هذا تعذيب، لا يوجد أدنى شك في ذلك. هذا البلد هو عبارة عن بيت أشباح كبير. ظاهره العذاب وباطنه العذاب. منذ أن وجد أجدادنا فيه، وفقحنا ثم صأصأنت. تعذيب في كل مناحي الحياة.. الطبيعية والتفاعلية. فعلى مستوى الطبيعة نحن في رقعة أرضية ليس فيها فصل ربيع. وباقي الفصول صيف تتخله أيام معدودات من بضعة أمطار وبعض زخات من برودة، ونسميهما شتاء وخريف. تبلغ درجة الحرارة الآن أربعين درجة، وعلى عكس كل طبائع الحشرات، فإن البعوض ينتشر في الشتاء ويسبت في الصيف. يدخل الحر في العظم، فينخره، يجعل أنفاس البشر ثقيلة، روحهم أقل استقراراً من سائر البشر، حركتهم بطيئة، أمزجتهم ضائقة. تعبر الأتربة السماء فتعتم. ثم تستقر كثبانا، فتغتم. الخضرة نفسها باهتة شاحبة، ترهقها قترة، مكفهرة الأجواء شاحبة الأنحاء. وفوق هذا كله، لم تأتها حكومة إلا وكانت ألعن من أختها. اللصوص في كل مكان، ولا سبيل فيها إلى الأمان. أساسيات الحياة مفقودة، والفرحة فيها معدودة، فلا غاز ولا كهرباء ولا ماء ولا خبز ولا عمل إلا بشق الأنفس. الفقر فيها مدقع، والموت فيها أصل، والحياة استثناء. لا يأتها خير أبدا، والفضل فيها بددا، شحيح إنسانها، قاحلة أركانها، إن رأيتها لم ترَ فيها ما يسر الناظر، فالشوارع محطمة، والمتسولون في كل مكان. ومن يتسنمون الحكم فقراء يخرجون منه أغنياء، فاسدة قلوبهم. لا تعبر بزاوية من مرفق عام إلا وفيه الرشوة والمحسوبية، والدسائس والخسة، والتعنت والشقاق، والتملق والنفاق. بأس أهلها بينهم شديد، فإن بطشوا بطشوا جبارين، وإن كالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ذمتهم واسعة، وقلوبهم غلف، وعقولهم عجفاء. ما سارت امراة إلا وتحرشوا بها، ولا ضعيف إلا وأذلوه فأقاموا عليه الحد، ولا قوي إلا وتملقوه. إن جاعوا سرقوا وإن شبعوا زنوا. والخير فيهم قليل، والشر فيهم غالب. لا يرعون إلا ولا ذمة. كلما جاءت منهم أمة لعنت أختها..وهم في ذلك سواء. ومنذ الإستقلال، ما أضافوا شيئاً بل خربوا ما بين أيديهم، ينقضون غزلهم من بعد قوة أنكاثاً، حسداً من عند أنفسهم، فلا يبقون لغيرهم من الخير حبة خردل. متحفزون تحفز الجاهلية الأولى، ونعراتهم قميئة الفوَران. وإن عبرتَ الأرض، فخراب كبير إلا قليلاً. تتوزع فيها الاوساخ، والحشرات والكلاب وال############ان. تكحل الأتربةُ العينَ، والعَطن الأنف. فكأنما تسيرُ في مقبرة من سحيق الزمان..قد لفتها الحيرة الكبرى، والموت الزؤام. ولكن كما قال الشاعر: وكنا ألفناها ولم تكُ مألفا كما يؤلف الوجه الذي ليس بالحسن. وكما تؤلف الأرض التي لم يطب بها.. هواء ولا ماء ولكنها وطن.. وعجبي..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة