في مقابل الإلهام الكبير الذي تقدّمه للرأي العام العربي جماهير السودان بتنظيمها وسلميّتها وحركيتها، وكذلك قيادات الاحتجاج بقدرتها في التعبير السياسي عن إرادة السودانيين بنظام مدنيّ ديمقراطي متقدّم فإن قادة «المجلس العسكري»، ومن قبلهم الرئيس المعزول حسن البشير، ما يفاجئون المراقبين بصورتين متناقضتين من الغطرسة ضد السودانيين أنفسهم، والتذلّل لزعماء عرب آخرين. من ذلك ما قام به البشير نفسه بقبول «السفر» بناقلة عسكرية روسيّة إلى سوريا لمقابلة رئيس نظامها بشار الأسد في الوقت نفسه الذي كانت المظاهرات قد بدأت ضدّه في السودان، وكذلك ما قام به رئيس المجلس العسكري الحالي عبد الفتاح البرهان بتأديته التحية العسكرية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثناء استقبال الأخير له أول أمس في قصر «الاتحادية». التحيّة التي قام بها البرهان تتجاوز طبعا رمزيّة «التراتبية» العسكرية، فالسيسي يملك رتبة «مشير»، والبرهان صاحب رتبة أقل «فريق أول»، والسيسي رئيس دولة أما البرهان فهو رئيس «مجلس عسكري» يفترض أن يقود مرحلة انتقالية يسلّم فيها السلطات إلى حكومة مدنيّة، فهو، من الناحية المنطقية «أقلّ» رتبة عسكرية كانت أم سياسية من السيسي، ولكنّه من ناحية أخرى ممثّل مفترض، أراد ذلك أم لم يرد، لثورة سودانيّة تطمح لنظام سياسي أرقى من نظام السيسي المختلف على شرعيّته، والغارق في دماء خصومه السياسيين، وإذا لم يكن الفريق أول البرهان راضيا بهذه المعادلة «المجحفة» بحقه (أن يكون معبّرا عن آمال السودانيين بنظام عادل)، فالأولى أن يقوم باحترام نفسه كشخص واحترام السودانيين على اختلاف توجهاتهم السياسية وأن يمتنع عن إبداء إشارة خضوع وتذلّل لم يكلّفه بها أحد. تكشف التحيّة العسكرية في الواقع ما وراء الأكمة، وتعبّر عن حقيقة ما يطمح إليه «المجلس العسكري» في السودان بتكرار السيناريو المصري: ركوب ثورة الجماهير وتقديم التنازلات الشكليّة لها، من قبيل القبض على 21 من رموز النظام السوداني السابق، ثم الانقضاض عليها وإعادة النظام القديم مع تغطية إقليمية جديدة يمثّلها حلف «الثورة المضادة» في مصر والإمارات والسعودية والبحرين. التقط الناشطون السودانيون المعنى الكامن في تلك اللقطة فقال أحدهم «هؤلاء يريدون أن يطأطئوا رؤوسنا»، فيما قال آخر إن البرهان أعطى انطباعا أنه «مجرد رتبة أدنى سيتلقى تعليمات ممن يرأسه»، يظهره وبلده كتابعين لبلد ورئيس بلد آخر، وقال آخر: «تمشي للسيسي الذليل: كنت إمش بصفة شخصية. ذلّ نفسك ما تذل السودان». على بساطتها الرمزية، تظهر التحيّة العسكرية أن «المجلس العسكري» صار تحت «أمرة» حلف «الثورة المضادة»، التي بدأت بتقديم «الملاءة» النقديّة اللازمة لدفع أجور جنود القوات المسلحة و«الدعم السريع»، ويظهر إعلان حزب «الأمة» رفض المشاركة في الإضراب العام الذي أعلنته «قوى الحرية والتغيير» التي تقود الاحتجاجات، تأثير الإمارات التي كانت تستضيف زعيم حزب «الأمة» الصادق المهدي لسنوات خلت قبل الثورة، وهذا يعني أن «الثورة المضادة» انتقلت إلى الخطوة الثانية بعد تأمين «المجلس العسكري»، وهي شق المعارضة. تلتقط جملة الناشط السوداني حول «السيسي الذليل» مفارقة أخرى كبيرة، فهي توضّح «تراتبية» غير منظورة، ولا تتعلق بالرتب العسكريّة، فالرئيس المصريّ، رغم كونه يرأس أكبر بلد عربيّ، أذلّ نفسه سابقا وبأشكال مختلفة مع السعودية والإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن كان البرهان قد أدّى التحية العسكرية للسيسي فماذا يفعل حين يقابل ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، أو وليّ عهد السعودية محمد بن سلمان؟ المعادلة التي لا يريد العسكريّون فهمها هو أن الاستبداد ضد شعوبهم هو طريق ذلّ لا نهاية له. راي القدس اللندنية
05-27-2019, 09:25 PM
Asim Ali Asim Ali
تاريخ التسجيل: 01-25-2017
مجموع المشاركات: 13492
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير عثمان حمد
Asim Ali
Mahjob Abdalla
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست