[email protected] في غابة شبيكة، في أواسط حوض السليم، عاش يشقى أطراف الليل وكل النهار ليسعدَ غيره في ثيابه الرثة ونعليه المرقوعتين وشاله "القُطرة" وفأسه البلطة التي لاتفارقه وابتسامة على وجهه تراوح بين الظهور والاختفاء، لا يتدخل في شؤون أحد ولا يُفصح عن شعوره لأحد، همومه تسكن معه ويحملها وحده وليس له رأي يشاركه فيه أحد! رزق اليوم باليوم، وماتجود به المعيز لكنه ماطأطأ رأسه يوماً ولا حنى ظهره لأحد، راضٍ بما قسمه له الله من رزقٍ قبل خلقه! وقف بشاربيه المنبثقين من تحت أنفه الأشمّ المستقيم بزاوية قائمة وحاجبيه الدقيقين وعينين تشع منهما اليقظة، ووجه انعجن بالقسوة. ظل قرابة الساعة يعلو صدره ويهبط، ينشل الدلو ويسكبه في الحوض حتى امتلأ تماماً. ثم وقف على تلة صغيرة قرب الحوض وهو يتصبب عرقاً تنضح منه روائح البرم والعِلّف والحليب والخبز والسمن والصمغ والقرض! ورفع يديه حذاء أذنيه وكأنه ينوي رفع الآذان وصاح بأعلى صوته حَيْ حيْ حيْ حَيْ أررررر أررررر أررررر وهو نداء الاستدعاء للمعيز لشرب الماء. وبدأت المعيز من كل أنحاء الغابة التوجه الفوري نحو البئر، وارتفع ثغاء السخلان والعنابليق والعِنقان، وتدافعت متزاحمة لتشرب من الحوض المملوء. وظل يشرف على عملية سقى معيزه منتهراً تلك "العنزة تَك تَك" " إِشْشْشِك " فتسجيب لأوامره، ثم ينتهر ذلك التيس المعتدي "دُك دُك دُك" "إِشْشْشْشِك" . أحصى "المال" وهو يشرب كما يحسب المسبّح حبات مسبحته. يعرف أغنامه ويستطيع أن يعرف المفقود منها في لحظة رغم أن عددها يقارب المئة رأس. وعند أهله البدو وجيرانهم من الرعاة متى ما بلغ عدد المعيز المئة سُمي مالاً، وما دون ذلك فهو "زريبة". ويطلق "المال" على المعيز دون الإبل والضأن. بعد أن فرغ من سقي المعيز، نظر ناحية جمله والمعروف " بالأخدر وأحيانا "بالجنافي" وهو البعير الذي يحمل عليه طعامه ومتاعه (الزاملة) وسُمِّي بهذا الاسم لأن أمه ناقة جَهَنيّة زاملة ليست للركوب أو السبق وأبوه جمل عَنّافي "جمل سرج " للركوب ، أي اسمه يتكون من تركيب مزجي من كلمتيْ جهني وعنّافي. فأتى الجَنّافي يصلح جملاً للركوب ولحمل الأثقال في آنٍ واحد. وناقته "أم شوشية" وسُمِّيت بهذا الإسم لطول شعر سنامها وحاشيها "الدُّقّ" ونادى (وُوو ـ وُوو ـ وُوو ـ وُوو) فجاء الجمل ّمُقيّداً يَسِك في قيده، أما الناقة فقد شبّكت مُقيّدةً تجاه حوض الماء وتبعها الحاشي وشَبَّكت "تعني حجلت وهي مُقيّدة أي وثبت في مشيها على الرجلين الاماميتين". ولما أراد الحاشي أن يدخل داخل الحوض انتهره "هج هج دي دي" فاستجاب متراجعاً. وبجانب 'إخ" أو "هِخ" للإناخة ينادي على أم شوشية بــ "عأ .. عأ" وهو نداء الاستدعاء للحلب أو للسرج أو للعليقة. بعد أن فرغ من سقي المال جلس ليتناول غداءه المكوّن من المدفونة بالحليب وبضع بلحات! نادى على كلبه كَلَس "صو صو صو"، فجاء جرياً يلولح ذيله وجلس باسطاً ذراعيه يلهث أمامه، فرمى له قطعة خبز على الأرض أكلها بسرعة وكأنه ابتلعها ابتلاعاً، وهزهز ذيله " ينيص" مرة أخرى فرمى له قطعة خبز أصغر من الأولى. فهو يتعامل كلس مع بلغة العيون وبحركات اللسان والذيل والأذنين والنباح، وهي إشارات يعرفها جيدا.ً فحركة الذيل المنخفضة كرقّاص الساعة ومد الأذنين إلى الأمام تعني أن كلس يترقب شيئاً، حركة الذيل السريعة تعني أن كلساً يشعر بالجوع أو العطش، والنباح المتقطع يعني أن أحدهم يمر بالمكان دون أن يشكّل خطراً على المال، والتحرك المفاجئ دون نباح يعني أن كلساً رأي شيئاً يمكن اصطياده، أرنب أو جدادة وادي ( دجاج الوادي) أوغيرها. أما الحركة المفاجئة والنباح الشديد العالي فتعني إنذار الخطر مثل ظهور ثعلب وشخص غريب. وعندما تكون أذناه متراجعتين ويرجع إلى الخلف أثناء النباح المتصل فذلك يعني الخوف الشديد، عند رؤية ثعبان أو ورل مثلاً. وعندما يريد كلس اللعب فأنه يرخي أذنيه ويرفع يده الأمامية اليمنى ويقف على ثلاثة ويرسل إشارات الدعوة إلى اللعب عبر حركات رأسه وأنفه! أما إذا أراد كلس أن يُعبِّر عن فرحه فهو يمُدُّ رجليه الأماميتين ويرخي صدره ويرفع صلبه ورأسه ويحرك ذيله وأذنيه. وحين يرى كلس كلباً معتدياً يقف ذيله مستقيماً متجهاً إلى الأعلى قليلاً وتتجه أذناه إلى الأمام مرتبّصاً مكشراً عن أنيابه، و ينبح نبحات عالية متقطعة، ويبدو في وقفته أعلى من ارتفاعه العادي لكنه لايعتدي على الأناث والجراء أبدا،ً فقط يكتفي بالشم من الخلف. و شمّ لبعضها من الخلف معروف في ثقافة تلك الجهات بـ "البحث عن السند". فهو يتعامل مع كلس بلغة أشبه بلغة "الإدراك"! كلمات الأمر التي يتعامل بها مع كلبه كلس محدودة وهي "صو" للنداء، و"جر" للنهي والزجر والطرد، و"إشكَع" للحث على الهجوم، والمعروف عندهم بالشركعة. (البحث عن السند قصة فلكورية مشهورة عند الرعاة تقول إنّه في أحدى الليالي اجتمعت كل كلاب الدنيا وكتبت وثيقة (دستور) ووضعتها ملفوفة في دبر أحد الكلاب وأقامت حفلاً حتى الصباح. وفي الصباح عندما أفاقت الكلاب ولم تعرف في دبر أي منها يقبع ذلك السند، ومنذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا والكلاب تشم است بعضها بحثاً عن أثر ذلك السند). وكان للمال تيس أقرع له زقلوم ضخم اسمه أبْ قُرُط، وسُمِّي بذلك الاسم لأن لَهُ زَنَمَتَينِ ضخمتين طويلتين مُعلَّقتين بجانب أُذنيْه (دَلالتين). وكانت لهذا التيس عينان يحيط بهما الصفار مما يجعل نظراته باهتة فارغة خاصة حين يرى الراعي يبسبس للشياه ويدعوها للحلب. ورغم ضخامة أبْ قُرُط وبلاهته ونظراته الفارغة حين تُحلب الشياه، إلا أنه كان فحل القطيع، وله دراية وحنكة في تعشير الغنم خاصة الجذعة من الغنم التي لم يسبق لها معاشرة التيس (الجذعة ويسمونها الجضعة وهي العَناق التي بلغت ثمانية أَشهر أو أكثر وصارت مهيئة للتيس) ، فهو دائم البحث عن العنزات الشائعة (الحائل)! وما أن ترخي أنثى ظهرها وتثني رجليها الخلفيتين عند التبول، يتحرك أب قرط و يشم بول العنزة ويقوم على مد رقبته ورأسه إلى الأمام مع رفع الشفة العليا لأعلى، ويكرف مستخدماً منبهات الشم التى إشارة تؤكد له أن العنزة فى حالة شياع وتهيؤ للطرق. فهو يستطلع بانفه ويتببَّع بها! وعند تأكده من أن العنزة شائع يحرص أب قرط بتعقبها والسير ورائها، ثم يقوم بدفعها لتخرج من وسط القطيع، وعندها تبدأ لبلبة أب قرط في العلو، و يخرج لسانه خارج فمه ويعطس ويضرب جنبات الشائع بأرجله فى استعراض واضح للقوة وإجبارها على الاستجابة. ومشهور عن أب قرط أنّه كثير الَلبْلَبَة والعطس عند السِّفاد(الجماع في الحيوانات). وعلى العكس من الأبل، فقطيع الماعز تقوده أنثى ويتبعها كل المال. فالتيس ضخم و” ريحتو تجيب الطاش” وهو الأعلى صوتاً، لكن دوره بايلوجي فقط ليس له نصيب في القرار والقيادة. أب قرط، مثل التيوس الأخرى، ليس له في القيادة أو في السلوك الجماعي، فدوره محصور في التناسل البايولوجي، ويحرص على حماية هذا الدور وحفظه بمنع التيوس الأخرى من الاقتراب من إناثه. فيهتاج أشد الهيجان ويكون في درجة قصوى من العدوانية إذا رأى تيساً آخر يحاول الاقتراب من إناثه ومحمياته. أصعب مهام راعي الأغنام على الإطلاق هي رعاية الصغار من الماعز، والمعروفة عندهم بـ "البَهَم"، حيث يُبني للبهم مكان خاص يعرف بالوكر وينطقونه "الوَكُر" بفتح الواو وضم الكاف، فيتم بناء الزربية بارتفاع مترين أو اكثر حمايةً للبهم من الثعلب (البعشوم). ونلاحظ هنا أنّ الرعاة يستخدمون كلمة الوَكر وليس الكرّ، فالكرّ يكون من سيقان العُشَر أو جريد النخل لحماية المحاصيل، والزريبة للضأن والماعز أما الوكر فيُبني من شوك صغار أشجار السنط ويسمونها الرَّبَد والواحدة رَبَدة. ولو ولدت العَزّ (العنزة) ثلاثة توائم، عادة ما تهتم باثنين منهم وتُهمل أو "تعمل رايحة" من التوأم الثالث. وفي الغالب ما يكون المتروك هو الأصغر حجماً أو الأضعف جسداً. ومنطق العزّ هنا "المال تلتينو ولا كتلتو" لأن لها ثديين فقط لا ثالث لهما. ولعله من هنا جاء المثل (المنفور يموت تحت عين أمّو). فمهمة الراعي هي الاهتمام بالتوأم الثالث وايجاد الأم البديلة والأشراف على إرضاعة حتى يقوى عوده ويستطيع الاعتماد على نفسه! والمتروك يستطيع العودة إلى حضن أمه إن لم تنفره! أي تطرده! فإذا نفرته يتم مسكها وإجبارها على إرضاعه حتى تشم استه، فإن فعلت فذلك يعني القبول به، وإن رفضت فينشأ المتروك وحيداً وسط القطيع! وهذه العملية تبدأ تلقائياً عند لحظات الولادة، فالغنم ليست مثل الأبل، الناقة لا تلحس جناها، فلابد من وجود الراعي ليخرج الجنين من السَباية ويحك لهاة الحاشي لبدء تشغيل نظام الرضاعة. السَباية أو الفَقاية هو الغشاء الذي يخرج فيه الجنين، وبعده يخرج السِّلا، ويقولون سَلّى أي أخرج السِّلا ورماه عالياً فوق أحدى الأشجار، أما العز فلا تحتاج إلى تلك المساعدة في الحالات العادية! في حالة التوائم الثلاثة تكتفي الأم بلحس ونظافة اثنين من التوائم، وترك الثالث وهنا لابد من تدخل الراعي لإنقاذ السخل الثالث والعناية به . أحياناً يتربط السخل المنفور بالراعي ويبدأ في تعقب الراعي وتنشأ تلك العلاقة التي تشبه سلوك الكلاب، بين الراعي والسخل إلى أن يصل السخل مرحلة الاستغناء عن اللبن فتتلاشى تلك العلاقة. العتود المنفور أو السخلة المنفورة تكون عبئاً على الراعي وتصيب المنفور حالات من التوهان واللانتماء وسط القطيع. ولذلك فتجبر الأم في بعض الأحيان على شم جناها. و كان الراعي وزملاؤه يستخدمون قرعة الحليب كدلوكة ، فيمسكون بأم السخل المنفور ويغنون "بلال يا بلال النافراه أمو... يبكر بي وليد ونشيل نشمو". أذكر مرة قبلت الأم وشمت بنتها السخلة واعترفت بها وأطلقوا على تلك السخيلة "الشمّوها" وصارت بمرور الزمن عزاً شهيرة ولها "الرُّقط بت الشموها" و"بريق بت الشمّوها"،و" غِرير بت الشموها"، و"كريت بت الشموها" ، و "أم دلال بت الشموها"، و"كجال بت الشموها" ، وهكذا! ومرة فشلت كل المحاولات فأسموا تلك السخلة المنفورة "النفتا" ونفتا في قاموس الراوعية تعني " نكرتا حطب". وأيضاً صارت بمرور الزمن عَزّاً شهيرة ولها "زعوط بت النفتا"،و "جِديل بت النفتا" ، و"قِريع بت النفتا"، و"أم حجيل بت النفتا". وكما ذكرنا في مقال سابق أن رعاة الإبل أربعة: وهم الدليل يليه الخبير يليه الإنقيب ثم الراعي. فالقرّاع وهو أدني مراتب رعاة الإبل، أما رعاة الغنم هم الراعي والأجير، الراعي عادة شريك أو "سيد حق"، أما الأجير فيأخد أجره. والراعي يسرح ويحلب ويَصُر ويرقع السعن ويرضّع البهم ويملأ الحوض ويكرين ويتكئ وينسج الكتقة ( وهي باب يصنع بنسج أعواد ملساء ويستخدم كباب في مداخل الزرايب) ويدق الدِّرسة ويحِت العِلّف ويَوَلِّد ويلجي. وللراعي بلطة أو فرّار ومحجان وعصا ومنقاش لنزع الشوك يُعلق في طرف تكة السروال، وله كسوة وأجر إن كان أجيراً. والكسوة عراقي ولباس ونعلان، وقطعة في حجم الشال معروفة بتوب الراعي. كان قطع الأشجار ممنوعاً منعاً باتاً. وكان لحوض السليم خفراء مراقبة وحراسة يحرسون الغابات ويلزمون الرعاة بالتزام قواعد قش التحاجير. ويلبسون الزي الرسمي وهو زي أشبه بزي الشرطة الموسوم بالبرنطية الدائرية الكبيرة المزينة بريش النعام وحذاء بوت و رداء ولهم سلطات ومكانة في المجتمع ويهابهم الرعاة. وكانت لهم سلطات مصادرة فؤوس من يقطعون الأشجار وأخذهم إلى محاكم الإدارة الأهلية. وكذلك لهم سلطة أخذ أغنام من يرعى القش المحجوز (المحجّر أي قش التحاجير) إلى كارة حكومة، ولايتم إطلاقها إلا بعد دفع غرامة مالية. ولكثافة أشجار الطلح والسنط والإثل والطرفاء لا يستطيع الخفراء دخول كل المناطق فيعتمدون على حاسة السمع " حس الفأس" أي صوت الفؤوس وهي تقطع الأشجار! لذلك ينتهز الرعاة أيام السوق والجُمُع لقطع الأشجار أو رعي قش التحاجير. العرف عند البدو هو القديم الثابت مما اعتاده الناس وساروا عليه واحتكموا إليه، وهذا ما يجعله يختلف عن القوانين التي تفرض على الناس فرضاً، لأن العرف عندهم اختاروه وتواضعوا عليه ورضوا به لأنفسهم وتقبلوه، وهذا هو سر قوة العرف والالتزام به ولرعاة الغنم أعراف صارمة: أولها الخوة (الأُخُوّة) وثانيها الالتزام بالعُرف. "فلا يحتلبن أحدهم ماشية أحد بغير إذن"، فإن فِعل ذلك يُعد في عرفهم من الموبقات. ولا يبيعون اللبن ويصفون من يفعل ذلك بـ "أب رويب" ولايصنعون الجُبن أبدا،ً ولكن لا بأس من عمل السمن وبيعه . و من أعرافهم قلب الوسيق ( رد الحيوان الضال إلى أهله). ومنها أيضاً ألا يغير الوسم ولا يعّدل حتى في حالات انتقال الملكية. وفي حالات الإهداء والبيع، فالمشتري من خارج المجموعة يحق له وضع وسم مختلف على ولد (تيراب) الأناث إن ولِدت، فتيراب الذكور لا وزن له. ومن الموبقات عندهم سرقة بهيمة أحدهم، فمن ثَبُتت عليه سرقة بهيمة لا مكان له وسطهم! ونختم القول بأن الرعي في مجتمعاتنا البدوية له تاريخ طويل وأصول وأعراف ومصلحات ومعرفة واسعة و إرث ضخم وله أشعار قصص حكاوي وبعد ثقافي عميق وهام في حياة أهل السودان. وهذه دعوة مع تراجع الرعي لتوثيق حياة الرعاة وأثارها العميقة في كافة مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية في النجدة والكرم والشهامة والمروءة والعفة وغيرها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة