في قريةٍ لا يتجاوز عدد سكانها مقدرة الفرد على استيعاب أسماء قاطنيها عاشت أسرة الحاج اسماعيل آدم عيشة الرضا رغم فقدان رب الأسرة بمرض عجز الطب التقليدي عن علاجه بل وربما كان ذلك العلاج سبباً من أسباب الوفاة. تجدر الاشارة إلى أن الوضع المادي للأسرة المكونة من خمسة أفراد لم يتغير كثيراً بُعيد فقدان الأب ذلك لأن الأم واسمها حواء كانت وما زالت هي ركيزة الأسرة وعماد اقتصادها كسائر النساء في الريف، فالمرأة هي من يقوم بأعباء المنزل وشئون الزراعة فضلا عن رعاية القليل من الماعز وشئ من الدواجن في غياب الرجل أو وجوده. لقد اقترنت حواء -عندما كانت فتاة صغيرة السن- بالحاج اسماعيل الذي يكبرها بسنوات تقارب الفارق العمري بينها وبين والدها دون احساس بالغبن، ولماذا تحس بالغبن فتاة تعيش في مجتمع تسوده العادات وتحكمه أعراف الرجال؟ وقديما عندما تفشى الظلم في مجتمعاتنا أعلنوها داوية بأن المساواة في الظلم عدل... وأنعم به من عدلٍ يبث السعادة في روح حواء وأخواتها حتى وهن يفتقدن أدنى حقوق المرأة مثل حق الموافقة على طلب الزواج أو حق مطالبة الزوج من بعد ذلك بتحمل جزء من تبعات الأسرة من انفاق ورعاية!!! فلا عجب أن قامت حواء حق القيام برعاية أسرتها بعد وفاة زوجها بذات الكيفية التي كانت تقوم بها في حياته وهي راضية مرضية، ولا عجب إن اجتمع نساء القرية عندها بين الفينة والفينة لمساعدتها هي أو غيرها في انجاز مهمة تتطلب العمل الجمعي وتضافر الجهود بلا مقابل مادي أو حتى عبارات شكر ... وتلك سنة من السنن الاجتماعية الرشيدة في الريف. ذلكم ما كان من حال حواء وبنات جنسها في تلك القرية الوادعة يوم كان الريف معزولاً عن الحضر ولا يعرف تقنيات الاتصال الحديثة ويعيش أهله في هدوء لا يكدره إلا أصوات الرياح والرعد وهي أصوات محببة لانسان الريف وحيوانه على حد سواء رغم ما في طياتها من مخاطر، وكيف لا تكون كذلك وهي علاماتٌ للاهتداء بدخول الخريف: موسم الخيرات وبوابة الرزق للقرية وأهلها وأنعامها. وهكذا توالت مواسم الخريف العام تلو العام وهي تجلب الرزق الوفير لحواء وأسرتها تارة وتضن بالرزق تارة أخرى بينما تسود القناعة في الحالتين... وتمضي الأيام والشهور والسنون ولسان حالها يلهج بالثناء لرب العباد. ولأن دوام الحال من المحال يتسامع سكان القرية بحرب تدور رحاها في قرى مجاورة هجرها أهلها ونزحوا للمدن تاركين خلفهم معظم متاع الدنيا على قلته لطول المسافة وقلة المتاح من وسائل الحركة على بدائتها. ورغم أن طبول الحرب كانت داوية إلا أن معظم سكان تلك القرية بطيبتهم المتناهية وبساطتهم التي تدعو للعجب ظنوا أن غاشية الحرب لن تطالهم، خاصة وأنهم لا يعرفون فيما يقتتل القوم ولماذا اندلعت الحرب من أصلها ومن المنتصر ومن المهزوم. ورويداً رويداً اقتربت الحرب وأخبارها من القرى القريبة جداً ودخل الزوون بلغة العوام وبدأ الرعب يتسلل للنفوس خاصة عند النساء لأنهن أكثر تصديقاً وبثاً للشائعات بين سكان القرية الآمنة. وبين عشية وضحاها تفشى الاختلاف بين القوم وانقسم رجال القرية ما بين راغب في النزوح قبل وقوع الفأس في الرأس وما بين راغب في التمسك بالأرض وممنياً النفس بسلام يظن العاقلون من أهل القرية أنه أضحى بعيد المنال تماماً كسراب يحسبه الظمآن ماءا. تسرب الخوف إلى قلب حواء وتضاعف في غياب رب الأسرة، وصارت لا تنام بالليل الا قليلا ... وظلت تتفقد أفراد أسرتها كلما أقبل الليل على قريتها وعم بظلامه الدامس طرقات وشوارع القرية... وقد تفعل ذلك لأكثر من مرة في الليلة الواحدة خاصة ساعة تهب من النوم مذعورة وقد رأت في المنام أنها فقدت فرد من أفراد أسرتها. ولقد أضحى هاجس الفقد ظلاً ملازما لا يبارح مخيلة حواء ويؤرق مضجها في كل ليلة، وتلك معضلة عصية على الحل لو تعلمون... إذ كيف لإمرأة فقدت زوجها ألا تحظى بقسطٍ من الراحة وهي تمضي جل نهارها في طلب الرزق لعيالها بمشقة وعناء كبيرين... ولو كان الأب حاضراً لربما شعرت بشئ من الأمان وأخلدت للنوم ولو لساعات قليلة. ومما ضاعف من وتيرة الخوف بمتوالية هندسية عند حواء صغر سن الابناء والبنات: فزكريا الإبن الأكبر في الثامنة من عمره يليه أدم وهو ابن سبع فعائشة ابنت خمس وزهراء ذات الأربع سنوات. وكم حاول زكريا مرات ومرات أن يدخل الطمأنينة في قلب أمه كلما اسيقظ ليلاً ورأها مذعورة فيترك فراشه لينام بجوارها فيلتصق جسده النحيف بجسد والدته في حميميةٍ تجلب لها بعض الاحساس بالأمن. زكريا يفعل ذلك وأكثر رغم صغر سنه وهو ابن الثامنة الذي لم ينل حظاً من التعليم في قرية لا تعرف ماهية المدرسة ولم تسمع بالتعليم النظامي من قبل... وزكريا هذا رغم أميته يشع منه ذكاء فطري يعينه على إدرك جزءً من أحاديث الرجال وهواجس أمه ثم التفاعل بصورة توحي إليك بأنه أكبر من سنه بكثير، وتلك نعمة وفطانة لها جذور عميقة في تربة الريف. وفي فجر يوم نحسٍ استيقظت القرية على وقع هجوم مفاجئ يجتاح السوق في وسط القرية. والسوق يا سادتي الكرام مجموعة صغيرة من الرواكيب المتناثرة بغير نظام وقد تعارف أهل القرية على تسميتها بالسوق وما هي بسوق... وقع الهجوم الغادر واذا بنيران الحرائق تضئ سماء القرية وتحيل العتمة نهاراً بما يكفي لمشاهدة أرتال من الرجال، منهم من ينهبون ومنهم من يطلقون النار بينما سكان القرية رجالاً ونساءً وأطفالاً يهربون في كل الاتجاهات ويختلط الحابل بالنابل في مشهد من مشاهد القيامة الصغرى... وبفطرتها اختارت حواء الركض في اتجاه الشمال مع أقاربها وجاراتها دون هدف سوى النجاة من القتل أو الحريق. خرجت حواء من القرية تاركة وراءها كل شئ إلا صغارها الذين نال منهم رعبٌ لا يعرفون له سببا.. وارتفعت أصواتهم مع أصوات غيرهم من الاطفال بنحيب يتفطر له القلب في واحدة من أبشع مظاهر ظلم الانسان لأخيه الانسان. ما أقسى أن تفر من أرضك وزرعك وماشيتك ومراتع الصبا قسراً دون أن تعرف سبباً واحداً يجعلك تركض في اتجاه المجهول!!! بعد مسيرة أيام حالكات مضنيات وصلت حواء - برفقة أطفال يتساقطون من الإعياء الواحد تلو الآخر- إلى أطراف مدينة مكتظة بالنازحين من كل صوب. واختارت هي والناجيات من جاراتها وأقاربها النزول في جوار مجموعة من الأسر سبقتها في النزوح وشاركتها بؤس الحال وسوء المقام. ولعل الانتماء الإثني - وإن تباعدت القرى- كان سبباً وجيهاً لاختيار ذلك الموقع، فالقبيلة صمام أمان لمثل حواء وأخواتها عندما تكون الدولة طرفاً من أطراف النزاع. وبالفعل وبكل أريحية تقاسم النازحون القدامى مع القادمين الجدد قليل الزاد والفراش مع وعدٍ بتحسن الحال حال قيام منظمات العون الانساني باجراءات الحصر وتخصيص خيمة لكل أسرة فضلا عن امكانية الحصول على عون غذائي. بالأمس القريب كانت حواء تعيش حرة في بيئة خبرت دروبها وأهلها وتأقلمت مع خيرها وشرها واليوم وجدت نفسها وأسرتها مجرد أرقام في معسكر نزوحٍ تستجدي فيه بعض مما يجود به أهل الخير... وإنه لمن المؤسف حقا أن تنال حواء وأسرتها جزءً ضئيلاً من ذلك الخير بعد أن تقضي معظم يومها وهي تزحف في صفوف متراصة... أما مصير الغالبية العظمي من ذاك الخير... فلا تسأل عن أشياء إن تبدى لكم تسؤكم . ولأن ما يقدم من عون غذائي أقل من احتياج الأسرة قامت حواء بتسجيل زكريا وآدم ضمن برنامج يقدم الغذاء مقابل التعليم. وبالتأكيد ما كان متوقعاً من حواء أن تدرك أهمية التعليم لمجرد انتقالها من قرية كل سكانها من الأميين الى أطراف مدينة مكتظة بالأميين... ولولا حاجتها لاطعام الصغار بوجبة افطار تقدم للتلاميذ لما سارعت إلى الحاقهم بالمدرسة الوحيدة بالمعسكر. ولقد ساهم التحاق الذكور بالمدرسة في تقليل الطلب على الغذاء رغم أن الابن الاصغر آدم كان دائم الشكوي من رداءة الوجبة المدرسية وشديد التملل من تبعات الدراسة ويحمل أمه فوق طاقتها (إنه عمل غير صالح). وفي كثير من الحالات التي حاولت فيها حواء بيع جزء من الاغاثة بيع المضطر لمقابلة احتياجات عاجلة مثل تكاليف طحن الذرة كانت هي عرضة للاستغلال بواسطة التجار وشيوخ القبيلة بما يدفعونه لها من ثمن بخس شراءً وما يطلبونه من ثمن مضاعف بيعاً لذات السلعة. ولعل سوء الاستغلال مع عزة نفس إمرأة لا ترضى بالتسول مورداً من موارد الدخل لأسرتها رغم فقرها هو عين ما دفع حواء للدخول في سوق المعسكر تتاجر في بعض مواد الاغاثة الممنوحة لها ولأقاربها بلا وسيط وتعود لخيمتها وقد غنمت بعض احتياجات الأسرة وقليل من الفائض النقدي. والفائض -على قلته - كان كافيا لتنتقل حواء من التجارة في مواد الاغاثة الي تجارة الخضر وصارت تشتري من المزارعين وتبيع في سوق المعسكر وبدأ وضعها الاقتصادي يتحسن رويداً رويداً وصارت أكثر اعتناءً بنفسها لما لمسته من اقبال الناس على الشراء كلما زاد اهتمامها بنفسها. على الجانب الأخر تفوق زكريا في دراسته بصورة ملفتة وحظي باهتمام من معلميه في حين تعثر آدم وهرب من المدرسة في سن المراهقة وانضم إلى قطاع كبير من شباب المعسكر ممن أدمنوا العطالة وتمادوا في تعاطي المخدرات دون أدنى احساس بمعاناة ذويهم وصبرهم على الشدائد في السعي الدؤوب لضمان حياة كريمة لهم ولغيرهم... وحين ضاقت بآدم ورفاق السوء السبل تركوا المعسكر بل وتركوا المدينة برمتها وفشلت حواء في معرفة مصير ابنها رغم أن بعض أصحابه أكدوا لها انضمامه لواحدة من الحركات التي تقاتل ضد الدولة. اختار الأبن الأكبر زكريا – بعد مواصلة تعليمه- التطوع في خدمة النازحين ضمن جمعية الهلال الأحمر وسرعان ما هجر الجمعية لتأسيس منظمة محلية مع مجموعة من المهتمين بقضايا النزوح وعلى الرغم من صغر المشروع الأول للمنظمة إلا أن حماس منسوبيها ونجاحها في دعم النازحين لفت اليها الأنظار وبدلا من تنفيذ مشروعات بالباطن صارت توقع العقود مع منظمات الأمم المتحدة مشروعاً تلو المشروع. لقد عايش زكريا معاناة والدته ونساء المعسكر اليومية لسنوات طويلة منذ صغره ولعل ذلك كان دافعه للاجتهاد في دراسته ثم السعي بجدٍ واخلاص لخدمة النازحين وخاصة قطاع المرأة في مقبل أيامه. قد يصعب على القارئ تخيل حجم معاناة إمرأة نازحة مثل حواء وإن سودت صحائف وصحائف لتجسيد تلك المعاناة وقسوتها ابتداءً من أحداث يوم السوق وأهواله ومروراً بالهروب في معية أطفال صغار سيراً على الاقدام في رحلة قاسية امتدت لأيام بحثا عن ملاذٍ آمن وانتهاءً بمعسكرات النزوح وعيشة الذل والهوان لسنوات في انتظار المجهول ودون أن يلوح أمل بالعودة للقرية وحياتها الوادعة . ولكم هو محزن ومخزى في ذات الوقت أن يكون جزاء إمرأة مثل حواء قاومت كل تلك العقبات وتشبثت بالأمل وهي تسعى جاهدة لتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لأطفالها أن تخضع للابتزاز والمساومة بشرفها بدلا من أن تجد التشجيع والدعم... وهل كان بمقدورها المقاومة وقد خارت كل قواها؟ لعلك واجد بعض الاجابة في نمو حجم الاسرة من خمسة أفراد إلى سبعة أفراد دون زواج... وقديماً صدق الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى أيما صدق وهو يحذر قومه من ويلات الحرب وتبعاتها وكيف أنها لن تنتج إلا غلمان أشام كلهم كأحمرعاد، وما أدراك ما شؤم أحمر عاد ويكفي أن تعرف أن بعضا من ذلك الشؤم ما يزال يعيث في الأرض فسادا . لقد طغي حب من نوع غريب لم يألفه أهل الريف في أوساط المعسكرات عندما أستسهل البعض بلا وازعٍ من ضمير أو دين استغلال نساء جار عليهن الزمان بشتى الطرق مستخدمين شباكاً محكمة الخبث تتصيد ضعف النساء وعوز الحاجة أحياناً وسيادة الأعراف والتقاليد أحياناً أخرى وغياب الدولة في أغلب الأحايين. فكان من الطبيعي أن تسقط كثير من النساء مكرهات في أحضان تلك الذئاب البشرية المجردة من الرحمة والانسانية، فكم من نساء عفيفات حملن في أحشائهن أجنة عجزت فحولة الذئاب من تحمل تبعات ما اقترفوا من إثم وكم من إمراة كبيرة اضطرت للتسول بعد أن باعوا حصتها من الاغاثة في السوق وكم من أطفال تركوا مقاعد الدراسة بعد أن توزعت حصيلة الوجبة المدرسية إلى أسهم معلومة النصاب لا يمكلكها من يملكها. ما أقسى الذين أحبوا ذواتهم حباً يدمر حياة غيرهم... وويل لهم وهم يشيعون ذاك الحب في مجتمعاتهم بعد أن صاروا في غفلة من الزمن قدوة لغيرهم... وما أتفه الذين كانوا شهوداً على ذاك الحب وصاروا عوناً له بصمتهم المخزي... هذا وللقصة بقية .... وحتما سيرويها في يوم ما جيل من الشباب الذين قادوا ثورة سلمية للاطاحة بنظام تاجر بكل شئ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة