تمر بلادنا بحالة مخاط عسيرة ، في معركة هي على أشدها لتأسيس دولة العدالة والقانون وما يفترض ان يتبع ذلك من أمن ورخاء وسلام . الشعوب التي عانت كثيرا في تحقيق ما تصبو إليه ، لم تسلم من كثير من المعاناة التي مر بها مواطنوها ، من انفلات أمني وفقر مدقع ، وتردي في الخدمات ، لدرجة البؤس . تماما كما نشاهده ونحسه اليوم في واقعنا الصعب ليس من السهل أن تنتقل الأمة هكذا بين ليلة وضحاها من النقيض إلى النقيض ، أو من نظام إلى نظام . هذا الكلام ليس للتخدير ولا لتبرير العجز والفشل ، ولكنها معطيات الواقع كما هو بلا تجميل . البناء ليس نزهة ، ولا مجرد تنظير وكلام يحمله الهواء ، بل هو معاناة وتعب ، يتحمله المواطن ، ولكن بشرط ، أن يعلم أن هذه التضحيات لابد أن تعود إليه فيما بعد بمستقبل مشرق وجميل . لكن لا يمكن أن يتحمل الناس هذا الكم الهائل من الضغوطات ، ما لم تهيئهم لذلك ، فرق كبير بين من يتحمل وهو يجز على أسنانه غضبا ، وبين من يبزل كل ما عنده راضيا وسعيدا لأنه يعلم أن لتضحيته ثمن . الكل يعلم أن بلادنا خرجت من بين أسنان نظام شرس وقمعي ، ظل ثلاثين عاما يحكم الناس والنتيجة الفشل ، هذا الفشل لحكم الإنقاذ قال به كثير من قياداتهم هم أنفسهم ، وليس كلاما نأخذه من أفواه أعدائهم . ثلاثون عاما ليست كحكم عبود أو النميري ، فعبود لم يمكن أعوانه من مفاصل الدولة ، ولم يكن له أعوان أو تنظيم سياسي يقف خلفه . النميري مع تمدد الاتحاد الاشتراكي إلا أنه لم يمكن أعضاء حزبه من مقدرات الدولة والحكومة ، لذلك انتهى عبود وحكمه والنميري وحكمه بزوال السلطة . أما الإنقاذ فشأنها مختلف ، لأنها جاءت لتبقى وتحكم لأنها وريثة الله في الأرض كما يعتقد اصحابها ، ولا تتزحزح قيد أنملة عن كراسي الحكم كقدر إلهي ، وكانت أن تمكنت وتغلغلت في كل مفصل من مفاصل الدولة ، بكل ما تحمل هذه الكلمات من معنى . نظام كنظام الإنقاذ من الصعب اقتلاعه بجرة قلم ، ومن الصعب التعامل معه ، لأنه لا يؤمن بالآخر إطلاقا عقيدتهم وفكرهم هكذا . إما أن يحكم هو أو لا أحد . وليس الإخوان المسلمون هم وحدهم في هذه النظرة الآحادية ، فكل الأحزاب العقائدية لا تؤمن بالديمقراطية ، قد يضطرون وقتا ما أن يقبلوا مرحليا بها ، لكن نظرتهم البعيدة هي الحكم منفردين به ، يستوي في ذلك الشيوعي مع البعثي مع الأخ المسلم . كلها أحزاب أبعد ما تكون عن الديمقراطية ، ولا تقل لي الاتحادي ولا حزب الأمة لأن كلامي اعني به الأحزاب الطافية على وجه السطح السياسي الآن والتي تتقارع علنا وتحكم من وراء الستار او تحاول ذلك . علينا أن ندرك حقيقة أن هناك الكثير من المطبات التي تواجه الحكومة الآن ، ليس الحكومة فقط ولكن البلد كلها تواجه مخاطر عديدة ، وفي حالة كهذه يجب أن تعي الحكومة مع المجلس السيادي أن هناك وفي مثل هذه الأزمات تتجلى المواقف وأبرزها هو مكاشفة الشعب وتوعيته بما هو عليها وما هو عليهم . والحقيقة العارية من كل المساحيق تجعل الناس على بينة من أمرهم ، ولنأخذ مثالين : الأول هو معرفة السبب في ازمات بعينها منها الكهرباء والمحروقات والخبز ، أين الخلل وما أسبابه وكيف يمكن معالجته ؟ وقس على ذلك كل الأزمات حتى التفلتات الامنية . والمثال الثاني ما يدور الآن من جدل حول الأموال المصادرة بواسطة لجنة ازالة التمكين يجب أن يعرف الناس الحقيقة ، وزير المالية يقول إنه لم يستلم جنيها واحدا من اللجنة ، وما يتناقله الناس عاى لسان البعض أن هذه الأموال سلمت بالفعل ؟ سلمت لمن ؟ وأين ذهبت ؟ لا يجب السكوت هنا او الاكتفاء بالتصريحات العامة التي تهدف لتبرئة النفس . هذان مثالان فقط لتأسيس الثقة من جديد بين الحكومة والشعب ، لا يمكن أن يتحمل الناس هذا الكم من المعاناة دون أن يعرفوا لماذا عليهم أن يعانوا ؟ حل الحكومة أو اسقاطها لن يحل الإشكالات القائمة ، فالحكومة لم تتشكل إلا قريبا وكانت قبلها حكومة فذهبت وجاءت الجديدة والحال هو نفس الحال ، والحيرة هي سيدة الموقف . حسنا فعل السيد رئيس الوزراء في خطابه الاخير ولو انه لم يقل كل ما يريد الشعب ان يعرفه ، وبطبيعة الرجل أنه لا يحب الثرثرة وكثرة الكلام ، وهذا يحمد له ولكن وهو القادر على الكلام لا يريد ان يحمل كلامه على انه مع الفئة تلك وضد هذه ، وفي سبيل ذلك يتحمل الكثر من الوصف له بالضعف والاستكانة و الخوف . التركيز على سلبيات الحكومة لا يعني العمل على اسقاطها ، فلو ذهبت هذه الحكومة فليس هناك اي ضمان لاصلاح الحال ، ليس لأن حواء لم تلد غير حمدوك ولكن لسبب بسيط وهو أن الواقع الحالي لا يمكن معالجته بين يوم وليلة ، فيمكنك ان تهدم مدينة كاملة في ايام ولكنك لا يمكن ان تبنيها في سنوات . هناك الكثير من التحديات التي تعيق انطلاق البلد كالذي يمشي على الشوك في ظلام دامس ، والجيد أن الدكتور حمدوك يرى ضوءا في نهاية النفق ربما لا يراه كثيرون اما جهلا او عمدا . ليس من مصلحة احد افشال الفترة الانتقالية ، والمستفيد الاكبر من الفشل هم أعداء الوطن وتقدمه . لكن لابد من ادراك ان المقياس الحقيقي لنجاح أي حكومة أو فشلها هو توفر احتاجات المواطن من طعام و كهرباء وغاز و بترول و علاج وتعليم ، ، كثير من الناس لا يعنيهم كثيرا ما يتشدق به الساسة ، وتنحل وتنعقد لأجله المجالس ، المهم أن يأكل المواطن واسرته بسعر مناسب وأن يترحل وينتقل بسهولة ويسر وأن يجد العلاج متى طلبه ، وتتوقف قطوعات الكهرباء والماء ويتوفر غاز الطبخ ويجد لأولاده مدارس يتعلمون فيها . هذه المتطلبات هي الحد الأدني لأي حياة كريمة ، أي اختلال فيها يِؤثر مباشرة في تكون كلمتين ( مع وضد ) . اسقاط الحكومة ليس حلا ولكن مكاشفة الناس ومعرفة مكمن الداء ومحاولة المعالجة الجادة هو الحل ، وليس السبب في دعم الحكومة هو الخوف من الانفلات والوقوع في براثن الفوضى ، ولكن لأن البديل مهما كان لا يملك خيارات أفضل من الحكومة الحالية . وسنلف وندور في نفس الحلقة . أي حكومة مهما كانت لا تملك عصى سحرية ، تلمس بها الحجر فيصير ذهبا ، ولعلنا قد لمسنا بأنفسنا كيف حارت الإنقاذ وحار دليلها في أيامها الأخيرة فقد بدأت نذر الإنهيار الوسيك للدولة منذ ذلك التاريخ ، فقد اتسع الخرق على الراتق ، وكانوا يحاولون الفرار من السفينة الغارقة لينجو كل بنفسه من سوء ما فعلته أيديهم . لقد ادرك قادة الانقاذ في وقت مبكر قبل الثورة ربما بسنوات أن الطوق يضيق حولهم يوما بعد يوم ، ولم يكن من الممكن تفادي السقوط المحتمل بأي حال من الأحوال. هذا ما ورثته الثورة ، استلمت البلد وهويحتضر ولا يزال في غرفة الانعاش والشوط أمامه طويل جدا للتعافي ، ولكن البعض يظن أنه كان بالامكان أفضل مما كان ، ولا نشك في هذا ، ولكن ما حدث هو عثرات لابد منها ، وعلينا أن نعين على الإصلاح بدلا من السعى للبدء من الصفر . نضغط في اتجاه حلحلة الامور وننتقد ونغضب ونختلف ونتلاقى ونبتعد لكن يجب ان نحافظ على ما تم مهما كان قليلا . وليكن شعارنا أن غدا أفضل وسنكون بعون الله أفضل ما دام السودان هو الأهم .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة