ذكرتُ في مقالي السابق (طاقة حمدوك)، بأنّ الخطاب الذي يوجّهه كبار المسؤولين للخاصّة والعامّة ليس ترفاً ، وأنّما هو اداة تغيير وتوصيل مهمّة للأفكار . كما استعرضتُ بعض أساليب من تولّى السلطة في السودان فقد تراوحت خطاباتهم للعامّة والخاصّة ما بين الاسهاب والايجاز ، من الزاهد في مخاطبة شعبه والمُكثر فيها، ومابين المحترم لشعبه والمحتقر المنّان المكذّب على الشعب. وقد اتضّح أن المسؤليين السودانيين في الحكومة الديمغراطية الثالثة ،وخاصّة في فترتها الانتقالية، كانوا مقلّين في مخاطبة أبناء شعبهم حتى جاء السيد الصادق المهدي فأكثر من الخطب ، وحينما جاءت ضرورة مخاطبته للشعب حتى من مئذنة مسجد الخليفة بعد الانقلاب عليه ، لم يفعلها .أمّا العسكريون عموماً، في اوقات حكمهم مكثرون من الحديث والخطابات للخاصّة والعامّة سواءً كان الرئيس الاسبق جعفر النميري او الرئيس المعزول عمر البشير أو نائب رئيس مجلس السيادة الحالي . والملاحظ ان السيد رئيس مجلس الوزراء الحالي خطاباته امام منصات وداخل قاعات مغلقة فقط ، وأنّه خاطب العامّة في ثلاثة لقاءات مفتوحة حسب مشاهداتي ، لقاءه في ودرملي (اغسطس 2019م) الذي كان فيه أكثر تفاعلاً وعفوية مع الجمهور ،ولقاءه للشباب في ذكرى انتفاضة ديسمبر المجيدة بقاعة الصداقة (ديسمبر2019) من اعلى المنصة، ومخاطبته لجماهير شعبه في كاودا (يناير 2020م) وكان يتوجّب عليه الصمت لترجمة كلماته . ان الحكومات العسكرية التي مكثت لأكثر من أربعة عقود في السودان ، كان لديها خطاباً موجهاً ومباشراً للجماهير ،تخاطب جماهير الشعب بما يفهمون من لغة و لهجات ، يتداخل مسؤوليها مع المواطنين الذين يتقربّون من مسؤوليهم أثناء هذا التداخل المباشر،ويشعرون بانّ المسؤولين منهم وهم منهم .وأرجع الأمر لتدّرب العسكريين على مخاطبة فصائلهم التي يقودونها ، منذ بداية تدريبهم العسكري سواءً كان ذلك في كلية الشرطة او الكلية الحربية، فتصبح لديهم شجاعة ادبية مكتسبة في مخاطبة الناس والاحتكاك بهم.وهو الأمر الذي لايتوفّر في العادة لدى المدنيين الذين لايتدربون على هذا الفن في الجامعات او المعاهد العليا .فنجد الكثير من حملة الشهادات العليا لايحسنون التحدّث امام ملأ من الناس ،دعك عن قدرتهم على التحدّث في المؤتمرات العلمية وغيرها من اللقاءات المهنيّة .فالأمر بمجمله يحتاج للتدريب من جهات متخصّصة ، تدرّب المسؤوليين الكبار على الخطابة وعلى مواجهة الجماهير لتوصيل رسالتهم الواجب عليهم توصيلها . ان مخاطبة الجماهير من القاعات المغلقة تُعطي احساساً آخر وانطباعاً آخر عن المسؤولين لدى الجماهير التي ترى مسؤوليها فقط من خلال شاشات التلفزيون. يجلس مع الخاصّة ويخاطبهم وهو في نفس الوقت بعيد عن العامّة بمختلف فئاتها . فأين مخاطبة السيد حمدوك لأبنائه مباشرةً في مليونية يونيو 2020؟، واين مخاطبته لأهلنا في دارفور بعد مذبحة فيتابرنو؟، وأين مخاطبة حمدوك لأبنائه في حلفا الجديدة؟، وأين مخاطبة حمدوك للولاة الجدد؟، وأين مخاطبة حمدوك لقوات الشرطة ؟ وأين مخاطبة حمدوك لقوات الشعب المسلحة ؟ وأين مخاطبة حمدوك لقوات الدعم السريع (وهو واقع ماثل أردنا وجوده أم لم نرد)؟،وأين مخاطبة حمدوك لأبنائه الشباب الرياضيين ؟، وأين مخاطبة حمدوك لأهل الفن والثقافة والأدب؟،وأين مخاطبة حمدوك لأهل الطرق الصوفيّة ،وقد كانوا موجودين امام القيادة العامّة في ابريل 2019م؟، وأين مخاطبة حمدوك لأهل الاحزاب السياسية من زعماء وأعضاء؟، وأين مخاطبة حمدوك لزعماء الادارة الأهلية ؟، وأين مخاطبة حمدوك لأبناء شعبه كآفة داخل الوطن وخارجه للتهنئة بعيد الأضحى المبارك؟.فالسيد حمدوك هو الواجهة المدنية التي نتطلّع جميعاً أن تدوم في السودان ،لذلك تنبع اهمية وجوده في ساحات الناس ، عامّتهم وخاصّتهم، فالأمرٌ في غاية الأهمية . امثلة من خطابات غيّرت الحياة: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضُلّالا فهداكم الله بي؟، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟،" . كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن، قال: " ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، "قالوا: الله ورسوله أمن"، قال:" أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك .أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا . وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ ،أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟. فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ . اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ . وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ . ، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" محمد صلى الله عليه وسلّم في خطبته للانصار بعد معركة حنين .لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم. خطبة خاصّة بهم (اسلام ويب،2004). "جئت لنعمل سويا، نضع أيدينا فوق أيدى بعض لنبنى السودان وننقله نقلة حقيقية لوضع جديد يكون نموذجا للتاريخ الحديث في المنطقة الأفريقية وفي العالم". جون قرنق دي مبيور.(الجزيرة نت،2005). "بالرغم من أننا نواجه صعوبات اليوم وغداً ، لايزال لدي حُلم ، أنّه حُلم له جذور عميقة في الحلم الامريكي ، لدي حلم بأنّه في يومٍ ما هذه الأمّة سوف ترتفع وتعيش المعنى الحقيقي لعقيدتها، نحنُ نحمل هذه الحقائق ونحتفظ بها بديهة، أنّ كل الناس خلقوا متساويين" .مارتن لوثر كنغ جونيور.(يوتيوب،لدي حلم )(خطاب مارتن لوثر كنغ جونيور الذي غير امريكا – لدي حلم-يوتيوب). "الليلة على وجه الخصوص هي شرف عظيم لي ، لأنّه ولنكن واقعيين، وجودي على هذا المسرح كان أمراً مستبعد الحدوث كثيراً، فوالدي كان طالباً اجنبياً، ولد ونشأ في قريةٍ صغيرة في كينيا ،فشب على رعي الأغنام ،وذهب الى المدرسة في مبنى بسيط بسقفٍ من القصدير، أمّا والده –جدي- فقد كان طباخاً ،عامل منزلي في منزل أحد البريطانيين ."ثم سرد بعض ذكرياته مع بعض العامّة ،ثم أثنى على جون ماكين ،ثم تحدّث عن الدين" ..) باراك حسين اوباما . (الخطبة التي جعلت اوباما رئيساً،يوتيوب). هذه نماذج خطب لقادة الهموا شعوبهم وغيّروا التاريخ بكلماتهم ، عبّرت هذه الخطب عن فن الالقاء ، وفائدتها للناس ، كانت موجزة ولكنّها ملهمة ، عبّرت عن صدق القائلين وايمانهم بما يقولون .وعبّرت عن تمكّن القائلين من موضوعات حديثهم وامتلاكهم لادوات مخاطبتهم لجمهورهم ، وصدق قلوبهم التي عبرّت عنها السنتهم ، أقلعت كلماتهم بطبيعتهم وعفويتهم كأنّهم يخاطبون أصدقائهم ،احترموا جمهورهم فبادلهم الاحترام بالاحترام وتغيّر جمهورهم لما يريدون. أهمية الخطاب وادواته : قال هتلر: ( كل الاحداث المؤثّرة في العالم لم تحدثها الكلمة المكتوبة ، إنّما احدثتها الكلمة المنطوقة ). والعرب تقول : ( الحربُ أولها كلام ) . وقال الامام علي كرّم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( حدثّوا الناس بما يعقلون ، أتحبون أن يُكّذب اللهُ ورسولُه). وان من الناس من يقول :( اذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب) ، وليس سكوت المسؤول في المواقف التي تحتاج لقولٍ دائماً ذهباً ، لأنّ هناك مواقف تحتاج للخطاب فقد تضيع الحقوق ، وتطل الفتن برؤوسها وتُسفك بعدها الدماء. فالخطابة فنّ وموهبة ، والموهبة تزكو بالتعلّم ، والخطبة الناجحة كرحلةِ طيرانٍ تبدأ بالاقلاع الناجح (الاربعون ثانية الأولى)، وفيها يكون استفتاحاً قويّاً بالفكرة او القيمة المراد التحدّث عنها، ثم متن الخطبة الفعّالة الممتزجة بالالقاء القوي المتمكّن صوتاً وفكرةً ، ثم الهبوط الناجح الآمن ، فإنّ آخر ما يبقى في عقول المخاطبين هو آخرها . (طارق السويدان – فن الخطابة – يوتيوب). امّا عن صدق الخطباء وضرورة ايمانهم بما يقولون ، فقد أرجع خطباء الاسلام نجاحهم في خطبهم الى عواطفهم الصادقة ، فيقول صحّار العبديّ يجيب سائله عن سبب بلاغة خطباء قومه :( شيءٌ تجيشُ به صدورنا فتقذفه على السنتنا). وقال الحسن البصري عن الحجاج بن يوسف الذي كان يخطب الجمعة : ( الا تُعجبون من هذا الفاجر؟، يرقى عتبات المنابر فيتكلّم بكلام الانبياء، وينزل فيفتك فتك الجبارين، يوافق الله في قوله ، ويخالفه في فعله). بينما يصفُ اعرابيٌ الحسنَ البصري بقوله: ( والله إنّه لفصيحٌ إذا نطق، ونصيحٌ إذا وعظ). والايجاز في الخطبة يكون لمخاطبة الخاصّة ، فقلّة الكلام من البلاغة ، فعقول الخاصّة واسعة ، ووقتهم ثمين، ويكتفون بالقليل الذي يفهمون منه الكثير ، وبمجمله عن تفسيره . وخاصّةً للخطب الحربية فقد قال ابوبكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان حين وجهّه لفتح الشام : ( إذا خاطبت جندك فأوجز ، فإنّ كثير الكلام يُنسي بعضه بعضاً). الاطالة في الخطابة تكون للعامّة ، فيكون بها تكرار ، خاصّةً اذا كانت لهجة المتحدّث مختلفة عن لهجة المخاطبين. فقد قال بعض الصحابة لعمار بن ياسر: ( لقد اوجزت ، لولا تنفست –أي أطلت).ويجوز في الخطابة ان تقصد المبالغة في تحسين الحسن أو تقبيح القبيح ، فيبالغ المخاطب في الوصف لتحسينه أو تحقيره ، ليزيدوا النفوس استمالةً اليه أو تنفيراً عنه ، خاصّةً في موضوعات الفرقة والعنصرية ، والحض على الوحدة والالتقاء والاتفاق والتعايش السلمي ، وإظهار عدم الرضا والغضب بما يفرّق ، واستحسان كل ما يجمع ويقوّي . (أبوعلي ، نبيل خالد ، 2012) . ما أردته ان يقوم السيد حمدوك بدوره في توصيل افكاره التي يراها مناسبة لهذه الفترة ، لتوصيلها لأبناء شعبه عبر خطاباتٍ مباشرةٍ للخاصّةِ والعامّة ، في مناسبات الشعب المختلفة ، فتلهمهم وتبثُ فيهم الأمل ثم الأمل ثم الأمل ، في حياة كريمة ملؤها العدالة والسلام والحرية وحوكمة القانون والمساواة بين كآفة أبناء الوطن ، فللخطاب سحر وتأثير لا يجب أن يغفل عنه القائمون على الأمر ، خاصّةً المدنيون منهم لأنّهم الصورة الذهنية التي نريد ان تبقى وتدوم في السودان. علي أبوزيد – الدوحة 10.8.2020
المراجع: 1-أبوعلي، نبيل خالد.2012ز محاضرة بعنوان : انواع الخطابة وموضوعاتها، الجامعة الاسلامية غزة، https://www.youtube.com/watch؟v=k8RK7toa1kQhttps://www.youtube.com/watch؟v=k8RK7toa1kQ. 2-الجزيرة .نت. 2005. أكثر من مليون سوداني يستقبلون قرنق حباً في السلام. https://www.aljazeera.net/news/arabic/2005/7/9 3-اسلام ويب.2004.موعظته صلى الله عليه وسلم للانصار بعد حنين. https://www.islamweb.net/ar/fatwa/53297/https://www.islamweb.net/ar/fatwa/53297/ 4-السويدان،طارق.2018. محاضرة بعنوان : فن الخطابة. https://www.youtube.com/watch؟v=sCUgjpX5jkIhttps://www.youtube.com/watch؟v=sCUgjpX5jkI 5-اوباما،باراك حسين. 2019. الخطبة التي جعلت اوباما رئيساً. https://www.youtube.com/watch؟v=pKM1U-hCnFAhttps://www.youtube.com/watch؟v=pKM1U-hCnFA 6-جونيور،مارتن لوثر كنغ . 2016. خطاب مارتن لوثر كنغ الذي غير امريكا. لدي حلم . https://www.youtube.com/watch؟v=VYRp9S9eEikhttps://www.youtube.com/watch؟v=VYRp9S9eEik
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
علي ابوزيد
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست