• الماء هو أساس الحياة، وأصل كل الأحيـاء (وجعلنا من الماء كل شئ حي..الآية)، وقد نشأت أعظم الحضارات الانسانية ونمت مدنها وازدهرت على ضفاف الأنهار. فقد أدرك الناس منذ البدايات الأولى لوجودهم على هذا الكوكب أن ديمومة استقرارهم مكاناً وزماناً مرهون بالماء، ولم يزل الأمر كذلك حتى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. تفَحّص خارطة العالم بقاراته الست أو السبع، ستجد أن الغالبية العظمى من عواصم الدول ومدنها الكبرى نشأت على شواطئ البحار والأنهار، حيث الماء والزراعة وتبادل السلع والمنافع .
• ولكن نحن مَن نُحدِث الخلل في هذه العلاقة المتوازنة مع مصادر المياه، ليتحوّل الماء من نِعمة إلى نِقمة، ومِن مصدر لنمو الزرع والضرع إلى وسيلة للتدمير وإزهاق الارواح.
• نحن الذين اعتدينا على النيل قبل أن يعتدي علينا. اعتدينا عليه بتجريفنا للأراضي المتاخمة له وردمها بالحصباء ثم دكّها وتحويلها إلى مباني إسمنتية! فهذه المساحات المحاذية للنهر هي في حقيقتها جزء من النهر، فهي المتنفّس الطبيعي للنهر في مواسم الفيضان، فيغمرها النهر بالماء المشبّع بالطمي ليجعلها من أخصب الاراضي للزراعة الفيضية.
• وعلى سبيل المثال، نجد أن تاريخ مدينة الخرطوم في عهد التركية السابقة (١٨٢١-١٨٨١م) يفيد بأن المروج الخضراء والبساتين المثمرة كانت ممتدة بمحاذاة النيل وكانت تزوّد المدينة باحتياجاتها من الخضر والفاكهة، ففي كتاب: السودان من التاريخ القديم الى مرحلة البعثة المصرية للكاتب عبدالله حسن، نقتبس من مذكرات القباني عن العاصمة الخرطوم، ص/170 ما يلي (وقد ارتفعت أسعار الأراضي على شاطئ النيل أولا، وكانت مرغوبة لغرس البساتين لسد حاجات المدينة من فاكهة وخضروات ونخيل وأعناب تؤتي أكلها في العام مرتين: واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف، فكان سكان الخرطوم يأكلون العنب شتاء وصيفاً).
• فهذا الوصف يشير إلى الوضع الطبيعي لعلاقة الناس حينها بالنيل بفرعيه الأبيض والأزرق، حيث لا اعتداء على حِمَى النيل من طرف المواطنين، وبالمقابِل جاد عليهم النيل بالطمي والخصوبة وفواكه الصيف والشتاء.
• ولكن عندما اختلت المعادلة بسبب سلوكنا العدواني تجاه النيل وأراضيه، اجتاحتنا الفيضانات المدمرة، التي أودت بحياة أكثر من ١٠٠ شخص، وتضرر من آثارها أكثر من نصف مليون فرد وحدث انهيار كلي أو جزئي لمئات المنازل حسب تصريحات وزيرة العمل والتنمية الاجتماعية لوكالة أنباء السودان والتي ذكرت فيها أن مجلس الامن والدفاع أعلن حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر بسبب الفيضانات واعتبار السودان منطقة كوارث طبيعية (4/9/2020م).
• في الحقيقة لم يكن أمام الحكومة خياراً آخر غير إعلان حالة الطوارئ وإعلان السودان برمته منطقة كوارث، فالمناظر المنقولة عبر القنوات من سنار وسنجة وأحياء العاصمة وخصوصاً أحياء شرق النيل وأحياء الكلاكلات واللاماب تُجسِّد الوضع المأساوي للناس بعد أن غمرت المياه الطرق والاسواق والبيوت وحتى المخابز غمرتها المياه واتلفت مخزوناتها من الدقيق.
• لا ننكر الجهود المبذولة من قِبل الدفاع المدني والأجهزة الاخرى والمدعومة بجهود الافراد ولجان المقاومة لرفع الضرر عن المنكوبين، ولكن المسألة في تصوري، تستلزم حلولاً جذرية بدلاً من الحلول الوقتية التي لم تُجدِ نفعاً منذ فيضان ١٩٤٦م وحتى يومنا هذا. في فيضان عام ١٩٤٦م تنادى الناس وتضافرت جهودهم لصد الفيضان، وخلّدت فعلهم الأبيات المشهورة: عجبوني أولاد الأهالي/ طول الليل واقفين سواري / ترسوا البحر بالطواري/ ما شالونا باللواري.
• ومنذ ذلك الحين ظلّ تعاملنا مع الفيضانات تعاملاً ارتجالياً، ودائماً ما يفاجئنا الفيضان فنلجأ للفزع والنفير ونملص البِدَل والقمصان ونترس البحر خرسان حتى انتهاء موسم الفيضان ليعود الجميع إلى سباتهم العميق.
• أعتقد أننا في أمس الحاجة الى تنفيذ حلول استرايجية لموضوع الفيضان حتى لا تتكرر مآسي الانهيارات والدمار وفقدان الأرواح.
• جزء من هذه الحلول الاستراتيجية يمكن طرحها على النحو التالي:-
1. وضع لوائح جديدة تنص على منع البناء على شواطئ الأنهار، مع تحديد المسافة الفاصلة ما بين الشاطئ وخط البناء، وهو نظام مطبّق في معظم دول العالم بحيث تصبح الشواطئ مفتوحة لكل الناس بعد تزويدها بالمنشآت الخدمية من مطاعم وأكشاك وملاعب للأطفال. في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، لا يُسمح بتشييد المباني السكنية والأبراج في الواجهات البحرية إلا على مسافة ٤٠٠ متر من الشاطئ، وهذا ما نأمله في السودان، فلا ينبغى حجب النيل عن العامة بهذه الأبراج العالية. يجب معالجة ما يمكن معالجته من أخطاء الماضي، وتشديد القوانين التي تمنع أي اعتداءات جديدة على شواطئ الأنهار وأن يشمل المنع عمليات الدفن لبعض مجاري الأنهار من قِبل المستثمرين بغرض تشييد المباني والمنتجعات.
2. إعادة تأهيل البنية التحتية للمدن السودانية، وعلى رأسها مصارف الأمطار والسيول وشبكات الصرف الصحي وإعادة سفلة الطرق الداخلية والرئيسية وفقاً للمعايير والمواصفات الدولية المعتمدة حتى لا تتحول تلك الطرق الى بؤر ومصدّات تعيق تصريف السيول والامطار.
3. اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع البناء في بطون الأودية، حيث كشفت الفيضانات الأخيرة أن العديد من القرى التي داهتمها السيول تمّ تشييدها في بطون الأودية ومجاري السيول، عليه نناشد الجهات الحكومية بإزالة هذه القرى فوراً وتعويض ساكنيها في مواقع أخرى مناسبـة..
نسأل الله الرحمة لمن فقدو أرواحهم جراء هذه السيول والفيضانات، وعاجل الدعم والمساندة لكل الذين فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم بسببها .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة