ما جرى للمواطنين السودانيين العالقين في الهند ليس حادثة معزولة يمكن طيّها بالنسيان، بل هو صورة مكثفة لاختلال عميق في أداء سفارات السودان بالخارج. لقد تحولت هذه الممثليات، في نظر غالبية السودانيين، إلى مكاتب للجبايات والرسوم، فارغة من الروح الدبلوماسية والواجب الإنساني. وزارة الخارجية مطالَبة اليوم بمراجعة شاملة، لأن الاستمرار بهذا النهج يهدد فكرة الدولة نفسها ويضرب ثقة المواطن في مؤسساته. مأساة العالقين في الهند حكاية تختصر الفشل رحلة العلاج التي دفعت عشرات الأسر السودانية للسفر إلى الهند قبيل الحرب، تحولت إلى إقامة قسرية امتدت لعامين بسبب طول أمد النزاع وعدم الاستقرار في الوطن. تراكمت الغرامات عليهم من السلطات الهندية حتى بلغت آلاف الدولارات فعادوا إلى سفارتهم في نيودلهي يطرقون باب الوطن. لكن ما وجدوه لم يكن الوطن. ثلاثة أيام من اتصالات لم يُرد عليها أحد. وحين قصدوا المبنى بأنفسهم، فوجئوا بموظفين منشغلين بلعب الورق وطقوس الفطور، يتعاملون معهم ببرودٍ فجّ. وعندما رووا قصتهم الموجعة، جاء الرد أشد إيلامًا من الصمت: "جبناكم نحنا؟" عبارة تلخص عقلية استهتار وانفصال كامل عن معاناة الناس. الدبلوماسية الإنسانية السعودية نموذجًا في المقابل، وجد هؤلاء العالقون في السفارة السعودية ما لم يجدوه في سفارتهم. خلال أقل من ساعتين حضر مندوب بسيارة رسمية، جمع صور جوازات المجموعة كاملة (17 فردًا) وفي أقل من أربع وعشرين ساعة كانت الغرامات—التي تجاوزت 25 ألف دولار—مدفوعة بالكامل. لم يسألهم أحد عن جبايات، ولم يُطلب منهم سوى بياناتهم. ذلك الموقف النبيل يستحق أن يُسجَّل في وجدان السودانيين: شكرًا للمملكة العربية السعودية، ملكًا وحكومةً وشعبًا، فقد جسّدوا في تلك اللحظة قيم الأخوّة الإسلامية والعربية والإنسانية الخالصة، حيث غابت دولة الضحية وحضرت دولة الجار. التحول من الصرخة إلى الفعل لكي لا تتحول هذه القصة إلى مجرد صرخة عاطفية عابرة، فإن استحقاقها الحقيقي هو التحول إلى الفعل الجاد. على وزارة الخارجية السودانية أن تفتح تحقيقًا عاجلاً في أداء سفارة نيودلهي، وفي غيرها من السفارات التي تتوالى الشكاوى حولها. كما يجب أن تعتمد معايير جديدة تقوم على خدمة المواطن أولاً، لا على فرض الرسوم. ومن الضروري أيضًا إعادة تأهيل الكوادر الدبلوماسية وتدريبها على التعامل الإنساني، خاصة في أوقات الأزمات، مع تفعيل نظام محاسبة صارم يعاقب المقصرين ويكافئ الكفاءات. الدبلوماسية ليست مباني بل ضمير الدبلوماسية الحقيقية ليست قاعات فاخرة ولا ألقابًا رنانة، بل هي ضمير حيّ يظهر في أصعب اللحظات. لقد أثبتت هذه القصة أن مؤسساتنا في الخارج بحاجة إلى ثورة إصلاح، وأن كرامة المواطن هي الامتحان الأول والأخير للدولة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة