الليلة عايزين نتفاءل شوية، ونتوقف عن الإحباط المستمر، فلعل الله يفتح علينا -ونتخارج برا البلد دي- فالبعض قال لي بأن القحاطة عاملين ليك عمل. ولذلك سأحاول استرضاء القحاطة بمقال متفائل شوية. وسنتحدث اليوم عن إيجابيات حمدوك.. فمن هو حمدوك.. لا أحد يعرف من هو حمدوك.. أنا شخصياً لا أعرف من هو حمدوك.. لكن ما أعرفه، أنني قبل سقوط النظام تنبأت بأنه سيكون رئيس السودان، وأتذكر أنني قلت بأنه سيكون أسم صالح ليلتف حوله الشعب، السبب الذي جعلني أتوقع هذا، حتى قبل أن يسقط نظام البشير، هو أن وزارة المالية كانت قد فشلت في حل الضائقة الاقتصادية، وقد كتبت عن أن الدولة أفلست وعليها أن تعلن إفلاسها لتعيد هيكلة ديونها، وفي ذلك الوقت سرب جهاز الأمن معلومة للصحف وهي أن هناك خبيراً اقتصادياً اسمه حمدوك رفض تقلد منصب وزير المالية. وقد كان هذا أول رفض يحدث لبني آدم سوداني، مما أشعل حماسة الشعب بوجود شخص (نزيه ومناضل). كتبت عن ذلك وتوقعت أن يتم استجلابه رئيساً للسودان. وقد حدث ولكن كرئيس وزراء. هذا كل ما أعرفه. ولكن بعد ذلك قامت تلك الجهات التي لمعت حمدوك ببث أكاذيب كثيرة من ضمنها أنه كان قائد بعثة رواندا الأممية. وبمراجعة بسيطة اكتشفت انه لم يكن كذلك. وهنا أدركت أن هناك -بالفعل- جهات تعمل على تلميعه بالكذب، وأنا أكره الكذب. فليس مهماً أن يكون حمدوك (مقطع الخبرة والكفاءة) بل يكفي أن يملك الحذاقة الكافية مع قليل من الذكاء لإدارة الدولة، في ظل مناخ صحي بدون حاجة للكذب. قال صلاح مناع انه التقى بقوش هو ومو إبراهيم ومعهم (حمدوك) في أثيوبيا، وأن قوش طلب أن يكون رئيساً للسودان. (طبعاً كلام هجايص). فبالفعل تم اللقاء او (اللقاءات) بين قوش ومو ابراهيم لتنظيم الثورة داخلياً، وفتح منافذ القيادة (كنت في أحد المقالات قد توقعت كذلك لجوء الثوار للقيادة لأن العسكر وحدهم من يملكون القوة اللازمة للإنقضاض على البشير). رغم أنني طالبتهم (اثناء الثورة بأن يطالبوا العسكر بتسليم السلطة للمحكمة الدستورية، لكن أحد المحامين وهو معارض كبير رحمه الله قال بأن المحكمة الدستورية تابعة للكيزان -وكان العسكر تابعين لنادي جزيرة الفيل). عوداً على بدء، فقوش صنع حمدوك ومعه مو ابراهيم. ولهذا فصلاح مناح يمتلك كل هذه القوة الراهنة باعتباره صانع رئيس وزرائه. هذا كل ما أعرفه عن حمدوك. ولكن ما عرفته بعد ذلك ليس بالشيء الكثير. فبمجرد سقوط البشير، وقبل حتى توقيع اتفاق الوثيقة الدستورية، بل وقبل تشكيل مجلس سيادة، تقاطرت جموع السفراء الغربيين على من؟ على حميدتي؟!!! (لم يكن هناك حمدوك في ذلك الوقت). نعم على حميدتي، لقد كانت أول زيارة من السفير الألماني، ثم تبعه البريطانيون والأمريكيون.. وهكذا أعلن الغرب رضاه عما حدث. غير أن البرهان وفي لقاء تلفزيوني قال بأن: أمريكا ليس لديها مشكلة. وهذا يعني أن البرهان لم يتحرك مع ابن عوف من تلقاء نفسه، بل بتخطيط أنجلو-أمريكي (مو إبراهيم). إلى هنا لا توجد مشكلة.. فلا زال حمدوك في رحم الغيب لم يتشكل إلا كمضغة إعلامية في يوم واحد. استمرت الأمور تتحرك بسرعة، وتم فض الاعتصام، و(حدس ما حدس)، وأوتي بحمدوك لأول مرة كرئيس للوزراء. ما توقعته هو أن يبدأ حمدوك عدة أعمال ذات طابع إصلاحي، داخلية وخارجية. في الواقع أجرى حمدوك سفريات مكوكية عديدة ومعه الحجة وزيرة الخارجية (ندعو لها بطولة العمر والصحة). وباءت سفرياته بالفشل. هناك في الواقع عدة مدارس لاتخاذ القرار السياسي، ومن أهمها المدرسة الأمريكية، وهي مدرسة تعتمد على عدم التنبوء. وتوضيح ذلك بمثال، هو أنه وقبل يومين مثلاً؛ التقى جو بايدن ببوتين. كان اللقاء مثمراً بين الطرفين. ثم غادر كلاً من الرئيسين إلى بلديهما وقد اتفقا على تحسين العلاقات بينهما. ما حدث هو أن بايدن وباقي الوزراء الأمريكان، وبمجرد وصولهم لواشنطون اصدروا تصريحات مناقضة تماماً لنتائج اللقاء. وهذه هي مدرسة عدم التنبوء الأمريكية، إذ يكون الغرض من اللقاء شيء مختلف عما هو معلن؛ مثل قراءة مدى مرونة الطرف الآخر، مدى شعوره بالضعف أو القوة..الخ..وليس ما هو معلن إعلامياً. لقد حدث هذا مع البشير بالفعل، إذ أن أوباما وقبل أيام من رحيله، وقع على قرار تمهيدي لرفع السودان من قائمة الإرهاب، تاركاً الحسم لخلفه. وقد تجهز البشير وطاقم الكيزان للإحتفال بقرار ترامب، لكن ترامب (أجل القرار). (مدرسة عدم التنبوء). وهكذا غضب البشير، ولبس (الكاكي) وخرج معلنا وقف التعاون مع أمريكا في مكافحة الإرهاب. مما اضطر مدير جهاز الأمن لنفي قرار البشير (اهدأ وروق المنقة)، ذات الامر حدث لحمدوك. فحمدوك ظل عدة أشهر ينتظر مكافأة امريكا وتجهز أنصاره امام التلفاز، غير أن امريكا استخدمت مدرستها المعهودة (عدم التنبوء). وعندما يئس الشعب، وبدون أن يشعر احد، استيقظنا ووجدنا اسم السودان مرفوعاً من قائمة الإرهاب. قبلها بسنتين، كنت قد دخلت إلى موقع الأوفاك ووجدت اسم السودان موجود، ولكن عندما أنقر على الرابط أجد الرابط (لا يفتح شيء) خلافا للروابط المتعلقة بإيران وحزب الله وغيرهم، فأرسلت رسالة للأوفاك مستفسراً (وطبعا لم يردوا علي). لكن كان من الواضح، أن الرفع سيتم وأن إلغاء محتوى الرابط -الذي يحيل إلى التفاصيل- قد تم حذفه من أجل الفحص. أمريكا لم تحذف السودان من الإرهاب بفضل حمدوك. بل لأنها اتخذت هذا القرار منذ عهد البشير. ولكنها أجلته لأسباب تعلمها، وأهمها هي إنتظار سقوط البشير، فبرفع السودان من قائمة الإرهاب كان عمر نظام البشير سيطول أكثر وأكثر. هذا تقدير أمريكي، ولكن في نفس الوقت، لم تشأ أمريكا أن ترفع السودان من قائمة الإرهاب بعد سفر حمدوك إليها، والسبب أيضاً مماثل لسبب البشير، وهي عدم منح حمدوك أي التفاف جماهيري حوله اكثر من اللازم. لماذا؟ امريكا غالباً ما تصنع قيادات الدول النامية، ولكنها دائما ما تجعلهم ضعيفين. هي لا تريد شخص قوي، يحصل على تلميع أكبر من حجمه، فيبدأ بالتفكير خارج أوامرها. منح حمدوك شرف رفع السودان من قائمة الإرهاب كان بإمكانه أن يدفع به إلى الشعور بنفسه كقائد حقيقي (راسو يكبر)، في الوقت الذي تعمل فيه أمريكا بمبدأ (لا تبني شيء إن كنت غير قادر على هدمه، ولا تشن حرباً إن لم تكن قادراً على إخمادها). لقد حدث هذا مع جون قرنق، الذي أضطرت أمريكا لاغتياله، بعد أن نال شعبية واسعة مع ميوله الوحدوية، وكان هذا ليقوض خطة تقسيم السودان عند أمريكا والموضوعة منذ اكثر من خمسين عاماً. لهذا من الصعب أن تجد أنصار حمدوك يتحدثون بثقة عن دور حمدوك في رفع السودان من قائمة الإرهاب. فالمؤشرات كلها تدل على أن أمريكا تصنع قرارات الدول الأخرى وليست الدول الأخرى هي التي تصنع قرارات امريكا (ناهيك عن كون هذه الدولة الأخرى هي السودان). مع ذلك فحمدوك لا يختلف عن حميدتي، فكلاهما لعب الحظ معهما، حمدوك من خرابات الدبيبات لرئيس وزراء وحميدتي من صحراء دارفور لنائب رئيس..(والدنيا لمن تبتسم ليك بتوريك العجايب). لقد دفعت الدنيا بالرجلين إلى الواجهة دفعاً، خطوة وراء خطوة دون إرادتهما، أو كما قال الشاعر: والعبقرية أن تنال المجد عفواً دون قصد. وعوداً على بدء.. كانت أوروبا وأمريكا قد اتخذتا قرارهما منذ وقت طويل بتغيير خارطة العالم. برسم النظام العالمي الجديد. وهو ليس نظام تتسيد فيه أمريكا بالقوة، وإنما عبر رجالاتها في الداخل، عبر أنظمة موجهة، وبدموقراطيات مسيطر عليها، ولذلك كان من اللازم تغيير أدوات اللعبة، والتوجه نحو الضبط الإجتماعي عبر هندسة ثقافة جديدة في العالم، وهي ثقافة التسطيح بالشعوب عبر تركيز اهتمامات الشعوب في (الترفيه والعصرنة). لقد تم اتخاذ القرار بإعدام كل التوجهات الفكرية الثورية في العالم. لقد كانت فترة الحرب الباردة وخاصة في الخمسينات هي فترة تألق الروح الثورية العربية الإشتراكية واما السبعينات فكانت فترة تألق الروح الثورية الشيوعية (بعد هزيمة التمدد الثوري العروبي)، وكانت هذه اكثر فترات الشعوب الأفريقية والعربية خصوبة من الناحية الفلسفية والفكرية حتى منتصف الثمانينات، حيث بدأت المرحلة الجديدة، وهي تثوير الدين قبل الانقضاض عليه وتحطيمه وكانت هذه الفترة ارتداداً في القوة المعرفية للشعوب النامية، بفضل صناعة ما يسمى بالإرهاب للعب الدور المرسوم له بدقة. اما الآن، فنحن أمام الموجة الرابعة والتي تعتمد على (صناعة الأنظمة الحاكمة والسيطرة العقلية على الشعوب). لقد انتهى عهد ارسال جنود لاحتلال الدول، بل يتم ارسال حكومات من شعوب تلك الدول. إن هذه المرحلة لا يمكن أن تنجح في ظل وجود المثقفين، ولذلك فإن أخطر عدو للولايات المتحدة الأمريكية في تلك الدول هم المثقفون. ولكن من ذا الذي يستطيع هزيمة المثقف؟ إن المثقف لا يهزمه شيء سوى المال. ليس لأن المثقف يبيع نفسه، ولكن لأن المال هو الذي سيسيطر على كل وسائل القوة (الإعلام والسلاح) الإعلام من تلفزيون ودور نشر وصحف ومواقع ناجحة.. لذلك فالحرب الرقمية اليوم بين أمريكا والصين، هي حرب السيطرة الرقمية على التسويق الإعلامي والمال(تيك توك مقابل فيسبوك وتويتر، علي بابا مقابل أمازون، بتكوين مقابل بيي، هواوي التي اعتبرت مهددا للأمن القومي الامريكي مقابل الشركات الامريكية ..الخ). قال ترامب ذلك بوضوح. والسيطرة على الإعلام مهمتها الأساسية هو نقل الشعوب إلى مرحلة الترفيه والعصرنة. لإغاء أي اهتمام بالثقافة والفكر. فالثقافة والفكر يؤديان إلى نقل العقل من التلقي إلى النقد والتحليل، والنقد سيوجه لكل تلك الخطابات السياسية الممجوجة والكاذبة، وسيعري صناع القرار أمام الشعوب، وسيهزم (الجداد الالكتروني) لأي نظام سياسي..إن أمريكا تريد شخصيات باهتة كحمدوك، وشعب تافه العقل، يتم توجيهه باستمرار، فيتم تلميع من يراد تلميعه، ويتم الخسف بمن يراد الخسف به تحت أسفل سافلين. لهذا لم يكن لحمدوك أي دور ولن يكون له أي دور بطولي، فهو تنفيذي فقط. تأتيه الأوامر من أعلى لأسفل. هذا لا يعني أن حمدوك سيسقط، فحمدوك لن يسقط إلا حينما ترغب أمريكا في سقوطه. وحينها قد نستيقظ يوماً ونجد ملابسه معلقة على عصا أمام شاطئ النيل...مع زجاجة فارغة داخلها رسالة وداع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة