مما يحِزُ في النفس ، أنه لا مناص على ما يبدو من تأثيرٍ عميقٍ للضائقة المعيشية والتدهور الإقتصادي العام الذي أصاب البلاد على منهج العادات والتقاليد والقيِّم الكريمة التي ظل مجتمعنا السوداني على شتى مشاربه الثقافية والعرقية والدينية يتمسَّك بها منذُ أمدٍ بعيد ، حتى أصبحت هذه القيِّم سمةً عامة يوصف بها السوداني في بلاد الغربة وإن لم يتحلى بها إستثناءاً ، إنطلاقاً من فكرة أن أيي مجتمع يوجد بين أحضانه الصالح والطالح ، وقد بالغ أهل الخليج في تقييم الموروثات والعادات والصفات الحميدة (للزول) حتى صار السوداني عندهم في زمنٍ من الأزمان فوق مستوى الظنون والشك ، خصوصاً في الأمور المتعلِّقة بالأمانه ، والأمانة بمفهومها العميق ليست مُكرَّسة فقط تجاه حراسة المال أو عدم التعدي عليه ولكنها تقفز بمفهومها الواسع لتشمل الحفاظ على عروض الناس وتقديسها بل وأحياناً الدفاع عنها بإستماته إن كان صاحب الولاية عليها غائب ، وللسودانيين (الأقدمين) في السعودية ودول الخليج حكايات تُحكى وتتداولها المجالس في هذا الباب ، وكأنها أساطيرٌ تغزلها خيوط الخيال ، ولما ضاق العيش بأهل السودان وأصبح الحصول على لقمة العيش الكريمة البسيطة على أدنى مستوياتها يتطلب في بلادنا الكثير من الجهد والعنت ، إنعكس ذلك على الكثير من مفاهيمنا القيَّمية المجيدة في معانيها والسامية في مراميها ، أما الكرم والمروءة ونجدة الملهوف والسؤال عن أحوال الأقارب والجيران والأصدقاء فقد إندثر إمتدادها في حياتنا (إلا عند من رحم ربي وهم قلة) ، وللحقيقة فهذا ليس عيباً متأصِّلاً في النفوس بقدر ما هو مآل طبيعي لواقع الحال الصعب ومقولة (فاقد الشيء لا يعطيه) ، وحقيقةً كيف لمن لا يملك أن يعطي ، ولهذا بالطبع تأثير كبير على مبدأ الرباط الأسري والإجتماعي العام ، كما أن تعقيدات العيش في ظل ما يُعانيه الناس خصوصاً في العاصمة والمدن الكبرى ، قد أفسح المجال لإستشراء الإعتقاد في مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) ، فأصبح قليلٌ منا مَن يستوثِق في ما يكسب من منظور الحلال والحرام ، وأصبح الغش والتدليس والتزوير والتطاوُّل بالواسطة والسلطة والجاه مُبرَّراً عندنا تحت مصطلح (فهلوه وشطاره) ، وأصبح الكد من أجل لقمة العيش والحصول على الضروريات من تعليم وصحة ودواء وسكن مناسب غير محدود بأيي مسارات تتماشى مع قيَّمنا وأخلاقياتنا التي كانت ، وصار التكالُب والتزاحم والتدافُع والخطو فوق أعناق الآخرين وحقوقهم مبدأاً سارياً لا يستغربه أحد ، وللأسف أصبحت قيَّمنا القديمة تتراجع لتحل محلها تلك المفاهيم الجديدة علينا ، رغم أنها مألوفة لدى شعوب أخرى ، وذاك كان سبباً في ما تميُّزنا به في الغربة ، أما الآن فقد بدأت إشعاعات صفاتنا الكريمة يضمحل ضؤها ، بعد أن بدأت أجيال من العهد الحالي تغترب في الدول المجاوره وتبُث قيِّم اليوم المُغايرة أو المضادة لما كان عليه عهد السوداني في السابق ، جرَّني للكتابة عن هذا الأمر الجلل إطلاعي على منشور أمني لإحدى دول الخليج يتحدث عن إبعاد عدد من الأجانب الذي أخلَّوا بالقوانين المحلية للدولة المذكورة ، شمل هذا الإخلال كل ما يخطر على البال من الجرائم والجُنح ، وكان لأسماء السودانيين في تلك القائمة حضوراً مُعتبراً ومُخزياً في نفس الوقت .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة