استمعت قبل أيام لمسرحية لكاتب انجليزي، بطلها قائد عسكرية. ويمكن للمستمع ملاحظة ذلك في تعامله داخل المنزل، إذ يكون صوته مرتفعاً ويتحدث دائما بصيغة الأمر. تحدد الوظيفة مساق الفرد السلوكي لفترات طويلة فيندمج فيها لدرجة تؤثر على حياته اليومية. قص لي والدي قصة غريبة، عندما أنهى دوراته التدريبية الأمنية في ال CIA ، إذ قاده المدرب إلى منطقة نائية ثم همس له: انت رجل ذكي ولكني أنصحك بألا تتأثر حياتك الخاصة بما تعلمته هنا وإلا ستصاب بالجنون. وربما يجب تطوير هذه النصيحة لتتحول لمنهج دراسي تأهيلي لكل أصحاب الوظائف ، بحيث يتمكن الفرد من خلع قميص الوظيفة عندما يخرج إلى العالم الخارجي. من خلال حديثك مع شخص حاد الطباع ولا يقبل الرأى الآخر توقع ان يكون استاذاً جامعياً، وإذا كان يعتبر حديثه حاسماً فاعلم أنه قاضٍ. لقد مر المحامون في السودان بمواقف سيئة مع القضاة، إذ يشعر القاضي بأن على المحامي أن يكون خاضعاً له، في الوقت الذي يعتمد فيه عمل المحامي الأساسي على كسر الصورة المتسلسلة للملابسات، والتي لا يمكن للشخص العادي ملاحظة اختلالاتها. يمكنك أيضاً ملاحظة أن وكلاء النيابة يتأثرون بوظيفتهم بحيث تتحول حياتهم الخاصة إلى شيء من التدخل والتحقيق المتواصل مع الآخرين. والشرطي او العسكري الذي يفقد وظيفته ينهار نفسياً ، إذ أنه يفقد هيبة الدبابير فجأة..ويتحول لشخص عادي بلا سلطة. فقدان السلطة وخاصة السلطات المطلقة، مثل الوزير او رئيس الجمهورية تهز نفسية الشخص. فمثلاً قبل أيام رشحت أخبار جزعة من عقد البشير لاجتماعات حزبه داخل السجن. وقد أضحكتني التخوفات التي صدرت من بعض الصحفيين والمواطنين. ذلك أنهم لا يعلمون أن الرئيس عندما يفقد سلطاته لا يمكن أن يعود من جديد. يتحول الرئيس المخلوع إلى شخص بلا سلطات ، بل ومهدد باستمرار في حياته وممتلكاته، ويصبح الكمساري أقوى منه. والصول المحتفظ بوظيفته أكثر إرادة منه في القيام بانقلاب عسكري. وعموماً يؤدي فقد السلطة حتى بالنسبة لخفير المستشفى مدمراً لنفسيته. تعلمنا الديموقراطية -رغم مساوئها- التعامل مع المناصب والظيفة والسلطة باعتدال نفسي، أما في النظم الدكتاتورية فإن المنظومة كلها تعود الشعب بأكمله على التعامل المغالى فيه مع الوظيفة والسلطة. لا باعتبارها مصدراً للدخل الشهري ولكن باعتبارهما أداتا قهر وقمع. الشعب السوداني ظل -حتى في ظل الديموقراطيات- خاضعا لمفهوم قمعي وقهري ، فمن سلطة رجال الدين إلى سلطات العسكري والشرطي ، وسلطات الأستاذ في المدرسة على تلاميذه،..الخ. يتعلم الإنسان السوداني على فكرة الإخضاع والخضوع. ولذلك فهو لا يستطيع تحمل العدالة المجردة. لأن العدالة لا تتجرد إلا بالتجرد من النوازع النفسية. وأهمها النزعة نحو السيطرة، والقهر والقمع. سنلاحظ أن الصراع حول المناصب في كافة الأنظمة (عسكرية أو مدنية) هو صراع حول القمع. ولذلك فإن كل الأنظمة لم تتحمل الإلتزام بالدساتير أو القوانين التي تضعها بيدها، لأن القانون لا يمكن سنه إلا مجرداً، وبالتالي من المفترض أن يطبق كذلك بتجريد تام عن النوازع. المحامون هم المسؤولون الأُوَل عن مراقبة ذلك التجريد. ولذلك عندما رفعنا طعننا الدستوري ضد المكون العسكري والبلاغات الجنائية ضد المكون المدني، فليس ذلك سوى مهمتنا الأولى، وهو كشف الإنحراف عن التجريد القانوني. لأن الإنحراف مهما كان يسيراً فيجب ألا يكون مفهوماً، لأن انتهاك التجريد هو بداية إنهيار العدالة. وانهيار العدالة يعني انهيار المؤسسات، وانهيار المؤسسات يفضي للفوضى. إن أي عصابة تمارس قطع الطرق والسرقة يجب أن يتعهد أعضاؤها بعدم السرقة من بعضهم البعض وإلا تفككت تلك العصابة الإجرامية، فحتى العصابات لابد أن تتمتع بقدر من التجريد القانوني لتظل مؤسسة آجرامية مستقرة، يحميها قانونها الخاص كل لص فيها. الديموقراطية تحتاج نفسها لبناء نفسي وسوسيولوجي قبل البناء القانوني، لأن البناء القانوني قابل للهتك إن لم يستند لحماية مجتمعية. وإذا كان الشعب السوداني يرغب في الاستقرار السياسي والاقتصادي فعليه على أقل تقدير أن يعتبر نفسه عصابة لصوص وقطاع طرق...ويا للسخرية.. احصل على Outlook for Android
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة