|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: عبد الحميد البرنس)
|
هكذا، تركنا أدوين أسيرا لتلك التأمّلات الصامتة غارقين تاليا في أشجان لغتنا الأمّ حيث الفضاء الحقيقيّ الوحيد المتاح للعودة بأشياء العالم إلى توهجها الأول. "أن تحلم بالغنى هنا في كندا ليس سوى وهم كبير". ربما تحقق الأمر كضربة حظٍّ عابرة لحواجز "الرق الحديث" المرسومة ببراعةِ ودقةِ كاهن. كأن تكسب "اليانصيب", ولم يكن المال على أي حال بالنسبة لصالح عهدي به سوى وسيلة لا بد منها أحيانا لجلب بعض متع وأفراح الحياة الصغيرة، مثل "وجبة لحم".
كان جسده وهو ممدود على فراش موته يحكي ببراعة مذهلة عن كل تلك الملابسات والوقائع والأحداث التي يمكن أن ينطوي عليها مثل ذلك التاريخ العريق الذي لا فكاك منه للفقر أو المعاناة. وهو لا يزال على فراش المستشفى ذاك، أقبلت إلى المكان المخصص للزوَّار خارج قسم العناية القلبية المكثفة، إحدى صويحبات زوجته. كانت سيدة في منتصف الثلاثين تقريبا. بدا من ثنايا ثرثرتها أنها لم تتخلص منذ حضورها قبل سنوات إلى كندا مما يدعونه في أوساط أولئك المثقفين بعبارة "آثار الصدمة الحضارية". قالت وهي تحاول أن تنتزع سعاد "زوجة صالح" من صحراء عزلتها الداخلية المقبضة تلك إن "الخواجات" إذا ألمت الغيبوبة بحبيب لهم يهمسون في أذن هذا الحبيب بأحبّ الأشياء إليه". ولم تقل "هذا الحبيب الموشك على الموت". ردت زوجته بعفوية آسرة: "كان صالح الطيب هذا يحبّ اللحمة".
هكذا، وجدتني شاردا هناك.
أتذكر ليالي القاهرة البعيدة المشتركة بيننا. طالعني أكثر من وجه لصالح. فُجِعْتُ في الأثناء أنه لم يتبقَ لي منها الكثير. ما تبقى لم يكن سوى محض ظلال باهتة وأشكال تشيخ. لكنَّ شيئا واحدا ظلّ محتفظا مع مرور السنوات بنفس ألق طزاجته الأولى تلك. صوتُه هو وهو يخاطب زوجته في نهاية إحدى تلك السهرات، قائلا: "أين اللحمة، يا سعاد"؟
آناء تلك الأيام العصيبة، سألتُ طبيبةً معالِجة، وخيط الأمل في عودته معافى للحياة لا يزال معقودا في نفسي، قالت بنبرة محايدة كصرير آلة:
"لا يزال في حال سيئة"!!
هذه إذن ليلة الخوف والرجاء واليأس والأمل. وعبثا أحاول النوم إلى جانب زوجتي المتعبة. والربان هناك في مفترق طرق خطير وحاسم. قد يطيب له المقام أو الرحيل. غدا، تتوقف الآلات الطبية المساعدة. ليبقى الجسد وحده في مقام القرار.
وهو لا يزال طريح الفراش نفسه، بين مصير ومصير، لاحظتْ زوجتي بدهشة أنني قد بدأت أتحدث عنه على نحو يفهم منه كما لو أنه قد مات بالفعل. كان ذلك منتهى اليأس، أو ال################. وقد كنت أشير إليه بالفعل أحيانا في ثنايا الحوار الخافت المتتابع عنه، قائلا بعفوية تامة: "المرحوم صالح الطيب". مع ذلك، ذهبتُ إليه، خلال ذلك النهار الأخير له على سطح هذه الأرض، ناشدته باسم أسرته وأصدقائه وقرّائه القليلين أن يبقى. بدا لي كما لو أن خيطا من الدموع أخذ يحيط بعينيه المطبقتين. لاحقا، أدركت من إحدى الممرضات أنهم ظلوا يبللون عينيه بسائل مُرطِّبٍ من آن لآن.
ياإلهي، ما ألطفك، وقد طلب مني صالح نفسه قبل أن يغادرني آخر مرة أن نكون "يا ماجد" على اتصال في "الأيام القادمة".
لقد تحقق هناك أكثر من لقاء أثناء غيبوبته تلك الطويلة الممتدة كدهر. قلت له "نحن في حاجة حقّا إلى مثل تلك اللقاءات، يا صالح". ثم أضفت بلوعةٍ كونيّة قد لا تليق سوى بكاتِبين منفِيين حتى النخاع "بذور الكتابة تموت من غير ماء الكلام عنها". وذكرت على سبيل الحرص شيئا آخر عن أرقام الهاتف. وقلت مُعَضِّدا جزيرتي ضد أمواج فوضاه العتيقة: "حاول أن تهاتفني أولا، يا صالح". فقط، لو كنت أعلم أن ذلك سيكون آخر لقاء لي به في هذه الحياة؟
بعد ذلك، تابعته وهو يستدير متجها ناحية الشرق من حيث أتى. وقد رسخ في ذهني أنني بدأت أعتاد على هيئته الجديدة المتداعية مثل بيت آئل للسقوط في أي لحظة. أجل، لا شيء هناك يتبقى أبدا في الأخير على حال واحدة. قال أدوين كما لو أنه خرج للتو من سياق رواية وجودية ما:
"وقت الراحة يذهب سريعا".
وقد اعترى سحنته بعض القلق:
"لعلنا قد تأخرنا قليلا عن وقت العودة، يا ماجد"!
كنت أهبط إلى جانب أدوين درجات السلم القليلة المنحدرة من شارع "الكينزواي" متجها لمواصلة عملي في الطابق الأرضي من المستشفى. كان صدى تشوقات صالح الطيب لقراءة ما كُتِبَ في غيابه داخل الوطن البعيد لا يزال يتردد داخل أذنيَّ مثل وَقعِ مقطوعةٍ غنائية لم تكتمل. أجل، لقد رحل وفي نفسه شيء من حتىَّ. وتلك ثلاثون دقيقة لوداع أبدي لا تلاق بعده. قال "لا بد أن أسماء عديدة قد ظهرت في الساحة الثقافية الآن". أومأت برأسي. وهو ابتسم بمرارة.
"أجمل الكلمات تلك التي لم يُمنح ذووها الوقت الكافي لقولها".
كان قد أوهن وهجُ ذكرى تلك العبارة لصديقنا ذاك الذي يغالب منذ مدة سرطان المخ في أمريكا ما تركه لقاء صالح الأخير في نفسي. ثم وجدتني أعتذر عن حديثنا منذ لحظات باللغة العربية في حضوره، قائلا: "ذلك صديق قديم يا أدوين".
يتبع:
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: عبد الحميد البرنس)
|
على سبيل المتابعة ووردة على روح صالح الطيبة لولا اسم الراوي ماجد لخلتها قصة حقيقة.
شكرا يا برنس وسعداء بعودتك للمنبر، تعرف هذا أحسن أوقات المنبر للكتابة الإبداعية، في الماضي مثل هذه الكتابات الدرر تغوص في القاع وتطفو فوق المنبر الجيف.
| |
  
|
|
|
|
|
|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: muntasir)
|
سلامات استاذ البرنس اقولك شنو يازول يا حنين ؟ تخيلتك ماسك في عنقريب جنازة الكاتب الراحل سامي سالم وتبكي . و تخيلتك فاتح كتاب قصة الرجل القبرصي للطيب صالح . وتخيلتك تبكي علينا كلنا في الغربة الممدودة من كوبنهاجن لي خميس مشيط لي ثاوث كارولاينا لي تورينتو لي سيدني . لو كنت بعرف اجلب الاغنيات الي البوست . كنت ختيت اغنية حتي الطيف رحل خلاني . الاغنية دي بالمتاسبة زي البنج . تخفف كتمة الحزن . دي كتابة في قمة السماحة . ليك التحية
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: Osman Musa)
|
سألتني زوجة صالح الطيب بعد مضي أكثر من أسبوع على سقطته تلك بالسكتة القلبية. كان طبيب شاب له وجه راهب طيّبٍ أجلسنا معا أنا وهي داخل غرفة جانبية من قسم "العناية المكثفة" ذاك. طلب مني أن أترجم لها الأقوال التي تُعرِض عن وطأتها الجبال نفسها. بدا جليّا أن شيئا ما يُقبِل مندفعا ولا سبيل هناك لوقفه. أخيرا، قالت زوجته: "يريدني إذن أن أمنحه الإذن بموت صالح"؟ الله وحده يعلم أيّ سدٍّ متين ٍ وراء عينيَّ أخذت تمور خلفه كل تلك الدموع.
قبل كل ذلك، رأيته فجأة يهرول نحوي، وهو يعبر بالكاد منتصف شارع "الكينزواي" ذي الاتجاهين، تماما كما نعبر الشوارع بلا تقاليد معينة في بلادنا، وقد علت وجهه إبتسامة، بينما انعكس شيء ما من شعاع الشمس الغارب على حواف نظارته الطبية المميزة لهيئته العامة. لقد بدا واضحا من هرولته تلك كما لو أن روحه تصنع ثورتها الأخيرة على جسد لا يكاد يقوى على حملها. ذلك ما بدأت أدركه فقط الآن. أشار لي بيده ناحية الشرق، بعد أن توقف قبالتي. قال وهو يستجمع أنفاسه اللاهثة: "كنت في الطريق لزيارة صديق يعمل في محطة البنزين تلك. ثم لمحتك تقف هنا. قلت أدردش معك قليلا". لكأنه أراد وداعي على طريقته الخاصة. كذلك كان آخر ما رأيتُ منه: إبتسامة.. إيماءة مودع.. وهيئة صديق يهم بالذهاب بعيدا. ولم يدر بخلدي لحظتها أنني لن أراه، مرة أخرى، سوى على فراش موته.
يتبع..
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: عبد الحميد البرنس)
|
تخلق مداخلات الأعزاء، النذير ومنتصر وعثمان، جدلا خلاقا فيما بينها من ناحية وبينها والنص من جهة أخرى. وفي السياق، قد ينطلق النص من واقعة فعلية، لكنه سرعان ما يفارقها ليستقل بذاته عبر خيال الكاتب ورؤيته للعالم، على نحو يجعل من الواقعة نموذجا إنسانيا وتعبيرا عن خبرة مشتركة. فالكتابة ليست في تصوري محض قدرة على التعبير بقدر ما هي حسب نازك الملائكة ملامسة لقلب الأشياء، ذلك العمق القار الذي يتحكم في سريان النهر وما يكفو عليه من ظواهر عارضة. سعيد بمشاركة الجميع هنا وبما أضاف ثلاثتهم للنص من معنى.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: ابو جهينة)
|
قبل أشهر، كنت أتسوق على عجل في طابق يقع تحت الأرض من مجمع تجاري ضخم يدعى "سيتي سنتر"، وقد أنهيت للتو مهام وظيفتي الأولى بعد منتصف ذلك النهار. بدا لزاما عليَّ أن أذهب بعدها إلى البيت القريب قبل البدء في مهام وظيفتي الأخرى تلك في نحو الخامسة مساء. كان هناك داخل قاعات الطعام المنتشرة إلى اليسار في نصف قوس أشبه بفم واسع كبير عمال نظافة وموظفون في وقت الراحة ومنفيون أرهقهم الحنين وسياسيون متقاعدون من العالم الثالث ناهيك عن غرباء آخرين بوجوه حزينة شاحبة أضناها السعي طويلا وراء "هذا الدولار".
"ماجد.. ماجد"!
هكذا، من بين مئات الأصوات وعشرات الألسن التي كانت تشكل الضجة المكتومة داخل ذلك المجمع التجاري الضخم، أخذ يتناهى إلى مسامعي صوت صالح الطيب كعادته أليفا خفيضا برغم نبرة النداء مستوقفا سائلا على بعد خطوات قليلة مني: "إزيك"؟ سألته بدوري لحظة أن استقر وميض التحايا في عتمة الوقت الفاصل بين وظيفتين مرهقتين عن "الحال والأحوال". وكان بادرني قبل أكثر من عام قائلا إنه أخذ يعتمد في حياته على ما أسماه "العيش بالحيلة".
أُفكِّر فيما إذا كانت وسائل صالح تلك من أجل البقاء في هذا العالم بالحيلة قد أصابها العطب في واقع شائك بينما أكاد أرى الآن عينيه المنطفئتين وهما تبحثان قبالتي وقتها بتوسل غامض عما تركه ذلك المصطلح على وجهي من أثر:
"العيش بالحيلة"!
لو أن استطلاعا عاما للرأي جرى، في هذه المدينة الكندية، وسط أكثر أولئك المستهلكين دراية بشؤون الأسواق لمعرفة "ماذا كان يفعل صالح الطيب وقتها داخل ذلك المجمع التجاري الضخم"، لما توصل أحدهم لإجابة مقرّبة من مراميه تلك.
بالنسبة لي (على الرغم من معرفتي النسبية ربما به)، إلا أن ما قد علمته منه وقتها بدا لي على نحو من الأنحاء مثيرا للدهشة أو الشفقة. يا للإنسان مغمورا في كل ذلك البهاء الذي يسبق موته. كانت المحلات داخل المجمع التجاري تغري بالشراء. كل منتج تم عرضه بجاذبية وعناية فائقة: الملابس، لعب الأطفال، الأطعمة، وغير ذلك مما وصلت إليه في حمَّى المنافسة يد خبراء وعمال مهرة بدا لي دائما كما لو أن الله قد خلقهم فقط للقيام بهذه المهمة أو تلك.
قال صالح الطيب مشيرا بيده إنه أتى "إلى هنا"، لأن "ذلك المحل يُقدِّم هذه الأيام" تخفيضات في أسعار الأقلام والورق وأشياء أخرى خاصة "يا ماجد" بمتطلبات "الكتابة". ثم دعاني صالح تاليا لتفقد المحل المذكور معا. وألح برغبة طفل عصيّة على الصدّ موضحا أن "بوسعك الآن يا ماجد" إلقاء نظرة سريعة لن تأخذ من "وقتك" الكثير. أوشكتُ أن أخبره أنني لم أعد أستخدم الورقة والقلم لكتابة شيء ما. لقد وقعت ببساطة في أسر ساحر غريب الأطوار يدعى "الكومبيوتر"!
لو أنني قمت وقتها بتلبية دعوته تلك ضاربا عرض الحائط بواجبات وظيفتي الأخرى ولو لمرة واحدة لربما رأيته وهو يداعب تلك الأوراق والأقلام والدفاتر البيضاء بكل ذلك الحنان الذي يمكن أن تحدثه أصابع ناقد حصيف على مشارف الكتابة.
يتبع..
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: عبد الحميد البرنس)
|
بعد مرور نحو تسع سنوات، أو قبل أشهر قليلة، وبينما كنت أهبط من الباص رقم "7" في إحدى محطات وسط المدينة متجها صوب عملي الآخر مُبكِّراً على غير العادة، بادرني شخص طاعن في السنّ بالسلام وهو يمد يده اليمنى نحو كتفي على طريقتنا السودانية. لبثت حائرا للحظات لم تكن قصيرة قبل أن أدرك بشيء من الأسى أنني أمام صالح الطيب وجها لوجه. كان يهم بالصعود إلى الباص نفسه الذي هبطت منه للتو. لعله كان متجها لتفقد أسرته الصغيرة شرق المدينة. قلت له والدهشة أسرٌ تال لا فكاك: "لقد تغيرتَ كثيرا يا صالح". قال بموضوعيّة لا يحسد عليها: "أنا طبعا السُّكري والضغط لكنك لا تزال بصحة جيدة تماما كما تبدو من صورتك في بعض مواقع الصحف على الانترنت". لا أنكر أنني قرأت وقتها في سري بعض التعويذات الدينية التي ظلت أمّي ترددها في مثل هذه المواقف!
قبلها، حاولت التخفيف من وطأة ذلك الشعور الموارب بالرثاء تجاهه موضحا أن الزمن قد ترك أيضا شيئا من آثاره على ملامحي. وقلت بحسٍّ رفاقيٍّ خالص هذه المرة: "لا تقلق، يا صديقي، لقد ملأتْ الدمامل حوائط روحي منذ مدة". شرع كلانا يتوغل بغتة داخل دهليز الصمت الكثيف الذي حلّ منذ ثوان مثل صفعة. كان لا يزال يقلب بين يديه في صفحات "لوعة الغياب"، للكاتب عبد الرحمن منيف، حين أخذ يتحدث دون أي مقدمات عن "مفهوم الموت" لدى نجيب محفوظ وأمل دنقل وربما جمال حمدان. غريبان. يجلسان في محطة باصّ. يتحدثان خطفا عن معضلة أزليّة. قال:
"لقد تعاملوا مع الموت كحادثة عادية".
وأخذنا كما تلك الأيام على مقاهي القاهرة نحرق السيجارة تلو السيجارة في تتابع مذهل. "إنها إحدى مُتع الحياة الصغيرة، يا صديقي". كان يحلو له أن يردد في تلك الأيام الموغلة "في البعد والنسيان". ثم قال وهو يجيبني على سنوات غيابه التسع إنه أنهى تأليف سبعة كتب. فكرتُ بيني وبين نفسي في شح المصادر والمصاعب الأخرى التي قد يكون واجهها كناقد يكتب من منفاه. ناهيك أن عملية إنجاز كتاب واحد فقط مسألة تستنفد الكثير من طاقات المرء الداخلية. قاطعا حبل تفكيري ذاك، سألني "وأنت، يا ماجد، ماذا كتبت"؟ قلت "لا شيء، أتقلب فقط بين وظائف هامشية".
حين رأيته وهو ينطوي هكذا حزينا على نفسه: "ربما أكتب مرثية لك، في القريب، يا صالح الطيب"! وانفجرنا معا بالضحك.
كانت الغرفة مشحونة برهبة الموت الماثل. كانت زوجته لا تزال تبدو إلى جواري حزينة بائسة مسلوبة من أي إرادة متعبة وغارقة في وحدتها المقبضة. تماما، "مثل قطّة مبتلة بماء المطر". وكان قد مر أيام منذ أن أصيب بتلك السكتة القلبية واُسعف. قال الطبيب الشاب وهو يحتفظ بنفس رباطة الجأش والنبرة المتفهمة الهادئة تلك إنهم كانوا في إنتظار "قرار أخصائي المخ". وإن حالته "ميئوس منها تماما". وقال يخاطبني وهو ينظر إليها وهي تقبع إلى جواري نظرته إلى سيدة شابة على أعتاب الترمُّل: "قل لها: لقد وافق رئيسه وأخصائي المخ على ألا أمل هناك في نجاته، وإنه لم يتبق في الأخير سوى موافقة الأسرة على القرار المتخذ برحيله". لكأن شيئا ثقيلا يسحب روحي بعيدا إلى أسفل. سألتني آنذاك ضارعة أن أترجم لها ما يقوله لي الطبيب بشأن وضعه الصحي الأخير كلمة بكلمة. "لا تخفي عني شيئا، ماجد أخي". قال "قل لها: إن القلب قد عاد إلى دقاته الطبيعية، لكن توقف القلب قبل اسعافه لأكثر من 15 إلى 25 دقيقة قد أحدث دمارا واسعا في المخ، لقد ترددوا (ربما) في الإبلاغ عنه لحظة أن توقف قلبه، وإنه يتنفس الآن فقط بمساعدة الآلات الطبية". ثم واصل بالبرود المعدنيّ ذاك نفسه: "قل لها: إنهم عادة يتابعون مثل هذه الحالات لمدة 24 أو48 أوحتى 72 ساعة آملين في تحسنها، لكنه مر عليه الآن أكثر من أسبوع، ولا يزال جسده ينتفض بشدة كلما حاول معالجوه أن يوقفوا تنفسه عبر الآلة المساعدة للحياة، وإن هذا يطيل أمد معاناته، لكأن الجسد يقول:
دعوني كي أذهب"!
وصمت.
قلت لها:
"لقد توقف الأطباء هنا (يا سعاد) لكن قدرة الله لا حدود لها".
وقتها لم أكن أنظر إلى عينيها.
يتبع..
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الوداع الأخير لناقد حصيف! (Re: عبد الحميد البرنس)
|
قبل أربع سنوات تقريبا، في أمسية شتائية مضيئة بالثلج الأبيض المترامي وراء نوافذ شقتي الزجاجية الواسعة في مدينة أخرى تدعى "وينبيك"، ولم أكن قد تزوجت وقتها بعد؛ رنّ جرس الهاتف كأصابع روح غريبة تطرق الباب فجأة، فإذا بصوت صالح الطيب نفسه يأتي من الطرف الآخر مهنئا بسلامة وصولي القريب إلى كندا. وكان هو قد سبقني في القدوم إلى كندا بنحو خمس سنوات تقريبا، أثناء تلك المحادثة، بدا راغبا في الكلام، إلى الدرجة التي أنستني فيما يبدو لي الآن أن أسأله كيف تحصَّل على رقم هاتفي برغم حداثة عهدي وقتها بالمكان، ولعلي قد أكون فعلت (يا عبء الذاكرة وفداحة النسيان). كان حديثه يتجه إلى تلك المنطقة المشتركة من ذاكرة المنفيين الغرباء: "القاهرة". يومها، سألني عن الناس، الأماكن الأليفة، الحركة الثقافية، وأشياء أخرى لا أريد أن أذكرها، وقد بدا من شدة الحنين وكأن كندا قد تكشفت له عن وهم كبير آخر، ولا عزاء. أجل "نغادر (يا أصدقائي إلى منفىً كيما نحنُّ إلى منفىً آخر".
ما أحزنني ساعتها أن شخصا ما ظلَّ يطالبه على الطرف الآخر من الخطّ بإنهاء المكالمة. اعتذر لي بتهذيبه ذاك موضحا أنه ظل يشغل الهاتف بينما أحد رفقائه في السكن المشترك يتوقع مكالمة هاتفية ما. كان عاطلا وقتها عن العمل.
قلت له:
"لا عليك".
وكان وعدني قبيل أن يُنهي تلك المكالمة أن يمكث في ضيافتي قريبا بضعة أيام في طريقه من محافظة "ألبرتا" إلى محافظة "أونتاريو" في الشرق، وهو ما لم يحدث. لسبب ما، لم أشأ في أثناء كل ذلك أن أسأله عن أحواله تلك الخاصّة!
في المستشفى التي لا أزال أعمل فيها، والتي رحل منها صالح إلى رحاب الله ذات صباح بدت فيه السحب السوداء الكثيفة قريبة كأذرع تمتد لأخذ عزيز من بين يديك مرة وإلى الأبد، ظللت ألقي نظرة إلى ما وراء الحواجز الزجاجية لتلك الغرفة القريبة من درج الممرضات كلما مررت بقسم العناية القلبية المكثفة. في كل مرة أفعل فيها ذلك، كان يتراءى لي شحوب تلك الأيام على وجه زوجته، وهي تقف قبالة عينيه المغمضتين، وقد بدا غير بعيد منهما الصغيران ضياء وبهاء وهما يعلنان عن خيبة أملهما الكبرى في شأن وعد كان قد قطعه لهما والدهما قبل أيام قليلة من سقوطه: شراء لُعبة تدعى "كيربي".
| |
 
|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|