في سياق دردشة جدلية بين سيدة بريطانية وأخرى تعود أصولها إلى بلد مسلم، لم تخف البريطانية قلقها الشديد من وجود المسلمين في بريطانيا. فقالت لها الأخرى نحن قلة في دياركم لا تتجاوز نسبتنا 5% من اجمالي السكان وهناك الكثير من الاقليات الأخرى لكنها لا تثير حفيظتكم؟. فردت عليها: هذا صحيح، إلا أن المسلمين شديدو التأثير في مجتمعنا ونخشى أن يغيروا في ثقافتنا، فهم متمسكون بثقافتهم وقيمهم. انظرى إلى انتشار محلات البيع الحلال وتفرد أزياؤهم. وبينما تمتلئ مساجدهم بالمصلين وتجدي كنائسنا خاوية على عروشها فهل عرفت لماذا نخاف من المسلمين رغم أنهم قلة قليلة. اليوم لا حديث يعلو في بريطانيا على أخبار جائحة فيروس كورونا، بيد أن وفاة 4 أطباء مسلمين بسبب اصابتهم بالفيروس نتيجة احتكاكهم بالمصابين، أمر شدّ انتباه البريطانيين نحو الأقلية المسلمة في بريطانيا. فغرد البروفيسور البريطاني تود قرين غرّد عبر تويتر قائلا: "في بلد يصر فيه بوريس جونسون (رئيس الوزراء) على أن الإسلام هو المشكلة ويشكو تريفور فيليبس من أن "المسلمين لا يشبهوننا"، فإن الأطباء المسلمين يبذلون حياتهم من أجل إنقاذ الآخرين من فيروس كورونا". ويعمل تود أستاذا بكلية لوثر وألف كتاب "الخوف من الإسلام: مقدمة عن كراهية الإسلام في الغرب". الإسلام في بريطانيا يعد ثاني أكبر ديانة في البلاد، ووفقا لتعداد العام 2011، يعيش أكثر من 2.7 مليون من المسلمين في إنجلترا وويلز وهناك اعداد متزايدة من البريطانيين يعتنقون الإسلام سنويا. واشارت صحيفة إندبندنت في 2011 أن العدد الحقيقي للبريطانيين المعتنقين للإسلام يبلغ نحو 100 ألف وأن الذين اعتنقوا الاسلام في ذات العام بلغ 5 آلاف بريطاني. ويوجد نحو 1200 مسجد في شتى أنحاء بريطانيا، وأقدم مسجد بني في عام 1860 بمدينة كارديف، عاصمة مقاطعة ويلز. المحزن أن هذه الحقائق الماثلة لم تجد من أعلى شخصية سياسية تنفيذية في البلاد إلا التجاهل وربما الانكار. بوريس جونسون وهو يروج للكراهية ضد المسلمين، لم يتورع في القول بأن الإسلام قد عاد بالعالم الإسلامي قرونا من الزمن إلى الوراء، وذلك في مقال كانت قد كشفت عنه صحيفة الغارديان البريطانية. وليس هذا فحسب بل أمعن في السخرية حين شبّه النساء المسلمات اللائي يرتدين النقاب بـ"صناديق البريد" و"لصوص المصارف". واليوم لا يملك بوريس جونسون غير ابتذال حملة تصفيق مستجديا بها عموم الأطباء بعد تضحياتهم الجسام فدعا البريطانيين للتصفيق لهم بالتزامن. في ذات الوقت لم يستطع جونسون توفير معدات الحماية اللازمة لهم من الاصابة بكورونا بسبب احتكاكهم بالمرضى حيث يموتون بسبب هذا النقص المخجل. ظل الأطباء المسلمون الأربعة في الخطوط الأمامية لمواجهة الوباء الذي نال منهم وهم في غمرة أداء واجبهم المهني. وهم حبيب زيدي من العراق، وعادل الطيار وأمجد الحوراني من السودان، وألفا سعدو من نيجيريا. ولب الدكتور الطيار رغم تقاعده نداء وزارة الصحة البريطانية لكل متقاعدي القطاع الصحي للعودة للعمل، في حين هرب كثير من الأطباء البريطانيين من غير المتقاعدين متحججين بحجج مختلفة الأمر الذي أثار استنكارا وجدلا واسعا في وسائل التواصل الاجتماعي البريطانية. كما حظي الدكتور حبيب بثناء كثير من المرضى وزملائه ووصفوه بأنه كان صاحب خبرة عالية ومهارة كبيرة في التعامل مع المرضى، وكان قد حصل على جائزة التميز من المشفى الذي عمل فيه، ووصفته إدارة المشفى بأنه أسطورة في مجال عمله. أما الدكتور الحوراني كان رئيسا لفريق من الأطباء في المستشفى ومع بداية معركة الضد الكورونا كان في المقدمة لإسعاف المصابين بالفيروس، قبل أن تنتقل إليه العدوى. كذلك عمل الدكتور سعدو مديرا بمستشفى الأميرة ألكسندرا، وقال نجله: "لقد كان يحارب الفيروس لمدة أسبوعين، لكنه لم يتمكن من مواصلة القتال، بعد أن فعل كل ما بوسعه". وهكذا نصبت وفاة الأطباء الأربعة من ذوي الأصول المسلمة ضوءا كاشفا نحو حجم انخراط الأقلية المسلمة في كل هموم وانشغالات المجتمع البريطاني، بعيدا عن الصور النمطية التي يتصدى لتكريسها بعض المسؤولين الكبار على شاكلة بوريس جونسون. ويحكي التاريخ عن اسهامات المسلمين في حضارة أوروبا منذ العصور الوسطى وكيف أثرت على مجالات مختلفة كالفن والعمارة والطب والصيدلة والزراعة والموسيقى واللغة والتكنولوجيا. ومن القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر، نهلت أوروبا المعرفة من الحضارة الإسلامية، عن طريق نقل الكلاسيكيات وبالأخص أعمال الفيلسوف الأغريقي أرسطو، بعد ترجمتها من العربية. وليس التأثير في الآخر يتم عبر القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية وحدها، بل تعد القوة الثقافية هي صاحبة التأثير الأقوى. فشهدت أوروبا انتشار بعض الأزياء الإسلامية ومنها ما يحتفظ باسمه العربي إلى اليوم كأنواع من القمصان والمعاطف والعباءات وغيرها. بل كان بعض قادة أوروبا يقلدون قادة المسلمين في اللباس وبعض العادات، أمثال روجر الثاني وفريدريك الثاني في صقلية، والفونسو السادس ملك قشتالة، وغيرهم. وحتى بعض الشعائر الإسلامية انتشرت في أوروبا مثل غسل الميت، خاصة في ممالك الأندلس. هناك من يقول ان الأوبئة تشكل لحظة فارقة في تاريخ المجتمعات، وتعتبر عنصر تحوّل وانتقال من حقبة إلى أخرى، فانتشار وباء من الأوبئة يشكل امتحاناً لمجتمع وحقبة. فماذا يحمل وباء الكورونا في رحمه من تغييرات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية في عالمنا المعاصر؟.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د. ياسر محجوب الحسين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست