هل التغطية الصحفية لموضوع ما تؤدي لتطبيعه؟ هذا افتراض يسهل قوله ، ولكن الأبحاث تشير إلى أن الأمر ليس بهذه البساطة. هل تقوم وسائل الإعلام الإخبارية بـ "تطبيع" المفاهيم الهوسية والسياسات المتطرفة من خلال تغطيتها؟ قد يجيب بعضُ مراقبي وسائل الإعلام بنعم، ويدعون الصحفيين إلى إعادة النظر في ما يولونه انتباههم، و مقدار زمن البث الذي يمنحونه للأفكار المجنونة أو غير المقبولة. ولكن يجب أن نكون حذرين بشأن افتراض أن اهتمام وسائل الإعلام يخلق تأثيرًا تطبيعياً. ومن الراجح بنفس القدر أن التغطية الإخبارية تبرز الانحراف أو الكراهية لموضوع متنازع عليه. إن الأبحاث في مجال العمليات الإدراكية تخبرنا، في كثير من الحالات ، أن مثل هذه الادعاءات "بالتطبيع" تدلنا على شخصية الناقد أكثر مما تدلنا عما هو موجود بالفعل في وسائل الإعلام. فقد انتقد مشاهدوا الأخبار الصحفيين على جرأتهم على الكتابة عن النازيين الجدد و أعضاء المجموعات المتطرفة بطريقة من شأنها أن تضفي عليهم نزعة " إنسانية". ففي أعقاب مسيرة الوطنيين البيض في مدينة شارلوتيسفيل، بولاية فرجينيا، في أغسطس 2017 م، حيث تجمع النازيون الجدد من جميع أطراف البلاد و طافوا بمشاعل تيكي و هم يهتفون" الدم و التربة"1 و " اليهود لن يأخذوا مكاننا" ، قام أحد الصحفيين من صحيفة نيويورك تايمز بتعقب أحد المشاركين في المسيرة و كتب سيرة ذاتية شاملة عنه. أشتمل المقال على فقرة تصف الرجل، توني هوفاتر من ولاية أوهايو، وذكرت بعض أفكاره . سيشعر معظم الأمريكيين بالاشمئزاز والحيرة بسبب ملاحظات الرجل المؤيدة لهتلر، و ازدرائه للديمقراطية و اعتقاده بأفضلية الفصل العنصري. ومع ذلك، هناك مجالان للبحث يشيران إلى أن الادعاءات بأن قصص الأخبار لها تأثير تطبيعي تعتبر مُضلِلة: يدلنا البحث في علم الاجتماع الإعلامي كيف أن تصوّر و إدراك " الانحراف" غالباً يعتبر عنصراً مهماً في كيف يحدد الصحفيون الأهمية الإعلامية للخبر. بالنسبة للصحفيين و القراء، فإن هذا التركيز على الأفكار الخطرة، و الأحداث، و الجماعات، و الأجندات يعكس رغبة أساسية جداً - إن لم تكن متأصلة - للحفاظ على السلامة الشخصية. يقوم الناس بشكل روتيني بمسح بيئاتهم بحثًا عن الأشياء المنحرفة أو غير العادية لأنها تشكل تهديدات محتملة. يُشبع الصحفيون رغبات الناس الفطرية في أن يكتشفوا المهددات في بيئاتهم، و يظلوا مطلعين على شئون العالم، و يبتكروا طرقاً للتعامل مع هذه المهددات، سواء كانت حقيقية أو محتملة. إن التقليل من شأن سلوك" سيّيء " موجود ، تجنباً للانتقادات، سوف يثير تساؤلات خطيرة حول الأخلاق المهنية. إن الأبحاث في علم النفس الإدراكي تخبرنا كيف أن التصورات المتحاملة غالباً تنبئنا عن الشخص الذي يقوم بالإدعاء أكثر مما تخبرنا عمّا في وسائل الإعلام. و من خلال تكريس الانحياز التأكيدي2 والديناميكيات المماثلة الأخرى، نقوم جميعًا "بتصفية" المحتوى الإخباري باستمرار من خلال الأحكام المسبقة والقيم والافتراضات الخاصة بنا. تتأثر ردة الفعل العامة بـ " الظاهرة العدائية لوسائل الإعلام" التي تفترض أنه كلما كنتُ أكثر تحزبّاً أو انحيازاً لموضوع معين، كلما كان من المرجح أن ارتاب في أن التغطية الإعلامية لهذا الموضوع معادية لوجهة نظري. وقد أظهرت الأبحاث ردة فعل الجمهور هذه مرارًا وتكرارًا على مر العقود بشأن مجموعة واسعة من المواضيع. وبعبارة أخرى إن أي ادعاء بشأن " أخبار تطبيعية" قد يستند على أرضية واهية و لا يفيدنا كثيراً. إن مجرد أن يختار الصحفي التركيز على شيء ما أوعلى بعض السلوك - الذي يجده متلقو الأخبار صادمًا - لا يعني ذلك أن موضوع التغطية الخبرية يتم تطبيعه. عندما خصصت وسائل الإعلام تغطية إعلامية مكثفة لفصل الأطفال الصغار عن ذويهم على حدود الولايات المتحدة الجنوبية، لم تؤد أي من هذه التغطيات في تطبيع خيار ترويع الأطفال في سن السادسة كاستراتيجية فعالة للحد من تدفق المهاجرين من بلدان أميركا الوسطى. وعندما ذكرت وسائل الإعلام الإخبارية فكرة شراء الرئيس ترامب جزيرة غرينلاند من الدنمارك ، لم تكن كثرة القصص الأخبارية حول هذا الموضوع دعوة و تشجيع لأي تخيلات أمريكية استعمارية جديدة. في كل هذه الحالات، يمكن القول إن التسليط الإعلامي قام بالعكس: فقد أبرز الانحراف في السلوك. لقد بُنيت التغطية الاعلامية بالكامل على افتراض أن القواعد تنتهك. وعلينا جميعا، كمتلقّي إعلام مسؤولين، أن نتريث قليلاً قبل القفز إلى أحكام حول ما نعتقد أن الصحفيين يفعلون. المصدر: Psychology Today بتاريخ 19/5/2020 م 1 – الدم و التربة : شعار وطني يعبرعن المثل الأعلى لألمانيا النازية. 2 - الانحياز التأكيدي : هو الميل للبحث عن، وتفسير، وتذكُّر المعلومات بطريقة تتوافق مع معتقدات وافتراضات الفرد، بينما لا يولي انتباهًا مماثلًا للمعلومات المناقضة لها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد حسن جبارة
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست