عادي أن "يدّغمس" دستوريو الأنظمة الشمولية من أجل تغبيش وعي الشعب، أو كسب الوقت للاستمرار في سدة الحكم، لا يتورعون في ذلك لإحساسهم أنّ الشعب ليس لديه فضل في تقلدهم مناصبهم القيادية، أما أن يصدر مثل هذا السلوك من شخص في مقام الدكتور عبد الله حمدوك، الذي كلفه الشعب برئاسة وزراء حكومة ثورة ديسمبر الانتقالية، فإن هذا السلوك المجافي للشفافية لهو بجد امر مؤسف ومخيب للآمال، ومحبط للرجاء المعقود على صيت الرجل.
كمنوذج فقط، في هذا المقال، نرّكز على مواقف السيد رئيس الوزراء الموقر من ملف التطبيع مع دولة إسرائيل، منذ لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، نتنياهو رئيس وزراء دولة إسرائيل في مدينة عينتيبي اليوغندية في شهر فبراير 2020م، إلى آخر تصريح له في هذا الشأن، على أعقاب مؤتمر باريس الاقتصادي الذي انعقد قبل أسابيع.
ولسنا معنيين كثيراً في هنا بمواقف التيارات السياسية، والطوائف الدينية، والتكتلات المدنية من هذا التحول الجذري في موقف الدولة السودانية من الكيان الصهيوني المحتل عبر التاريخ، بقدر اهتمامنا برصد التحولات في مواقف السيد رئيس الوزراء خلال مخاطباته الشعب السوداني الذي توسم فيه الخيرية، وتعشم فيه الشجاعة السياسية، والمصداقية الأخلاقية، وقدم له السند، وبادله المحبة بصورة لم يحظَ بها أحد من قبله.
· في بداية الحدث، أنكر السيد رئيس الوزراء، علمه بلقاء الفريق أول البرهان بنتنياهو، ونفى موافقته مساعي التطبيع، بينما أكد رئيس مجلس السيادة علم السيد حمدوك ومباركته لذلك الحدث المفاجئ، واتضح أن الأخير كان صادقا، وأن السيد حمدوك لم يكن شفافاً بما فيه الكفاية مع شعبه في إفاداته الأولية.
· بعده، طفق سيادته يكرر على مسامع الشعب السوداني، بملء فيه، أنّ الكلمة الأخيرة بشأن التطبيع مع إسرائيل، سيكون للمجلس التشريعي الانتقالي.
· وكان حمدوك قد أكد لوزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، خلال زيارته للخرطوم في أغسطس عام 2020م أن حكومته الانتقالية غير مخولة بالبت في قضية إقامة علاقة مع إسرائيل. وأكد ذات الموقف وزير الإعلام حكومة حمدوك الأولى فيصل محمد صالح بقوله رداً على الطلب الأمريكي بتطبيع العلاقات مع إسرائيل: "المرحلة الانتقالية في السودان يقودها تحالف عريض بأجندة محددة لاستكمال عملية الانتقال وتحقيق السلام والاستقرار في البلاد وصولاً إلى قيام انتخابات حرة"، وأضاف: "لا تملك الحكومة الانتقالية تفويضا يتعدى هذه المهام للتقرير بشأن التطبيع مع إسرائيل".
نقيض لكل هذه التصريحات، فقد أجاز مجلس الوزراء السوداني في السادس من أبريل الماضي مشروع قانون إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل القائم منذ عام 1958.
· وصّرح د. حمدوك لصحيفة "معاريف" العبرية، بعد مؤتمر باريس الاقتصادي مطلع هذا الشهر أنّ: "اتفاق التطبيع مع إسرائيل في مصلحتنا وسنلتزم به".
لا نرى مبرراً للسيد رئيس الوزراء يضطره لكل لهذه "الدغمسة" السياسية، والذي لا يستحقه الشعب السوداني الواعي، كان بإمكانه، أن يتحلى بالشجاعة الكافية، ويخاطب الشعب الذي كلفه بتولي رئاسة وزراء هذه الفترة المفصلية من تاريخه، ويوضح له، أنه وبحسب معرفته وتواصله بدوائر صنع القرار الدولي، لا مناص من التطبيع مع دولة إسرائيل باتخاذ خطوات عجلى، لا تحتمل تعقيدات تكوين المجلس التشريعي، وأن هذه الخطوة ضرورية وقدرية، للخروج من قائمة الدولة الراعية للإرهاب، واستعادة البلاد لعلاقة الدولية، التي تمكنها من التعافي الاقتصادي، الضروري للعبور بالبلاد إلى بر التحول الديمقراطي المنشود، وأنّ حكومته اتخذت هذا القرار، وهو يتحمل تبعاته، وينتظر ردة فعل الرأي العام للشعب السوداني، يبارك له هذا التوجه، أم يعفيه من التكليف؟
هذا ما كنا نتوقع من السيد حمدوك، وما كنا نظن أن الجبن السياسي، سيضره يوماً "للدغمسة" السياسية غير اللائقة بسيادته، وإن كان هذا غير ممكن في الهواء الطلق، كان بإمكانه، إطلاع الحاضنة السياسية التي اختارته نيابة عن الشعب، والتي نراها هي الأخرى منقسمة على نفسها من هذا التوجه، والبعض متوجس، وكيانات معتبرة معارضة لها بشدة، لكن ما يهمنا هنا، افتقار السيد حمدوك للشفافية الضرورية لمستقبل حياتنا السياسية، وكان أملنا أن يرسي سيادته أسلوبا جديدا يناسب مستوى الوعي الجماهيري المتنامي، ويميز فترة رئاسته، ويفصلها عن النظام الشمولي الأحادي البائد، ولكن هيهات!!
فمما لا شك فيه، أنه يخشى السقوط، ويهاب الفشل، لذا يضطر "للدغمسة"، يهرب من الشفافية، كسباً للوقت، وأملاً في العبور، بأي ثمن، نخشى أن سيادته، "لن يقتل الضربان، ولن يسلم من العفن"،
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة