قيل إن صحفياً سأل الكاتب والأديب النحرير ﻋﺒﺎﺱ ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ ذات مرة: من منكما أكثر شهرة، أنت أم محمود ﺷﻜﻮﻛﻮ؟، وشكوكو مونولوجست هزلي مشهور، فرد عليه العقاد مستغربا؛ من هو ﺷﻜﻮﻛﻮ؟. وعندما بلغت القصة ﺸﻜﻮﻛﻮ قال للصحفي: "قول لصاحبك العقاد ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف على ﺭﺻﻴﻒ مقابل، ﻭلنرى إلى أي منا سيتجمع الناس". وهنا رد العقاد: ""قل ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻭﻳﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺭﺻﻴﻒ ﻭيدع راقصة ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ ﺍلثاﻧﻲ ﻭﻳﺸﻮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ إلى من منهما سيتجمع الناس؟". وليس بعيدا عن قصة العقاد وشكوكو يحتدم الجدل اليوم حول مضمون وسائل التواصل الاجتماعي وفي خضم ذلك تنتصب مقاربة جدية بين مضمونها المنفلت والمتحرر من كل قيد وبين مضمون وسائل الاعلام التقليدية المقيد والمضبوط بالاعراف المهنية الصارمة والقوانين الرادعة. فاليوم يستبد القلق بالمشفقين بسبب انهيار وانزواء بعض الصحف الورقية بمضمونها الجاد، في مقابل الانتشار المذهل لوسائل التواصل الاجتماعي وتصاعد الاقبال عليها على حساب الاعلام المؤسساتي. وبدا الأمر وكأنه تنافس وتصارع بين العقاد وشكوكو. مؤخرا أُغلقت صُحف عريقة مثل النهار اللبنانية والحياة اللندنية، وحتى في الولايات المتحدة أغلقت صحيفة واشنطن بوست مجلتها إكسبريس المجانية التي كانت توزع ١٣٠ ألف نسخة مجانا على ركاب المترو ومع ذلك هجرها الركاب على خلفية توسّع نطاق خدمة الإنترنت داخل القطارات ومحطات المترو وانغمسوا في بحر لُجّي يموج بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. مجلة إكسبريس المكلومة أنهت وجودها بعنوان رئيس عبّر بشكل مأساوي عن خيبة أملها الكبيرة وجاء فيه: "نأمل أن تتمتعوا بتليفوناتكم المحمولة الحقيرة"، في إشارة إلى أن زوال الصحيفة كان بسبب التليفون الجوال خاصة النسخ الذكية منه حيث تختصر جُل الفضاء العالمي عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي. في ظل اندياح وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي واستحكام ظاهرة المواطن الصحفي تصدى الباحثون لهذا الواقع الجديد وتأثيره على المفاهيم الديمقراطية وكانت في عمومها سلبية ولذا يجب أن تجد الصحافة التقليدية والوسائل الاعلامية المؤسساتية الاهتمام المستحق. وعلى الدول والمجتمعات الحفاظ عليها والتنبّه حين تموت صحيفة من الصحف. ومن خلال سلسلة من الدراسات الميدانية ورصد اتجاهات الرأي العام التي عكستها استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي خلص الباحثون إلى أنها أدت بكل أسف إلى تغيير مفاهيم الديمقراطية، ومن ثم ممارساتها، حيث أصبحت هذه الممارسة نهباً لآفات الثرثرة والتكرار والتبسيط المخّل إلى درجة التسطيح، وهو ما يضع الممارسة الديمقراطية والمشاركة الجماهيرية تحت طائلة تهديد خطير كما يهدد فيروس كورونا البشرية. فتعم آفة فوضوية الفكر والتشتت والتخبط في الرأي وفي السلوك العام. وحذّر اولئك الباحثون من النزول بالأفكار السياسية والطروحات والممارسات الديمقراطية من مستوى الممارسة الراشدة والمسؤولة إلى وهدة التسطيح والشخصنة وخلل التبسيط. إن واقعنا الراهن أصبح مرهوناً بما تنقله وتتداوله وتؤثر به وسائل التواصل الحالية ولدرجة تصل إلى حالة البلبلة أو التشوش أو الاضطراب الفكري والسلوكي في بعض الاحوال. ووفقا لأولئك الباحثين - وأجد نفسي متفقا معهم بالكلية - ان نمط التعددية الناشئ عن وسائل الاتصال الاجتماعي إياها، لم يعد يشكل نموذج النهج الديمقراطي القويم أو المطلوب، بقدر ما أصبح نهجاً يفتقر إلى الاتزان وحسن الترتيب وتعوزه الرؤية المنظمة التي كان ينطلق منها مفكرو ودعاة وممارسو الديمقراطية. إنه في خضم التطورات التكنولوجيا برزت ظاهرة صحافة المواطن وهو ما قد ينطبق على منصات التواصل الاجتماعي ومنها تطبيق واتساب باعتباره شكلا جديدا من أشكال الممارسات الصحفية غير المهنية. وفي فضاء علم وتخصص الإعلام يشار إلى هذه الظاهرة باستعمال مصطلحات متنوعة من قبيل الصحافة التشاركية والإعلام مفتوح المصادر والإعلام الديمقراطي وصحافة الشارع والإعلام البديل والصحافة الشعبية وكلها مصطلحات وتسميات تشير إلى ذيوع دخول مهنة الصحافة في عصر مرحلة جديدة لا تخلو من خطورة. إن اختفاء مجلة إكسبريس آنفة الذكر جاء لأسباب تكنولوجية ترتبت عليها تراجع مساحات الإعلانات فيها، فالمعلن يرغب فى الانتشار الواسع وبغياب الاعلان وضعفه تنهار الصحف، فالإعلانات هي حجر الزاوية الذي تقوم عليه الصحف. لكن ما يشيع الأمل تلك الجهود المستمرة لتعديل الصورة المقلوبة وضبط محتوى ومضمون وسائل التواصل الاجتماعي. فقد شهد شهر فبراير المنصرم قيام مؤتمر وسائل التواصل الاجتماعي وتحديات دعم الحريات، الذي نظمته اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر يومي 16- 17 بمشاركة أكثر من 300 منظمة دولية وجامعة ومسؤول في شبكات التواصل الاجتماعي الكبرى. وبحث المؤتمر قضايا متعددة تتعلق بالأطر التشريعية التي تنظم حرية التعبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتداعيات منع الاتصالات وحجب وسائل التواصل الاجتماعي على حقوق الإنسان، والشفافية والمساءلة في الإشراف على المحتوى في كبرى شركات التكنولوجيا، وتحديد الأنشطة المستقبلية لتوسيع نطاق الحيز المدني في وسائل التواصل، بجانب مناقشة إشكالية استمرار المنصات الإعلامية في ظل وجود هذه الوسائل. وقد تمت الاشارة كذلك إلى مسألة مهمة وهي لجوء مجموعات الضغط والمصالح لاستعمال أساليب مرفوضة لتضليل الرأي العام وإغراق الفضاء الرقمي بالدعاية والإشاعة، ومهاجمة المعارضين باستعمال هويات مزيفة وجيوش إلكترونية عرفت اصطلاحا بالذباب الالكتروني. إن هذه الجهود مطالبة أكثر وأكثر بالتصدي إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التحريض على خطاب الكراهية. وعوضا عن ذلك تسخر هذه الوسائل لتكون أداة مهمة لتعزيز وتثبيت دعائم الصحافة المسؤولة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة