قال لي والدي (رحمهُ الله) : لم أشأ أن أكون وزيراً في أكثر من مرة سنحت فيها الفرصة ، لأني (والضمير راجع لهُ) لو فعلتها لن يكون في مقدوري إن فارقت المنصب أن أعمل شيئاً غير أن أكون وزيراً ، وسأقبع في داري أتصنت نشرات الأخبار علَّي أعود وزيراً مرةً أخرى (هكذا على حد تعبيره) ، وكان والدي يقصد أن النفس الأمارة بالسوء والتي تدعو صاحبها على الدوام إلى الإنغماس في الشهوات والمُتع ، لم تكن ستهدأ بعد أن ذاقت طعم السُلطة والشُهرة والنفوذ ، كيف لها أن تقبع في ركنٍ قصي منسية ومغمورة بعد أن رفلت في بُهرج السلطة والجاه ، ولذلك كانت فلسفتهُ تتمحوَّر حول النفس وكبت جِماحها ومنعها وإذلالها أدباً ورغبةً في أن لا يخسر ما تبقى من كنوز ونفائس في الدنيا أهمها شرف العمل والأمانة والتواضُع مع النفس والناس والوطن ، قادني هذا الحديث إلى التساؤل الأزلي حول ماهية موقع المنصب السياسي وكذلك الإداري من منطق فهم شاغليه لأدوارهم الأخرى في الحياة ، ذلك التساؤل الذي يبدأ بعبارة (هل هو تكليف أم تشريف؟) ، فبعض الناس لا يضع حداً فاصلاً بين طموحاته التي يبنيها لنفسه بنفسه وبين ما يُقحمه فيه الآخرين بآرائهم السلبية والإيجابية حول مكانتهم في بيئتهم المهنية والإجتماعية ، فيتقمَّصون (جبراً) شخصية الحياة المهنية وينغمسون فيها بأنفسٍ متبتِّلة وعاشقه ، ثم ينقلونها إلى سائر مشارِب حياتهم لا يفرقون فيها بين ما هو شخصي وأسري وإجتماعي ، ثم تتوه داخل تلك الدوامة المهنيه المُحبَّبة مواهبهم وقدراتهم الخاصة فتصير جُل دنياهم محصورةً فيها بكل تفاصيلها الهيكليه ومشاكلها المتواتِرة وإنتصاراتها وإنهزاماتها ، حتي إذا أتى الميعاد وجاء يوم (الفصل) بينهم وبينها أيَّما كانت الأداة ) تقاعد - فصل - إعفاء .... ألخ) ، وجدتهم ينهارون إنهياراً نفسياً يملؤه الجزع والهلع والخوف من غدٍ لا يعلمون أن الله لا مُحالة كافلُه ، وهكذا تظل القيَّم الإيجابية تجاه الحياة في شتى مناحيها تضمحل إلى أن تذبل صحتهم النفسية والبدنية ويذهبون ، إما إلى القبر وإما إلى الجمود الفكري والعاطفي والمهني ، وعلى النقيض هناك أشخاص يؤمنون بأن حياتهم المهنيه هي ليست كل شيئ و ليست كل ما لديهم من ثمرات ، فهم يُعملون جهدهم في النجاح فيها ، ولكنهم أيضاً وفي ذات الوقت يغذون وجدانهم بمواهب أخرى وإنتماءات ومهارات موازيه تجعلهم لا يشعرون بالضياع إذا فارقوا مناصبهم ووظائفهم ، أمثال هؤلاء سُرعان ما يندمجون في مجتمعاتهم الخاصة والعامة بإنسيابية نفسية عالية ، ولن ينشروا حال تقاعدهم همهم على أسرهم الصغيرة ويرفلون في ثياب الإيجابية والإقبال على كل ما هو مفيد أينما دعاهم الداعي إلى ذلك ، أمثال هؤلاء وجب أن تكون خططهم التي وضعوها لذواتهم محط إهتمامٍ يُحتذى لمن أراد أن يعيش في هذا العالم قانعاً وسعيداً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة