مثال بسيط: قبل أيام كنت أكتب عريضة دعوى، فتوقفت أمام مسألتين متناقضتين: قاعدة قانونية خاطئة، وفهم فقهي صائب. الفرق بين الفقيه والمحامي والقاضي، أن هذين الأخيرين، ليس من مهمتهما تصويب القاعدة القانونية، بل تفسيرها التفسير الذي تغياه المشرع حتى لو كان عمل المشرع (أي القانون) خاطئاً، وذلك عملاً بمبدأ (لا اجتهاد مع النص). ومبلغ ما يفعله القاضي أو المحامي هو أن يجتهد (في) النص لا (مع) النص؛ بشرط ألا يتوسع في التفسير فيخلق بذلك التوسع نصاً جديداً لم يكن في خلد المشرع حين وضع النص. في حين أن عمل الفقيه ليس مفهوم النص فقط، بل عمل الفقيه هو (فحص) النص نفسه، ونقده والإقتراح بتصويبه. وهكذا يتمتع الفقيه بليبرالية واسعة وهو بصدد التفاعل مع النص. فليس عمل الفقيه هو تفسير النص فقط كما قال البعض. ولذلك عندما يقف الفهم الصائب إلى جانب المحامي والمفهوم الخاطئ للقانون ضد مصلحة المحامي، فليس امام هذا الأخير إلا أن يؤسس دعواه على المفهوم القانوني حتى ولو كان خاطئاً. لأن القاضي بدوره لن يكترث للتعارض بين فهم صائب ومفهوم خاطئ للقاعدة القانونية. لكن هل يجوز الطعن بعدم مشروعية نص خاطئ؟ هذا الأمر ليس مستبعداً من ناحية دستورية. فإذا كان النص القانوني خاطئاً وكان هذا الخطأ ينتهك مصلحة محمية بالدستور، فإن الطعن فيه ممكن. أما في غير ذلك فلا. هناك إتجاه نحو إسباغ الحماية الدستورية على جودة القانون أو ما يسمى بالحق في قانون جيد. لكن ذلك لن يكون بالأمر اليسير، إذ أن القضاء لن يحل محل سلطة التشريع، ولكن يمكن أن يجيز المشرع، التقدم بمقترحات القوانين للمواطنين عبر المتخصصين. لقد عمد القضاء الإلماني إلى المراقبة الموضوعية للقوانين النازية بعد الحرب. إذ يتم وزن القاعدة القانونية أخلاقياً. فإذا كانت شديدة الظلم تم إبطالها من قبل القضاء، وهذا اتجاه يبدو عادلاً عادلاً ولكنه مستهجن، وذلك لعدة أسباب، من ضمنها: ١- أن القضاء لا يجب أن يعتدي على سلطان المشرع. بعمل تقييم للنص، ما دام هذا النص لم يخالف الدستور. ٢- أن القيم الأخلاقية نفسها مسألة محل نزاع فلسفي، وهذا ما يجعل من القضاء مقحماً لنفسه في قضايا لا علاقة له بها. ٣- يؤدي اختلاف مفهوم الإخلاق من زمكان إلى زمكان ومن شخص لآخر، إلى عدم استقرار القاعدة القانونية، مما يفضي عدم استقرار المراكز القانونية للأفراد. ٤- إستناد القانون إلى الأخلاق مسألة مختلف حولها في الفقه القانوني وخاصة بين المدرستين الوضعية والطبيعية. ٥- إن المشرع قد يزن القواعد التي يستنها اخلاقياً وذلك عبر دراسات متعدة ومن مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية، وهذا ما لا يكون متاحاً للقضاء الذي قد يرى الأمر من زاوية واحدة وبخبرات أقل. كل هذه أسباب تجعلنا ننتقد اي اتجاه لإبطال القاعدة القانونية المتفقة مع الدستور على أساس تقييمها تقييماً خارجيا (أخلاقياً او اجتماعياً). ومجمل ما يمكن للقاضي فعله لتجاوز ذلك التناقض بين فهمه الصائب والمفهوم الخاطئ للقانون هو توضيح وجهة نظره داخل الحكم لافتاً نظر المشرع. فلا يجوز له الإمتناع عن تطبيق حكم القانون وإلا عد منكراً للعدالة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة