم الحديث ولا الخدمة الصحية العصرية، ما يجعل البلاد التي يحلون بها مجرد مخابيء لمدن مهجورة ينعق في حجراتها البوم، ما يدفع الشباب للمغامرة وعبور المحيطات المدلهمة لياليها بالمخاطر والاهوال، وما يجعل العقول تخرج من جماجمها صدمةً هو لجوء شباب البلدان التي ينتشر فيها التطرف الديني الى البلدان الموصوفة مجتمعاتها بالانحلال والتفسخ، والادهى وامر من كل ما سلف ذكره قيام حاخامات المشاريع المتشددة بارسال ابنائهم لعواصم ذات الغرب المنبوذ بغرض التحصيل الاكاديمي، إنّ سبر غور هذه العقلية الاصولية المتحجرة حيّر العقول السليمة غير السقيمة، وإنّه لمدهش حقاً مثل هذا الاضطراب العقلي والتناقض القيمي والمفاهيمي وعدم الاتساق بين التعصب لمبدأ ما، وفي الوقت ذاته العمل بجهد جهيد ضد موجهات هذا المبدأ المعلن، فعندما نصب المتشددون خيامهم على ارض سلطة تلك الدولة الامازيغية الشهيرة، فسدوا في الارض وقالوا انما نحن مصلحون بعد أن اوفد زعيمهم انجاله لينهلوا من علوم الدنيا بمؤسسات التعليم الغربي. قلعة التطرف وبرج النهضة جاثمان على طرفي نقيض، والتخلف الاقتصادي والترهل الاداري والفساد المجتمعي للبلدان التي اجتاحها الخياليون شاهد على نفسه، فالمفلسون لا يقدمون رؤية ولا يبذلون حلولاً، لقد جلسوا على عرش ولاية السودان ورفعوا راية الاصلاح، فكان الناتج بعد عدد من السنين افساد وفساد وطغيان، وعدوا الشباب وغرروا بهم وعقدوا لهم قراناً ارضياً متصلاً بالسماء نكاحاً للحور العين، وضمنوا لهم صك دخولهم اعالي الجنان من بوابة الحرب الدينية العرقية اللعينة التي اشعلوها بالجنوب الحاضنة ارضه لرفات المئات من الشباب، فكما اخبرتنا صفحات التاريخ أن التشدد في آخر مطافه يولد دولة الملك العضود، التي ليس لها حظ من معاني الشعارات النبيلة، مثلما انشد يزيد خليفة بني أمية قاطعاً قول كل خطيب في هذا الخصوص: ليت اشياخي ببدر شهدوا...جزع الخزرج من وقع الاسل فاهــلوا واستهـــلوا فرحــا...ثم قالـــوا يا يــــزيد لا تسل قد قتلنا القوم مـــن ساداتكــم...وعدلنا ميل بـــدر فاعتدل لســت من خندف ان لم انتقم...من بني احمد ما كان فعل الى آخر القصة
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة