لن يغيرنا الله حتى نتغير أولا....

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 02:55 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-03-2020, 02:29 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لن يغيرنا الله حتى نتغير أولا....

    01:29 AM February, 02 2020

    سودانيز اون لاين
    سيف اليزل برعي البدوي-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    النفس البشرية هي مصدر القبول والرفض لأي تغيير نحو الأفضل أو الأسوأ، وبحسب استعدادها للعلو والهبوط يمنحها الله ما تهيأت هي له، وعندما نزل الوحي استقبلته القلوب الصادقة فزادها إيمانًا، ورفضته القلوب المكذبة فزادها كفرًا.. قال تعالى: {فأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}.
    والشعوب التي تريد المجد لا يحجبها أحد عن مجدها، وسوف تناله بجدارة؛ لأنها تستحق ذلك. وانظر إلى المؤمنين في بدر، كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، لكنهم كانوا بذرة طيبة لأمة عظيمة، طوّقت انتصاراتها وفتوحاتها الدنيا.
    والأمة التي استسلمت للهوان، ورضيت بالذل؛ لا يرتفع لها شأن أبدًا، فبنو إسرائيل انتصر عليهم فرعون، واستعبدهم وأذلّهم؛ لأن عندهم قابلية لذلك، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

    ولهذا لما هاجر بهم موسى إلى الأرض المقدسة لم يكونوا أهلاً للنصر والمجد؛ لأنهم يحملون نفوس الخنوع والقهر، فأبقاهم الله في صحراء سيناء يتيهون أربعين سنة حتى مات هذا الجيل الفاشل الذليل الحقير، ونشأ جيل آخر عنده صمود وتحدٍّ، فدخل الأرض المقدسة.

    وما تقوم دولة من الدول ولا ثورة من الثورات إلا على أيدي أبطال عندهم استعداد للتضحية والفداء، كما قال أبو مسلم الخراساني: كل قادة دولة في أول أمرهم شجعان، ولا تسقط دولة إلا على أيدي كسالى فاشلين عندهم استعداد للسقوط..
    فدولة بني أمية سقطت على أيدي أناس مستهترين وأوغاد لعّابين؛ كان بعضهم يحتجب عن الرعية، وكان جُلّ وقته سكران يعيش حياة البذخ والإسراف حتى قُتل على يد ابن عمه وأُحرق في جلد حمار، ودولة بني العباس سقطت في جيل فوضوي همّه اللهو واللعب، حتى إن الخليفة المستعصم من آخر خلفائهم كان مشتغلاً بنطاح الكباش واللعب بالنردشير!!

    والذين صنعوا الحضارات كانوا أهلاً لهذا التمدن الدنيوي والرقي الحضاري، فهل اليابانيون وصلوا إلى ما وصلوا إليه من إنتاج وصناعة وتمدن بالنظر في النجوم، وتعليق التمائم، واستشارة المشعوذين والكهنة؟ أم بالنزول إلى الميدان، وفتح الآفاق للمهارات وتسخير المواهب في سبيل النهوض والتمدن، وترك الكسل والمظاهر الخدّاعة والمشاهد الزائفة من اللهو والطرب؟
    وهل ماليزيا بقيادة مهاتير محمد جلست على النجوم في العالم الإسلامي في رقيّها وحضارتها ونظامها واقتصادها؛ لأنها جلست تتغنى بمجد أجدادها وتاريخ أسلافها، أم لأن مهاتير محمد وضع لها خطة عملية ميدانية تسمى الخطة العشرية، وهي مكتوبة موجودة لمن أراد أن يطلع عليها، تقوم على احترام القداسات، وإطلاق الحريات، وإحياء المؤسسات، وفتح سوق العمل، والانتقال من التنظير إلى الميدان، وفك الارتباط الاقتصادي الذي يقوم على التبعية لهيمنة الرأسمالية .

    وهل "طيب أردجان" في تركيا أجلس تركيا على الجوزاء في عالم الازدهار والتقدم؛ لأنه قعد يقص عليهم أخبار أجداده من عثمان الأول وسليمان القانوني ومحمد الفاتح وأمثالهم؟ أم لأن الرجل وأعضاء إدارته شدوا أحزمتهم في عمل رهيب يقوم على روح التنافس والتجديد والإبداع، ووضعوا خططًا للتعليم والسياسة والاقتصاد والسياحة وغيرها، وكلفوا طواقم من الجهابذة مهمتهم تنفيذ هذه الخطط كلٌّ فيما يخصه؟ حتى إن تركيا هذا العام أخذت المركز العالمي الأول في السياحة تنظيمًا وترتيبًا وإمتاعًا، وهي ليست بلد بترول ولا غاز.
    ولا يُحتل وطن ولا تُذّل أمة إلا وعند أهلها استعداد وقابلية لذلك؛ فالعالم الإسلامي في عصر الانحطاط قَبِل الاستعمار المغولي، ولكنه في عهد النهوض والصمود بقيادة نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رفض الاحتلال الصليبي وفتح بيت المقدس.

    والذين لا يفخرون بالمجد الدنيوي والازدهار المعيشي ليس عندهم استعداد لهذه المراتب المتقدمة؛ لأن من يفكر في التوافه ويعيش الأوهام ويتسلى بالماضي لا يصلح أن يصنع مجدًا أو يقيم حضارة أو يترك إبداعًا ومآثر حية، وإنني أقرأ سيرة الرموز المعاصرة الذين أثّروا في القرن الماضي وساهموا في صنع التاريخ وهم قُرابة العشرين رمزًا، وقد جمعهم الأستاذ تركي الحمد في كتاب (العشرون الأوائل)، وسمّى منهم الملك عبد العزيز وغاندي وروزفلت وتشرشل ولينين وستالين وماوسي تونق ونيلسون مانديلا ومحمد علي جناح وبقية العشرين، وقد أصاب في ذلك، بل إن الكاتب مصطفى أمين جعل الملك عبد العزيز الأول بين العشرين في مقال له.
    ويجمع هؤلاء العشرين قاسمٌ مشترك، وهو الصمود والتحدي والصبر والعمل والإصرار، بغض النظر عن معتقداتهم ومذاهبهم، وإنما المسألة سُنّة الوجود وقانون الحياة الدنيوية؛ لأن من جدّ وجد ومن زرع حصد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

    إذن فليبدأ الإنسان بنفسه فيغيرها إلى الأصلح همةً وتفكيرًا وعملاً. إن الذي يفكر في النجاح دائمًا ويُعِدّ له العُدّة ويهيئ له الأسباب، سوف يمنحه الله النجاح، والذي يسعى لطلب الرزق ويكدّ ويكدح ليجمع المال الحلال، سوف يرزقه الله من حيث لا يحتسب.
    وأما الذي يجلس في غرفته يدير نظره في جدرانها الأربع، وينتظر أن تهبط عليه العبقرية من السقف، أو أن تدخل عليه المواهب من النافذة؛ فهذا مريض ينبغي أن يُسعى في طلب الدواء له.

    ولهذا يطالب روّاد المعرفة من الإنسان أن يغيِّر فكره أولاً ونظرته إلى الحياة، ويأمرونه أن يفكر في النجاح والرقي والفضيلة والنصر والسلام والتّفوق والصحة والرزق ونحوها؛ لأنه سوف يعمل من أجلها، ولا يفكر في الرسوب والتأخر والانحطاط والهزيمة والحرب والانكسار والمرض والفقر؛ لأنه سوف يستسلم في الأخير لها.
    -------------------------------------------------------------------
    عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : (من لا يشكر الناس لا يشكر الله )
    كم فرقتنا النعرات المنتنة وجمعنا الإسلام، وكم وعدونا في ظل الليبرالية والقومية والبعثية والعلمانية .. بالرخاء والوحدة والأمن والاستقرار والرفعة، فإذا الأمر سراب، وإذا التجربة المريرة تثبت أنهم شتتونا أكثر مما جمعونا وأخافونا أكثر مما أمَنونا، وأذلونا أكثر مما أعزونا، وإذا قول الله الحق يعلو على كل هذا الركام، وإذا خير الهدي هدي خير الأنام، وأعطر التاريخ تاريخ السلف الكرام، وإذا بصوت الضمير يقول: حين شقائي حين جهلت طريق إلهي، حين تركت سيرة أجدادي وآبائي، حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي.

    (من لا يشكر الناس لا يشكر الله ) قال القاضي: وهذا إما لأن شكره تعالى إنما يتم بمطاوعته وامتثال أمره وأن مما أمر به شكر الناس الذين هم وسائط في إيصال نعم الله إليه، فمن لم يطاوعه فيه لم يكن مؤديا شكر نعمه، أو لأن من أخل بشكر من أسدى نعمة من الناس مع ما يرى من حرصه على حب الثناء والشكر على النعماء وتأذيه بالإعراض والكفران كان أولى بأن يتهاون في شكر من يستوي عنده الشكر والكفران .
    وفي رواية لهذا الحديث ( أشكر الناس لله أشكرهم للناس ) قال المناوي: ( أشكر الناس لله ) تعالى أي من أكثرهم شكراً له ( أشكرهم للناس ) لأنه سبحانه جعل للنعم وسائط منهم وأوجب شكر من جعله سبباً لإفاضتها كالأنبياء والصحابة والعلماء فزيادة العبد في شكرهم زيادة في شكر ربه، إذ هو المنعم بالحقيقة، فشكرهم شكره، ونعم الله منها بغير واسطة كأصل خلقته، ومنها بواسطة وهي ما على أيدي الناس فتتقيد بشكرهم ومكافأتهم ففي الحقيقة قد شكر المنعم بإيجاد أصل النعمة ثم بتسخير الوسائط.

    قال بعض العارفين: لو علم الشيطان أن طريقاً توصل إلى الله أفضل من الشكر لوقف فيها ألا تراه قال :[ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين] ولم يقل لا تجد أكثرهم صابرين أو نحوه ، وقال ذو النون المصري أبو الفيض: الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال .
    وقال أبو حاتم: الواجب على من أُسدى إليه معروف أن يشكره بأفضل منه أو مثله لأن الإفضال على المعروف في الشكر لا يقوم مقام ابتدائه وإن قل، فمن لم يجد فليثن عليه فإن الثناء عند العدم يقوم مقام الشكر للمعروف وما استغنى أحد عن شكر الناس
    وقال أيضا: الحر لا يكفر النعمة ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر لله جل وعلا ولمن أسداها إليه .

    وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-:
    - (من أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له )
    - (من أعطى شيئا فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليثن به، فإن أثنى به فقد شكره وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور )
    - (من أٌولي معروفا فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)
    - (من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء)
    - وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال المهاجرون: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ما رأينا قوما أحسن بذلا لكثير ولا أحسن مواساة في قليل منهم ولقد كفونا المؤنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: ( أليس تثنون عليهم به، وتدعون لهم، قالوا بلى قال فذاك بذاك ) أي ما دمتم تدعون لهم بخير فإن دعاءكم يقوم بحسناتهم إليكم، وثواب حسناتكم راجع عليكم.

    قال الطيبي رحمه الله: يعني إذ حملوا المشقة والتعب على أنفسهم وأشركونا في الراحة والمهنأ فقد أحرزوا المثوبات فكيف نجازيهم ؟ فأجاب لا. أي ليس الأمر كما زعمتم إذا أثنيتم عليهم شكرا لصنيعهم ودمتم عليه فقد جازيتموهم.

    - مر سعيد بن العاص بدار رجل بالمدينة فاستسقى فسقوه، ثم مر بعد ذلك بالدار ومناد ينادي عليها فيمن يزيد قال لمولاه: سل لم تباع هذه؟ فرجع إليه فقال: على صاحبها دين، قال: ارجع إلى الدار فرجع فوجد صاحبها جالسا وغريمه معه، فقال: لم تبيع دارك ؟ قال: لهذا على أربعة آلاف دينار، فنزل وتحدث معهما وبعث غلامه فأتاه ببدرة فدفع إلى الغريم أربعة آلاف ودفع الباقي إلى صاحب الدار وركب ومضى.

    - وأقبل سعيد بن العاص يوما يمشي وحده من المسجد، فقام إليه رجل من قريش فمشى عن يمينه، فلما بلغا دار سعيد التفت إليه سعيد فقال: ما حاجتك؟ قال: لا حاجة لي، رأيتك تمشي وحدك فوصلتك، فقال سعيد: لقهرمانه ماذا لنا عندك؟ قال: ثلاثون ألفا، قال: ادفعها إليه.
    - وعن أبي عيسى قال: كان إبراهيم بن أدهم إذا صنع إليه أحد معروفا حرص على أن يكافئه أو يتفضل عليه، قال أبو عيسى: فلقيني وأنا على حمار وأنا أريد بيت المقدس وقد اشترى بأربعة دوانيق تفاحا وسفرجلا وخوخا وفاكهة، فقال: يا أبا عيسى أحب أن تحمل هذا، قال وإذا عجوز يهودية في كوخ لها، فقال: أحب أن توصل هذا إليها فإنني مررت وأنا ممس فبيتتني عندها فأحب أن أكافئها على ذلك.

    - ومر عمر بن هبيرة ــ لما انصرف في طريقه ــ فسمع امرأة من قيس تقول: لا والذي ينجي عمر بن هبيرة، فقال: يا غلام أعطها ما معك وأعلمها أني قد نجوت.

    - وعن إبراهيم بن محمد قال: خرجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت فقال لي: تذكر هل بقى أحد أغفلناه ؟ قلت لا، قال بلى رجل لقيني فسلم على سلاما جميلا صفته كذا وكذا اكتب له عشرة دنانير .

    - وعن الربيع بن سليمان قال: أخذ رجل بركاب الشافعي فقال: يا ربيع أعطه دينارا.


    سلام على القمم ، سلام على خير الأمم.
    -------------------------------------------------------------------------
    علم إدارة الذات يتميز برعايته للفرد والمجتمع، وتحقيق التوازن في المصالح والعلاقات، بما يؤدي إلى إيجاد المجتمع الفاعل، المتماسك، المتكافل، وإقامة ذلك على تصور محكم وشامل للإنسان، والكون، والحياة... إنه علم في غاية الأهمية من جهة علاج الواقع الذي نعيش فيه، فإننا في حال هزيمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، والعودة بالنفس والمجتمع من حال الهزيمة إلى حال الانتصار تحتاج إلى مزيد الاهتمام بهذا العلم، وتقديمه للكبير والصغير في صورة مبسطة وسهلة، وفق عقيدة إسلامية سليمة، وبعيدا عن التعقيدات الفلسفية والشطحات الفكرية.

    ورغم أن لعلماء الغرب جهوداً واضحة في هذا العلم، إلا أن ما يعيب عليهم، تلك المادية المفرطة في تناول جزئياته، والتي تدور دوما حول تكوين الرجل الجبار الذي يقهر الأقدار، وعلى تسلسل الأحداث وفق مقدمات ونتائج حتمية أشبه بالمعادلات الرياضية الصماء، حتى غابت الحقيقة التي لا ريب فيها من أن أساس النجاح في أي عمل يرجع إلى توفيق الله سبحانه وتعالى.
    أما علماؤنا المسلمين فلهم القدر الأعلى والحظ الأوفر في خدمة هذا العلم الشريف، لكن في أجواء روحانية سامية، ولمسات إيمانية راقية، وتناغم مع الفطرة البشرية بما فيها من قوة في مجالات وضعف في مجالات أخرى، وبما فيها من إقدام وإحجام، وحزن وفرح، وعلم في أمور وجهل بأمور أخرى... بما فيها من تناقضات، وإيجابيات وسلبيات.
    ويرجع السبب الأعظم في هذا التميز الإسلامي، وهذا المذاق الخاص عند علمائنا الأخيار، إلى النهل من النبع الكريم، نبع القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والاسترشاد بالسنة النبوية المطهرة سنة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.

    ولا ريب أن الاغتراف من معين الكتاب الكريم وأقوال رسولنا الأمين لهما أبعد الأثر في الوقوف الحقيقي على طبيعة النفس البشرية {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14] وكيفية التعامل معها، فضلا عن النظرة الشمولية لحياة الفرد، بداية من أخذ الله الميثاق عليه في الأزل ثم وجوده على الأرض في الحياة الدنيوية ثم ما يتبعها من حياة برزخية وأحداث يوم القيامة ثم دار القرار جنة الخلد أو النار أعاذنا منها الكريم الجبار...ولاشك أن هذه النظرة الشمولية تختلف كثيرا عن النظرة القاصرة لحياة الإنسان الدنيوية فقط، والتي تكرس المادية المفرطة، والدوران في فلك اللذات والشهوات، دون رقيب أو حسيب.
    هذا التناغم بين المصادر الإلهية والتجارب الحياتية في إطار سلامة المعتقد وشمولية النظرة للكون والحياة، جعل من علم إدارة الذات رائعة من روائع الحضارة الإسلامية لا تجد لها مثيلا في الأمم الأخرى، حتى صار هذا العلم فن إسلامي باقتدار، ويكفي أن تتابع كتابات الأفذاذ من أمثال ابن القيم وابن الجوزي وابن حبان .. وغيرهم ، فضلا عن كتابات مشايخنا المعاصرين حتى تدرك هذه اللمسات الإيمانية الفريدة التي تدلل على براعة علمائنا.... ومن ذاق عرف.

    أيضا مما يمتاز به علم إدارة الذات الإسلامي التطرق إلى أمور تغيب تماما عن الفكر الغربي المادي، رغم شدة حاجتها لكل ذي فطرة سوي ومنها: عقيدة القضاء والقدر، وقيم الصبر على أقدار الله، والرضا بالقسم الرباني. أمراض القلوب من غل وحقد وحسد... وغيرها. الهوى والشيطان وكيف يستعيذ منهما الإنسان. استراتيجية العمل لما ينفع بعد الموت، وقيم الصدقة الجارية، وفقه من تجاوزت أعمالهم أعمارهم... وغيرها الكثير. دور الإيمان بالغيبيات في إيجابية حياة الفرد في الدنيا والآخرة، وأن قيم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الأخر كلها قيم دافعة لصلاح الذات..... وهذا غيض من فيض، فالمقام لا يسمح باستقصاء كل مميزات علم إدارة الذات الإسلامي، لكن لا يغيب على كل فطن أهمية هذه المميزات في حياة الإنسان، وفي تفاعله المثمر مع خالقه وبارئة، بل ومع الكون كله.

    إن الإيمان الحق بالله سبحانه وتعالى، أي الإيمان الراسخ في القلب رسوخ الجبال الشامخات، والذي يصدقه العمل الصالح، وليس الإيمان الذي يردده اللسان فقط - هذا الإيمان يجعل الإنسان المؤمن قوياً في إرادته، لا تعجزه ولا توقفه العقبات والمشاكل التي تعترض طريقه في الحياة، بل ينظر إليها ويضعها في حجمها الطبيعي، ويوقن أنه سيتغلب عليها أو يتأقلم معها طالما التزم التوكل على الله سبحانه حق التوكل، وهذا التوكل - وليس التواكل - هو الدافع الحقيقي للفرد المؤمن نحو الشجاعة والإقدام واقتحام المشاكـل وعدم التسويف الذي يورث في النفس الخوف من المجهول، والخوف من المستقبل.
    إن التوكل على الله تعالى يولد الثقة بالنفس، والثقة بالقدرات الهائلة التي وضعها الله سبحانه فينا.... فلا مجال إذن إلاّ للإرادة القوية المقرونة بالتوكل الحق على الله سبحانه خالق ومالك كل شيء، وأن تنطلق هذه الإرادة من يقين راسخ بأن الله سبحانه هو المتصرف في ملكه، وهو القادر عليه، وهو المعطي والمانع، وهو الرافع والخافض... قال تعالى{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26 – 27].

    من هذا المنطلق نستطيع أن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رائد علم إدارة الذات باقتدار، وتنوعت مهاراته -بأبي هو وأمي- في معالجة كبوات النفس البشرية تنوعا يناسب طبيعة الكبوة، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي.
    فعن أبي أمامة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام شاب، فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فصاح به الناس، وقالوا مه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذروه، ادن" فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا. قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟" قال: لا. قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لبنانهم. أتحبه لأختك؟" قال: لا. قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم. أتحبه لعمتك؟ قال: لا. قال: "فكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم. أتحبه لخالتك؟" قال: لا. قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، فاكره لهم ما تكره لنفسك، وأحب لهم ما تحب لنفسك". فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يطهر قلبي. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره، فقال: "اللهم أغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه". قال: فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء. [الطبراني] .
    وهنا تكمن براعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في التعامل بفردية بحتة مع هذه القضية الفردية، ذاك أنها مشكلة تخص هذا الشخص وحده، ولا تخص غيره، حيث لا يختلف عاقلان على قبح الزنا وبشاعته، ولكنها حالة خاصة من تشوش الفكرة وانقلاب الفطرة، فكانت السياسة النبوية قائمة على الإقناع أكثر منها بالمواجهة لحكم الله تعالى في هذا الأمر، ذاك لأن العقول لو تفهمت مراد الله عز وجل لسهل عليها الانقياد لشرعه والإذعان لحكمة.
    لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم يسرد على الفتى آيات القرآن الكريم التي قبحت الزنا وتوعدت فاعله، بل إنه عليه الصلاة والسلام قابل تشوش الفكرة بعين الحكمة والإقناع، ثم بجميل الدعاء، مما سهل عليها الانصياع لحكم الله الذي لا يجهله مسلم.

    لكن في موقف آخر نجد أن الطريقة النبوية تختلف تماما في تناول معالجتها، ذلك لأنها قضية عامة تمس الأمة قاطبة لا فرد بعينه، فكان لابد من الجهار والاستنكار دون تجريح أو تفضيح.
    فعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد - يقال له ابن اللتبية - على الصدقة. فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي!! قال: فقام رسول الله على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولآني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية ٌ أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاءٌ أو بقرة ً لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، يقول: اللهم هل بلغت" [الجمع بين الصحيحين]
    ولما كانت النصيحة على الملأ فضيحة نجد الأدب النبوي أعرض عن ذكر اسم الرجل على المنبر، فالتشهير بذوات الناس لا يحقق المراد ويوغر الصدور، ولكن المقصود أن يعلم القاصي والداني عاقبة الرشوة، لأنها ثمرة فساد الأمم، حيث تستجلب بها الرغبات بغير حق، فيتحول المجتمع إلى غابة موحشة الحق كله فيها للغني دون الفقير، وهذا نذير شؤم وعاقبة هلاك.
    لذلك قال شراح الحديث:
    - وفيه أنَّ مَن رأى متأوِّلاً أخطأ في تأويلٍ يَضرُّ مَن أخَذ به، أن يُشهر القول للناس، ويُبيِّن خطَأه؛ ليحذِّر من الاغترار به.
    - وفيه جواز توبيخ المخطئ وجواز تقريعه تقريعا يتوجَّع منه كلُّ ذي شعور، ويستحقه مثل هذا العامل الذي أراد أن يَخدع نفسه، ويخدع الناس، ويُفتيهم بحلِّ ما أخَذ من المُزَكِّين بدعوى أنه هَديَّة.

    إننا في أشد الحاجة لتلمس تلك الحنكة النبوية في تعاملها مع الأحداث، وأن نقدمها لشبابنا وبناتنا خاصة للتسع نظرتهم للحياة، ولتحسن إدارة ذواتهم في رحلة الحياة بما يضمن لهم الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، نريد أن نسترشد بهدي سيد المرسلين لنخرج من متعة اللحظة إلى آفاق المتعة الرحبة في الدنيا والآخرة، وندير حياتنا بشكل نموذجي نشكر فيه السراء ونصبر على الضراء، ونرضى بقضاء الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    -------------------------------------------------------------------------------
    لا نعني بالثقافة ( المعرفة ) ، وإنما نعني هنا ذلك الجوَّ المكوَّن من مجموعة العقائد والأفكار والمفاهيم والنظم والأخلاق والقِيَم والعادات والطُرُز السائدة في مجتمع محدد .
    أو بعبارة أخرى : أسلوب الحياة السائد في بيئة معينة والأسس الفكرية والنفسية والاجتماعية التي يقوم عليها ذلك الأسلوب .
    أما الجاذبية الثقافية ؛ فنعني بها قدرة الثقافة على توفير درجة جيدة من إرضاء أبنائها بالأوضاع والأحوال السائدة ، بالإضافة إلى لفت انتباه أبناء الثقافات الأخرى ودفعهم في اتجاه تقليد سلوكيات أبناء الثقافة الجاذبة .

    أثبتت الجاذبية الثقافية على مدار التاريخ الإسلامي أنها الوسيلة الأفضل لنشر الإسلام ومبادئه وقِيَمه ؛ فقد دخل في هذا الدين أعداد هائلة من البشر من غير أن يروا عسكرياً واحداً من جيوش المسلمين ، وقد تم انتقالهم إلى الإسلام ببطء ؛ حيث تمثّل الناس مبادئه بأناة ومن غير ردود أفعال تُذكَر من الثقافات الوطنية التي كانت سائدة آنذاك ، ولم يكن الأمر بتلك السلاسة وذلك النقاء في البلدان التي فُتحت عن طريق القتال .

    دعونا نتساءل الآن : ما السّمات الأساسية التي ينبغي أن تتوفر في أيّ ثقافة حتى تصبح جذابة ؟
    في مقاربة أولية نقول : ربما كان أهم تلك السمات الآتي :
    1 - التضحية : وهي تعني وجود شريحة واسعة في المجتمع ، تملك القدرة على التخلّي عن بعض ما تملك ، وتبذل شيئاً من جهدها ووقتها في سبيل تحقيق أمور خيِّرة لا تعود عليها بنفع مباشر .
    ويدل على هذه الشريحة ما تتمتع به الأمة أو المجتمع من مؤسسات ( لا ربحية ) ، تسدّ حاجات الناس ، وتستدرك على القصور الموجود في نظام العدالة الاجتماعية السائد . ولا شك أن الدول المتقدمة تُعد غنية جداً بهذه المؤسسات اليوم ؛ وهذا ما نلمحه في المجتمعات المسلمة أيام ازدهار الحضارة الإسلامية .

    2 - العدل : حيث يغلب على ظنّ الناس أنهم قادرون على الوصول إلى حقوقهم كاملة دون رشوة أو واسطة ، وبناء على قواعد واحدة تطبق على الجميع . وهذا يكون في أحسن حالاته حين يتوفر نظام قضائي حرّ ومستقل ، ويتولى إصدارَ الأحكام أشخاص نزيهون ، أو أشخاص يدفعون ثمناً غالياً في حالة إصدار أحكام جائرة ليس لها أي مخرج قانوني .

    3 - التعاون:والذي يعني وجود أرضية عقدية وأخلاقية تجعل تواصل الناس بعضهم مع بعض واسع الانتشار، فالمؤسسات الخيرية الكثيرة والمتنوعة تعني على نحو بَدَهي وجود أعداد كبيرة من الناس القادرين على التفاهم والتعاضد في سبيل إنجاز أشياء مشتركة لخير الجميع .

    4 - الأمانة : وهي تعني نمو جوانب خلقية واجتماعية جيدة إلى حدود ومستويات عالية . الأمانة التي أعنيها هنا هي التي عنتها ابنة شعيب حين قالت لأبيها عن موسى - عليه السلام - : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} ( القصص : 26 ) .
    الأمانة تعني الصدق والمصداقية والثقة وحفظ الأسرار والمحافظة على الحرمات ؛ وهذه الأخلاق ذات قيمة جوهرية في المنهجية الإسلامية وفي التربية الأخلاقية لدى المسلمين .

    5 - الجدّية : المقصود بالجدّية ، توفّر نُظم وتقاليد وأعراف وأوضاع ، ترفع عتبة النشاط أو ترفع سوية الاهتمام بالعمل والإنتاجية إلى مستويات عالية تحاكي ما هو متوفر لدى الأمم الصناعية الكبرى . الأمم الجادة تهتم بالتفاصيل ، وتفكر في التخلص من دقائق المشكلات ، وتحتاط في معظم شؤونها .

    6 - العملية : الثقافة التي توصف بأنها ثقافة عملية يقل الكلام لدى أبنائها على مقدار تكاثر الأساليب الفنية التي تنمّي من خلالها الجوانب المختلفة في حياتها العامة ، كما أنها تعالج بواسطتها المشكلات المعاصرة على نحو حاسم وفعّال .
    هذه السّمات هي موضع إجماع بين كل الأمم ؛ ولهذا فإن الثقافة التي تتوفر فيها هذه الصفات على نحو ظاهر وقوي ؛ تجذب إليها أبناء الأمم الأخرى الذين لا يجدون في ثقافاتهم مثيلات لها . وهذا الجذب الثقافي يزداد اليوم بسبب ما توفره وسائل البثّ والاتصال الحديثة من تواصل وتقارب عالمي على نحو لم يسبق له مثيل .

    الحديث عن الجاذبية الثقافية يدعونا إلى الحديث عن ( الافتتان الثقافي ) والذي يعني انبهار أبناء أمة من الأمم بما لدى أبناء أمة أخرى من قِيَم وأخلاق وأوضاع ثقافية . وإنها لفتنة شديدة أن تجد المبادئ التي يجب أن تتمسك بها ضامرة في مجتمعك ، مزدهرة لدى عدوّك أو منافسك !
    كل ما قلناه عن الجاذبية والفتنة الثقافية ، ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الأمم والشعوب ، وإن من واجبنا إذا ما أردنا تحصين الأجيال القادمة من التبعية الثقافية للآخرين أن نبذل كل ما في وسعنا من أجل إنعاش القِيَم التي أشرنا إليها وترسيخها في الحياة الإسلامية ، وإلا فإن هويتنا ستكون مهددة ، حتى إننا إذا لم نخف ذلك ؛ فإن التديُّن الحق يدعو إلى بذل ذلك الجهد تعبُّداً لله تعالى وتقرُّباً .
    ----------------------------------------------------------
    في تاريخ الأمم جدل قديم حول علاقة العقل بالعلم، وحول القدر المطلوب من كل منهما للإبداع والإنجاز المتفوق. وكثيرًا ما كانت ترجح كفة الذين يقدمون العقل على العلم، وربما كان ذلك بسبب الاعتقاد بإمكانية الحصول على العلم ويسر ذلك، على حين أن الموهبة والذكاء من الأمور التي لا يمكن اكتسابها. وعزز من مكانة المقدمين للعقل تعاظم نفوذ المنطق اليوناني في العديد من علوم الثقافة الإسلامية، والذي ينظر إليه على أنه إنجاز عقلي محض.

    وقد وصل الأمر إلى النظر إلى تفضيل العلم على العقل على أنه اتجاه سوقي لا يليق بمثقف رصين! وأعتقد أن ذلك الجدل سيظل قائمًا، وسيظل حسمه صعبًا ما دام الغموض والالتباس يلفان نظرتنا لطبيعة العقل وطبيعة عمله، وطبيعة علاقته بالخبرة والمعرفة. ومع أن كل هذا لم يتضح بالقدر الكافي الذي يتيح لنا الشعور بأننا نقف على أرض صلبة إلا أنه من الممكن أن نبلور بعض العلامات التي تساعدنا على السير في هذا الطريق الشائك.

    ولعل منها الآتي:
    ليس هناك خلاف معتبر في أن الإنجاز العالي والمتقدم جدًا يفتقر إلى كل من الذكاء والعلم. الخيال الخصب ينقلنا إلى خارج حدود الخبرة، أو يضعنا ـ على الأقل ـ على حافتها. والقدرة العالية على التحليل والتركيب تمكننا من القيام بعملية (خض) واسعة النطاق للمعرفة المتحصلة لدينا.
    وذلك الخض هو الذي يمكننا من تنظيم تلك المعرفة واستثمارها في الوصول إلى شيء جديد.

    الذكاء العالي والعقل المتوهج يصدران ومضات إبداعية فذة تمكننا من التعرف على بداية طريق لم يُسلك من قبل، لكن السير المظفر حتى بلوغ الغاية لا يمكن أن يكون من غير بحث وعلم بالدقائق والتفاصيل. وهذا هو الذي يفسر الوضعية العالمية السائدة اليوم، فمع أن البارئ ـ عز وجل ـ وزع الذكاء على الأمم والشعوب ـ وليس الأفراد ـ بالتساوي إلا أن الأمم التي استطاعت توليد المعرفة الثرة هي التي تبدع وتخترع اليوم.
    الذكاء من غير معرفة ملائمة قليل الجدوى. وعقل متوسط في إمكاناته مع معرفة جيدة وبيئة علمية مناسبة يمكن ـ من غير شك ـ صاحبه من التفوق والنجاح والتميز.

    إن الاعتزاز بالدور الذي يمكن للعقل أن يقوم به نابع في جزء منه من انتشار الأمية وضآلة المعارف المطلوبة للتقدم الحضاري، فحين يتقارب الناس في محصلاتهم العلمية فإن الذي يلفت النظر آنذاك هو الذكاء الفطري ولا سيما سرعة البديهة والخيال الخصيب؛ لكن الأمر يختلف على نحو كبير حين تتراكم المعارف والمعلومات وتنشط آليات صناعتها.
    والقاعدة العامة في هذا الشأن وفي كل شأن هي أنه كلما أوغل الناس في الحضارة صارت قيمة ما هو مكتسب أهم مما هو فطري، حتى المواد الخام والموارد الطبيعية المختلفة تتراجع قيمتها الفعلية لصالح التقنية والتصنيع والتدريب والإدارة.
    ومما يذكر في هذا السياق أن اليابان تستورد من بعض الدول العربية (طن) الألمنيوم بما يعادل (800) دولار ؛ وبعد تصنيعه وإدخال الخبرة المرموقة في إعادة تشكيله تبيع الطن الواحد بما قيمته (مئة ألف دولار)!!.
    وهكذا مع مرور الأيام ستتراجع قيمة الذكاء المحض ليصبح أحد عناصر التفوق والنجاح عوضًا عن كونه العنصر الأهم فيه!!
    ومن المهم جدًا لنا جميعًا أن ندرك طبيعة هذه التحولات، وننسجم معها، كما ندرك أن الاعتقاد الشعبي السائد بمطابقة الذكاء للإبداع زهّد الناس باكتساب العلوم والمعارف.
    وقد ورثنا تقاليد ثقافية سيئة، يقوم العديد منها على إعطاء دور مبالغ فيه للعقل في تصور المشكلات وإيجاد حلول لها من غير الشعور بأي حاجة لاستقراء الواقع والبحث في معطياته.

    وليس لدينا إلى هذه اللحظة ما يشير على نحو حاسم إلى أننا اعتمدنا المعرفة المنظمة والدقيقة مدخلاً ضروريًا للفهم والتقدم والثراء، فقطاع التعليم وقطاع البحث العلمي هما في نظر الكثيرين من القطاعات الخدمية التي تأخذ ولا تعطي.
    إن البلدان المتقدمة تنفق على البحث العلمي ما يزيد على 2% من ناتجها القومي الضخم، على حين أننا ننفق من النواتج القومية ما لا يزيد على 2 أو 3 بالألف مع ضآلة تلك النواتج! وليس السبب في هذه المفارقة أننا لا نملك القدرة على الإنفاق ـ كما ندعي دائمًا ـ وإنما يكمن السبب في أننا لا نملك الإرادة. ونحن لا نملك الإرادة لأننا لا نعرف قيمة توجيه المال إلى الحقول المعرفية.

    قد يكون من المفيد أن نعمق النظر إلى مجال عمل العقل وإلى المجال الذي تعد فيه مساندة المعرفة شيئًا جوهريًا.
    ومع أن المشهد لا يخلو من شيء من الغموض والتعقيد بسبب العلاقات المتدرجة بين المجالات المختلفة، فإنه يمكن القول على نحو مجمل: إن العقل يرتبك ارتباكًا عظيمًا حين يُطلب منه تحديد مبادئ كبرى أو غايات نهائية، فعلى مدار التاريخ اشتغلت عقول عملاقة على تحديد أسباب وجودنا على هذه الأرض، كما اشتغلت بالغاية النهائية للخلق، ولم تخرج من كل ذلك إلا بالمزيد من الأقوال المتضاربة والغارقة في الظن والوهم.

    بل إن العقل كثيرًا ما يُبدي العجز عن تحديد بعض مفردات الخير والشر، والنافع والضار، والآمن والخطر، والمهم وغير المهم والسبب في كل ذلك أن البارئ، جل وعلا، فطر العقل على العمل ضمن أطر ومحددات معينة. كما أنه ليس في الدماغ (خانة) تقدم له المعونة في تحديد الأشياء التي أشرت إليها.
    إن الوحي هو الذي يحدد كثيرًا من ذلك، وما هو في منطقة (العفو) أو الفراغ القانوني تحدده الثقافة والأعراف والتقاليد.
    وعقولنا ترتبك كثيرًا في التعامل مع (الكيف) أو ما نسميه (الصفات)، على حين أنها تنجز على نحو باهر في الأمور الكمية وكل ما يمكن التعامل معه عن طريق القيم الرقمية ، لا أريد أن أعطي انطباعًا بانعدام وجود قيمة حقيقية للتأمل والنظر المجرد، فهذا غير صحيح، حيث إن للتفكير التجريدي دوره الأساسي في اكتشاف جميع الحقائق والقوانين الرياضية، وله دور مهم في فهم الأحداث التاريخية والإيحاء بإمكانات واحتمالات جديدة، لكن ذلك يتم على أنه من الأمور الظنية، وغير المؤكدة.

    لكن العقل البشري لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة واثقة في (علم الاجتماع) دون أن تُجمع له المعلومات الملائمة حول أمور مثل وضعية التواصل الاجتماعي في بيئة ما، ومثل دور الثقافة الشعبية في استمرار المجتمع والعوامل الأكثر تأثيرًا في تطوره.
    كما أنه لا يستطيع أن يحرز أي تقدم في (علم الاقتصاد) دون البحث في مسائل مثل إنتاج السلع وتوزيعها ومثل الندرة والبطالة والتضخم، وهو في كل هذا يفتقر افتقارًا كليًا إلى المعلومات والإحصاءات الفنية والدقيقة.

    إني أعتقد أنه قد آن الأوان لتقرير مواد دراسية في المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية، تتيح لأبنائنا الطلاب المفاهيم التي تساعدهم على معرفة الدور الحقيقي للعقل في الاكتشاف إلى جانب إسهامات المعارف والتجارب في ذلك، بالإضافة إلى الأخطاء والأوهام التي تقع نتيجة إعمال العقل وتشغيله، والأخطاء التي تقع بسبب تشغيل العقل من غير زاد كاف من المعرفة والخبرة.

    إننا نقف على أعتاب عصر جديد يحتل فيه الفهم للسنن الربانية والفهم لطبائع الأشياء وانفتاح الذات على العلاقات ـ مكانة خطيرة وحاسمة، ويجب ألا نقف متفرجين إلى أن نجد أنفسنا في زاوية أكثر حرجًا وأشد ضيقًا.
    ----------------------------------------------------------------------------------------
    من جميل ما قرأت أخيراً كتاب (بسط حياتك) للمؤلف (فرنرتيكي كوستنمخر) ، وهو كتاب عجيب يصل إلى أعماق النفس بقوة، وملخص رسالته أن عليك أن تتخلص من الحياة المعقدة وتبدأ حياتك السهلة البسيطة بلا كلفة ولا مشقة وأقربها جيبك فتبدأ بتنظيفه من الأوراق الزائدة والفواتير التالفة، ثم تأتي إلى مكتبك فتقوم بعملية ترتيب وتنظيم من جديد فتتخلّص من الأجهزة المعدومة والصكوك القديمة والعقود المنتهية والملفات المحفوظة من عهد عادٍ وثمود.

    وتعود إلى بيتك فتتخلّص من الأثاث القديم المركون تحت الدرج وجنبات الأسياب وتعطيه الفقراء الذين يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء وتخفف من الأثاث الفخم الذي أشغلت به نفسك وأهلك وضيوفك وتضع كل شيء في محلّه وتخفف من التحف والصور والبراويز والمزهريات والهدايا والخرائط وشجر الأنساب الذي يلحقك بحمير ومضر الحمراء ومعد بن عدنان.

    ثم تعود إلى معدتك فتحاول أن تحجمّها ما استطعت ولا تهدد بها عباد الله عند السلام والعناق والضم والاحتضان بقلّة الأكل وترتيب الوجبات وتناول الفواكه والخضروات، ثم تمر على طريقك بجسمك المرهّل فتشدّه بالرياضة والمشي؛ لتعيش الحياة في أبهى صورها.
    ثم تنظّم علاقاتك الاجتماعية فلا تفتح ديوان الصداقة على مصراعيه وكلما لقيت شخصاً ولو كان ثقيلاً بارداً سامجاً مهبولاً مخبولاً اتخذته صديقاً وطلبت التواصل به لتضيف لحياتك هماً إلى هم وغماً إلى غم؛ فمن أكثر من الأصدقاء فقد أكثر من الغرماء، ثم تنتهي من الفوضى الاجتماعية التي نعيشها نحن العرب .

    إن فكرة كتاب (بسط حياتك) هي حلٌ لمشكلاتنا الاجتماعية ويا له من كاتب بسّط لك الحياة وعرض لك الفكرة في أعذب أسلوب وأجمل طريقة وكنت قبل مدة كتبتُ كتاب (خارطة الطريق) وجئتُ ببعض هذه الأفكار وظننت أنني اكتشفت النظرية النسبيّة وإذا بالرجل يأتي بهذه الأفكار ويضرب الأمثلة ويذكر الشخصيات اللامعة المرموقة في التاريخ التي عاشت الحياة ببساطة.

    وأقول لك: كلما ترفّه الجسم تعقّدت الروح، حتى إن الكاتب يدخل معك في دولاب ملابسك ويقول: ما الداعي لتجميع عشرات البدلات والفنايل والقبّعات والأحذية؟ ولماذا تجمع لباس الصيف والشتاء والخريف والربيع مرةً واحدة وصاحب الثوب أسعد بالحياة من صاحب الثوبين؟ ونحن نظن أننا إذا أكثرنا من الملابس والكنبات والأحذية والغتر والتحف أننا سوف نسعد أنفسنا ونبهج خواطرنا، والصحيح أننا نعقّد حياتنا وندخل الهم والغم على أرواحنا وقد اكتشف الصديق العزيز أبو الطيب المتنبي هذه النظرية فقال:
    ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما قاته وفضول العيش أشغالُ
    والشاهد: (وفضول العيش أشغالُ) فكل زائد على حاجتك همٌ وغمٌ ونكد.

    وقبل عشر سنوات رأيت الرئيس الأمريكي السابق بوش الأب العجوز المحنّك وقد سافر إلى جزيرة بشرق آسيا ومعه حقيبة ملابسه يحملها على كتفه يقول المعلّق: هذا كل ما لديه في هذا السفر، وهذا دليل على أن هذا الداهية الدهياء الذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية قد اكتشف الحياة وعرف كيف يعيش.
    لكن المصيبة عند الذين لم يكتشفوا الحياة المادية والمدنية والرقي الحضاري الدنيوي ثم دخلوا في هذا العالم فجأة فصاروا كما قال أحد الفلاسفة: (عنـز بدو طاحت في مريس) مشكلتنا أننا دخلنا في التمدّن فجأة ودخلنا في التحضر بغتة كالجائع المهبول الذي أشرف على الموت ثم أُدخل على مأدبة فيها كل ما لذّ وطاب فأخذ يأكل باليمين والشمال.

    نحن بحاجة ماسة إلى ترميم حياتنا من جديد كما اكتشف صاحب كتاب (بسّط حياتك) وقد قرأتُ بشغف وهزّني بأفكاره الرائعة وإقناعه الباهر وأسلوبه المحبب للنفس حتى أنه يقترح دورات تدريبيّة لتبسيط الحياة وليت عندنا مادة تُدرّس بعنوان (الحياة البسيطة) ولقد عدتُ إلى مكتبتي فوجدتُ أن أوراقاً كثيرة وملفات وخطابات شكر قديمة لا داعي لبقائها فقد أصبحت بلا قيمة وإنما تأخذ حيّزاً في المكان والذاكرة والنفس ومثل ذلك قل: عن دولاب الملابس والمكتب والمجلس.

    وأشرف وأكرم ولد آدم هو رسولنا صلى الله عليه وسلم كان بسيطاً في حياته وبيته وكلامه ولباسه حتى نهانا عن التكلف والتعمق والتشدّق وقال له ربه: (ونيسرك لليسرى)، وقال هو: "يسروا ولا تعسروا"، "وإن الدين يسر".

    ولهذا انظر كيف اكتشف أساطين الغرب الحياة البسيطة وكنتُ قبل فترة أتعالج في باريس وبينما نتناول طعام الغداء في أحد المطاعم وإذا بصاحبي المترجم المصري يشير إلى رجل جالس قريباً منا على طاولة أخرى وإذا هو الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يتناول الغداء مع صاحبه بلا مرافقين ولا خدم ولا حشم ولا حراسة بل ببساطة وهدوء مع العلم أنه كان يحكم دولةً كبرى نووية تعطّل متى شاءت قرار مجلس الأمن وكانت تحكم ثلث الكرة الأرضيّة.

    بينما تجد عندنا من تعقيد الحياة والتكلّف في المعيشة وفي الطرق الاجتماعية ما يفوق الوصف لأننا لم ندخل في الحضارة المادية الدنيويّة كما دخلوا، والحضارة ترقق الطباع وتهدئ النفوس وتلطّف المشاعر ولهذا انظر لكثير من الفقراء عندنا إذا ملك أحدهم مالاً فجأة بنى عمارة من خمسة طوابق وليس معه إلا امرأته العجوز لكن منها أنه يشخص بالعمارة ويغيظ الحسّاد ويرضي الأنساب ويدحر العدو ويرفع رؤوس القبيلة إلى آخر تلك المعتقدات.

    فيا إخوتي الكرام تعالوا لحياةٍ بسيطة سهلة ميسّرة فالعمر قصير والزمن يطوينا طياً والوقت ليس بأيدينا والمال ليس معنا دائماً والظروف قد تكون ضدنا ونحن في رحلة استجمام في هذه الحياة وقريباً سوف نغادر فقد حُجزت المقاعد وأُعلن موعد الإقلاع واقترب الوعد الحق ويكفيك ما تراه في آبائك وأجدادك من كثرة توديع الأحياء، فهيا نخفف على أنفسنا من التعقيد والتشديد والتكلّف والتشخيص ويسروا ولا تعسروا والله معكم.
    __________
    لاحظ مالك بن نبي – رحمه الله- أن المجتمعات الإسلامية تعاني من (فرط تسييس)، حيث إن هناك ميلاً عارماً إلى مطالبة الدول بأن تقوم بكل شيء على حين يظل معظم الناس غافلين عاطلين.

    وملاحظته – في ظني- في مكانها حيث إن كثيراً من الإصلاحيين على اختلاف مشاربهم يركزون باستمرار على ما على الحكومات أن تقوم به من إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها، على حين أن كثيراً منهم لم يستطيعوا المساهمة العملية في نهضة الأمة؛ وكأن اعتقادنا بأن كلام المرء جزء من عمله، جعلنا نظن أننا بالخطب الرنانة والمقالات البليغة والكتب ذوات المئين من الصفحات نستطيع أن نحل مشكلاتنا المستطيلة في الزمان والمستعرضة في المكان!.

    في البداية أحب أن أؤكد أن من المهم أن يشتغل بعض الناس في العمل السياسي من خلال نشر الوعي بطبيعة هذا المجال ومن خلال ممارسة النقد ودخول الانتخابات وتشكيل الأحزاب؛ إنني لست ضد هذا، ولا أهوّن أبداً من شأنه، ولكن الشيء الذي لا أرى أنه صواب هو الظن بأنه حين تقوم دولة حسب المواصفات المطلوبة سوف نتخلص من كثير الأزمات والمشكلات الموجودة ، إن هذا أحد أكثر الأوهام انتشاراً.

    وكثير من الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة علقت كل توازنها على الحكومة العظيمة التي ستشكلها في المستقبل حين تصل إلى الحكم. وبما أن المجال السياسي، لا يتسع لكل الناس، ولا يستطيع كثيرون العمل فيه، فإن أعداداً كبيرة من شبابها عاطلون عن أي عمل دعوي أو اجتماعي نافع!.

    وجود الدولة في الأصل شيء مكروه من النفوس؛ لأنها تمثل سلطة وقوة، وهي - على المستوى الوظيفي – أميل إلى أن تكون كابحة وضابطة أكثر من أن تكون بانية أو مُصْلحة. وإذا استطاعت الدولة حماية النظم السارية وتطبيقها دون تحيز إلى جانب دعم استقلالية القضاء وتسهيل حركة الفرد مع حد مقبول من المرافق العامة؛ فإنها تكون قد قامت بأشياء عظيمة جداً. ومعظم دول العالم ما زالت تخفق في تحقيق ذلك.

    العمل الأساسي الذي يُنْتَظر من الجميع المساهمة فيه هو العمل الاجتماعي - بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة –. في العالم اليوم قطاع يسمونه (القطاع الثالث) أو (القطاع اللاربحي) إنه شيء غير القطاع العام الذي تكون مؤسساته ملكاً للدولة وغير القطاع الخاص المملوك للأفراد، إنه القطاع الذي تملكه الأمة.
    مهام هذا القطاع أوسع بكثير مما نتصوره وإن الأمم من خلاله تستدرك على قصور النظم المختلفة، إنه يشكّل كرة أخرى على طريق العدالة الاجتماعية وإيصال الحقوق لأصحابها.

    إن أنشطته تغطي حاجات أولئك الناس الذين لا يقع الاهتمام بهم تحت مسؤولية أي وزارة أو مؤسسة حكومية، وإنه يهتم بالقضايا التي لا تهتم بها أي جهة حكومية. وأستطيع أن أقول دون أن أشعر بالحرج: إن اتساع هذا القطاع يدل على نحوٍ قاطع على خيرية المجتمع وتضامنه وفاعليته واستحقاقه باسم (مجتمع). وعلى مقدار ضيق هذا القطاع وضعفه يكون ضعف المجتمع وتفككه وخموله. وقد لا يستحق لاسم (مجتمع) ويكون جديراً باسم (تجمع)!

    إن ما ينشر من إحصاءات عن هذا القطاع يدل دلالة واضحة على أن العالم الصناعي يتمتع بمجتمعات غنية بالمؤسسات والأنشطة اللاربحية. وقد استطاع هذا القطاع أن يجمع من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية عام (2002) مبلغاً قدره (212) مليار دولار. وهو رقم فلكي لا يمكن جمع نصفه أو ثلثه في أي دولة من العالم.

    في أمريكا مليون ونصف مؤسسة لاربحية وثلاثة وعشرون ألف مؤسسة وقفية. وفي فرنسا ستمئة ألف مؤسسة لاربحية. وفي (إسرائيل) ثلاثون ألف مؤسسة لا ربحية ويستوعب القطاع اللاربحي 11% من القوة العاملة هناك في العالم الغربي لكل ثلاثمائة شخص تقريباً مؤسسة لاربحية من نوع ما
    وعندنا في العالم العربي لا يحصل الـ (5000) شخص على أكثر من مؤسسة، أي إن الفارق يتمثل في خمسة عشر ضعفاً. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار إلى جانب هذا أن الذين يحتاجون إلى العون في مجتمعاتنا أكثر بكثير من المحتاجين في مجتمعاتهم.

    إن هناك أشياء مشتركة بين الأمم، وهناك أيضاً خصوصيات لكل أمة. إن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى الكثير الكثير من المؤسسات اللاربحية وسأذكر منها هنا نماذج فقط:
    - مؤسسات ومشروعات لدعم الالتزام والمحافظة على الأخلاق والوقوف في وجه التحلل الخلقي عن طريق الاتصال المباشر والحوار مع الناس ووضع لوحات في الطرق وإعلانات في الصحف. بل إن القطاع اللاربحي يحتاج في الحقيقية إلى فضائية وإذاعات خاصة حتى نؤصل حب العمل الخيري في نفوس الناس. أضف إلى هذا تأسيس جمعيات لمحاربة العادات السيئة مثل الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات ومثل عادات الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وإرشاد الناس إلى بعض الطرق الاقتصادية في كل ذلك، كما هو الشأن في كثير من الدول.

    - مؤسسات للاهتمام بالأسرة وتوجيهها في مسائل التربية ومساعدتها على حل المشكلات التي تواجهها وتوفير مرشدين تربويين ومرشدات تربويات لإصلاح العلاقات الأسرية وتنمية وعي الناس بأهمية التضامن الأسري، وتوضيح مسؤولية كل طرف في ذلك، ونشر عدد كبير من الكتيبات والنشرات التي تعلم الناس أصول التربية الجيدة، كما توضح لهم الأخطاء التربوية التي يقعون فيها.

    - مؤسسات وجمعيات وروابط لدعم العلم والتعليم، حيث إن الدول ما عادت تستطيع توفير ما يكفي من المدارس والتجهيزات المدرسية لهذه الأعداد المتدفقة من الأطفال والفتيان. والتعليم الخاص الحالي هو أقل في كثير من الأحيان من المستوى المطلوب، وهو إلى جانب ذلك ينشر الطبقية الاجتماعية والمعرفية، فأبناء الأغنياء يجدون مدارس ممتازة لأنهم قادرون على الدفع، وأبناء الفقراء لا يجدون في بعض الأحيان حتى المدارس السيئة. وبعض الدول الإسلامية – مثل باكستان- لم تستطع إلى الآن إصدار تشريعات لجعل التعليم الابتدائي إلزامياً بسبب عدم قدرة الدولة على توفير المدارس الكافية. وهناك دول لا تستطيع توفير الكتب المدرسية لأبنائها – كما هو الشأن في بلاد عديدة مثل إندونيسيا – وهكذا..
    قد آن الأوان ليقوم الناس بدعم التعليم الحكومي والمساهمة في توجيه أنشطته وممارسة نوع من الرقابة عليه بما يخدم التقدم العلمي في البلد. كما آن الأوان لتأسيس عدد كبير من المدارس الخيرية التي يجد فيها أبناء الفقراء فرصاً للتعلم. وفي بعض الدول – مثل تركيا- أنشئت مجالس كثيرة جداً لدعم التعليم الجامعي وتوفير منح للطلاب الفقراء، حيث إن الجامعات الحكومية لا تستوعب سوى 10% من المحتاجين للتعليم الجامعي.

    إن من المهم أن تنظم حملات واسعة من أجل قيام الأثرياء بتأسيس شبكات من المدارس والمعاهد العلمية والتقنية لأبناء الفقراء والمعدمين والإنفاق عليها عوضاً عن تبذير المال في السياحة في الغرب أو إنفاقه على مظاهر كاذبة لا تزيد صاحبها إلا خبالاً وسأماً!.

    - في الأمة اليوم مظالم كثيرة، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس من ذكر مظلمة من المظالم! وقد صارت مهمة المحامين في كثير من الدول الإسلامية- مع الأسف الشديد- طمس الحقيقة وإضاعة الحقوق والعمل على تأجيل المحاكمات إلى ما لا نهاية وتسربت الرشوة إلى سلك القضاء مع استثناءات مقدرة!

    إن هذه الوضعية تستلزم قيام مؤسسات وروابط ومنظمات لنصرة الضعيف ورفع الظلم عن المظلوم ومؤازرة المضطهد وفضح أشكال الحيف. وقد أثنى – صلى الله عليه وسلم- على حلف الفضول الذي أقامته قريش في الجاهلية، وحضره – عليه الصلاة والسلام- وقـال: " ولو دعيت إلى مثله لأجبت". وقال أيضاً في حديث صحيح: " إنه لا قُدَّست أمة لا يأخذ الضعيف حقه فيها غير متعتع".
    إن التعليم والقضاء يشكلان محورين أساسين في حياة أي أمة وإن في فسادهما فساد الحياة كلها، فعلينا أن نصلح من شأنهما قدر الاستطاعة ولن يكون ذلك إلا من خلال توفير رقابة شعبية واسعة، ولن تكون تلك الرقابة فعالة إذا لم تنظم وتؤطر على نحو جيد.

    - الأمية في العالم الإسلامي ضاربة أطنابها، ومازال المعدل الوسطي لها يدور في فلك الـ(40%) وهذا شيء مخيف في زماننا فقد احتفلت اليابان بتعليم آخر أمي في أواخر القرن التاسع عشر. ولدينا أناس يعرفون القراءة والكتابة لكنهم لا يقرؤون. وكما قال أحدهم: ما الفرق بين الأمي وبين من يحسن القراءة والكتابة لكنه لا يقرأ؟! إن حالة القراءة وطلب العلم والحرص على معرفة الجديد في حالة من التردي المستمر في عالمنا الإسلامي.
    والكتاب يفقد في كل يوم جزءاً من أرضه لصالح ما يمكن أن نسميه (اللهو المطلي بالمعرفة) وهذا يلقي علينا مسؤولية هائلة.
    إني أفترض أن يكون لدينا في كل حي من الأحياء مكتبة عامة يضعها أحد الأثرياء في زاوية من داره ليرتادها أهل الحي وتكون مكاناً لالتقائهم ومناقشة أمور حيهم. وأتعشم أن يكون هناك برامج لدعم الكتاب الجيد وأن يكون هناك من حانات للقراءة ومكتبات متنقلة لنشر العلم وإعارة الكتاب. وقد سبقتنا دول كثيرة إلى هذا، ولم يعد لدينا وقت لإضاعته. إن من غير شغف حقيقي بالعلم واتخاذه أساساً للتطوير لن نستطيع أن نتجاوز الأوضاع الصعبة التي نعيش فيها.

    - العولمة تشجع الحكومات على أن تنفض يديها من كل الخدمات المجانية والرخيصة التي تقدمها، ومنها (العلاج الصحي). والخدمات الصحية الحكومية في كثير من بلدان العالم الإسلامي في حالة من التدهور حيث يلجأ الناس إلى الطب الخاص، وهناك تجد أشكالاً من التحايل والابتزاز مما يوجب قيام مؤسسات طبية لا ربحية يعمل فيها الأخيار من الأطباء وتتقاضى أجوراً تكفي فقط لتشغيلها.
    وقد قامت تجارب رائدة في بعض البلدان الإسلامية في هذا المجال، إنها تقدم أفضل علاج، لكن بسعر لا يزيد على 30% مما لدى غيرها. إني أتصور أن يكون هناك جمعيات للعناية بأصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية وجمعيات لتوفير الدواء لمن لا يجد ثمنه وجمعيات لدعم المستشفيات الحكومية بالأجهزة وهكذا.

    إن العمل الخيري التطوعي يستهدف أولاً الارتقاء بنفوس فئة كبيرة من المجتمع وربطهم بالله – تعالى- وهذه الفئة هي العاملون والمحتسبون في المجال اللاربحي. ويستهدف ثانياً سد حاجات العناصر الضعيفة في المجتمع، وهي في عالمنا الإسلامي كثيرة جداً بل تشكل النسبة الأكبر من الناس. وسنظل نعيش على هامش العالم ما لم نبدع في إيجاد الحلول للمشكلات التي جاءت بها الحضارة المعاصرة ، والله ولي التوفيق.
    --------------------------------------------------------
    كل العلوم، والثقافات، والفلسفات، تهدف إلى أمر واحد، سعادة الإنسان، ذلك أن الإنسان هو محور تحركها، وانبعاثها، وتوجهاتها، وإذا أخطأت تلك العلوم والفلسفات في تحقيق سعادة الإنسان، حُكِم عليها بالفشل، والإسلام دين إنساني بامتياز، فهو جاء من عند الله لتحقيق سعادة الإنسان، ونجاحه، عبر ضبط الإنسان والمجتمع بشروط وقيم، من شانها أن تؤدي بالنهاية إلى السعادة البشرية، في الدنيا، والآخرة .

    التشريع ... يعني السعادة .
    وشأن هذه الضوابط في الإسلام، كشأن الإشارات الطرقية، فالسائقون ينصاعون لأضوائها ودلالاتها، لأنها تؤمن لهم، ولغيرهم، الحماية المطلوبة، وتوصلهم إلى هدفهم، يقول الله تعالى مخاطبا آدم وذريته { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . فهدى الله تعالى لمصلحة الناس لأنه يوصلهم إلى سعادتهم، وأمنهم الجسدي، والنفسي، في الدنيا والآخرة .
    ومن متابعة علم المقاصد، نرى أن " المقاصد الخمس " هي في الحقيقة إطار عام لتحقيق سعادة الإنسان الكاملة، حيث شملت هذه المقاصد بدرجاتها الثلاث " الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات"، جميع امتدادات الإنسان وتفرعاته، الشخصية، والاجتماعية، الروحية، والمادية .

    وتتضافر أدلة القرآن والسنة على تحقيق مقصد السعادة، حيث تنتظم آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، لتؤكد على قضية تنظيم حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، ضمن نسق معين يؤدي بالضرورة إلى سعادته، وسعادة مجتمعه، فأعلن القرآن أهدافه الاجتماعية قائلا: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} وهذه القواعد التي نادى بها القرآن تمثل الأسس المطلوبة لإرساء دعائم السعادة الاجتماعية، وتحقيق مطلب التواصل الإنساني السليم
    .ومثلت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام الداعية إلى مكارم الأخلاق وسيلة لإرساء دعائم السعادة فقال عليه الصلاة والسلام: [إيَّاكُم والظَّنَّ ، فإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحديثِ ، ولا تحسَّسوا ، ولا تجسَّسوا ، ولا تَناجَشوا ولا تحاسَدوا ولا تباغَضوا ، ولا تدابَروا ، وَكونوا عِبادَ اللَّهِ إخوانًا] (البخاري)
    وهذه الدعوات تمثل في صميمها أداوت لجعل السعادة " ثقافة " منتشرة في المجتمع .

    الفقه قائم على مبدأ جلب المصالح ودفع المضار ،والجانب الفقهي "القانوني " في الإسلام يقوم على مبدأ حفظ المصالح ودفع المضار، وتأصلت قواعد فقهية تقوم على هذا المبدأ العام في كل أمور الشريعة، وكان منع الضرر من الوقوع أهم في نظر الإسلام وذلك لما يستتبعه من أذى نفسي ومادي على الإنسان والمجتمع فكانت قاعدة " دفع الضرر مقدم على جلب المنافع "
    وجزئيات الفقه الإسلامي تشكل خلفية متكاملة لبقاء الإنسان والمجتمع قدر الإمكان في دائرة السعاة والبعد عن المشقة فكانت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام: [يسروا ولا تعسروا] ( البخاري) واستنبطت قواعد تؤصل هذا المبدأ "المشقة تجلب التيسير" "وإذا ضاق الأمر اتسع " إلى غيرها ...
    إن الفقه الإسلامي يقوم في نظرته وفي هدفه على تيسير حياة الإنسان ضمن إطار العدل وعدم الإضرار بالآخرين مما يعني تحقيق السعادة للفرد الكائن ضمن المجتمع وللمجتمع الذي هو نتيجة لاجتماع الأفراد .

    السعادة للجميع :
    ودعا النبي عليه الصلاة والسلام إلى تفعيل التكافل الاجتماعي المادي والمعنوي كأداة لجعل السعادة سلعة متاحة للجميع كي لا يحدث انحصار السعادة في جزء من أجزاء الاجتماعي نوعا من الحسد والتباغض في المجتمع الإسلامي ، والله يقول: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم }
    فالإسلام لم يأت حرباً على فطرة، أو غريزة، أو جانب من جوانب النفس البشرية، إنما جاء لينظم هذه الأمور ضمن إطار عادل ومحكم، بما يحقق سعادة كل فرد، والمجتمع الذي يعيش فيه، دون طغيان لأحد الجوانب على الآخر .

    ونستنبط من ذلك أن الإسلام لا يدعو إلى "الفردانية " كما شان الثقافة الغربية ..ولا يدعو إلى ذوبان الفرد ضمن الجماعة كما هو شان ثقافة الشيوعية ..بل كان متوازناً في نظرته والغرض من ذلك أن يبقى الفرد منتمياً إلى مجتمعه وفي نفس الوقت يشعر بخصوصيته في الحياة، وهذا يجعل من هدف السعاة أمر قابلا للتطبيق والواقعية، ذلك أن حصر السعادة بالفردانية ينفي أي صلة للفرد بمجتمعه المناط به تحقيق حاجته للاجتماع، وحصر السعادة بالمجتمع ينفي صلة الفرد بحياته الشخصية المناط بها تحقيق حاجته للاستقلال.

    والإنسان كائن مادي وروحي مما يعني متطلبات لكلا الجزأين فشرع الإسلام للإنسان قضاء غرائزه مدخلاً إياها في نطاق العبادات إن كانت مدفوعة بحسن نية فقال عليه الصلاة والسلام: [ وفي بضع أحدكم صدقة ] (مسلم ).
    وجعل ملاعبة الرجل لأهله جزءً من اللهو المطلوب فقال عليه الصلاة والسلام: [كل شيء ليس من ذكر الله لهو و لعب ، إلا أن يكون أربعة : ملاعبة الرجل امرأته ، و تأديب الرجل فرسه ، و مشي الرجل بين الغرضين ، و تعليم الرجل السباحة] (صحيح الجامع / الألباني)
    وكانت العبادة جزءً من سعادة النبي عليه الصلاة والسلام: [ وجعلت قرة عيني في الصلاة ] ( البيهقي)
    إن الإنسان يسعى لأمنه وسعادته وهو واجد هذا السعاة في طيات تعاليم الإسلام الذي رفع من مكانة الإنسان وكرمه قال ربنا :{ولقد كرمنا بني آدم } ..

    وفي دعوتنا إلى الإسلام لا بد من تبيان هذه الأهداف وتصحيح نظرة العالم إلى الإسلام، عبر تمثل هذه القيم في حياتنا سلوكا واقعيا، ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة .
    إسلام ويب.....








                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de