زيارة إلى نهاية العالم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 05:44 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-26-2019, 02:58 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
زيارة إلى نهاية العالم

    01:58 AM December, 25 2019

    سودانيز اون لاين
    عبد الحميد البرنس-
    مكتبتى
    رابط مختصر




    ألحتْ أمّي وشقيقتي الصغرى سها، ولم تكن يوم غادرتهم في ذلك الصباح الباهت البعيد، قد تجاوزتْ الرابعة بعد من عمرها؛ على أن ترافقاني، "خطوة بخطوة"، إلى حيث رغبتُ أبداً أن أكون وحدي، قبالة ذلك "الفناء"!

    كان لا بد، على أي حال، من وجود أحد منهم، إلى جانبي، كي يدلني، في ذلك الصباح الذي أعقب يوم عودتي مباشرة، على قبر يعقوبَ، أبي.

    كان سائق عربة الأجرة الشاب منصرفاً، في الأثناء، عن حديثهما، إلى الطُرق المتربة الشاحبة، التي طالما بدت على ألقٍ حان في أحلامي المتكررة بلا نهاية تلك بالعودة. «لم يتسبب لي طوال حياته في أذى». «كان وجه أبيك ذاك وهو ميت يسقط دائما ناحية اليمين». «المقابر نفسها تغيرت، يا ولدي». «أما المقابر الجديدة، يوسفَ أخي، فهناك. عند الكرو». «صحيح. أين أنت مما حدث، يا ولدي. قد لا تصدق. لكن الكرو البعيدة تلك صارت الآن في قلب المدينة». وددتُ عندما غرقت البرهة في الصمت لو أنني حكيت لهما كيف وقع عليَّ نبأ رحيل أبي في كندا، لولا أن من شأن ذلك الحديث أن يُجدد أسى الخلاف، الذي ظلّ محتدماً، بيني وبينهم، بشأن تسمّية أكبر أبنائي، باسم يعقوبَ، أبي.

    اكتأبتْ زوجتي، عند بداية ذلك الأسبوع الذي سبق الولادة، ولم يمضِ على موت أبي وقتها سوى أسابيع، قائلة: «إطلاق اسم ميت على مولود بمثابة إطلاق رصاصة عن قرب شديد على رأس دون خوذة». هكذا، لم تكن البلاغة تنقص زوجتي، خلال محاجَّتٍها لي. «هراء، يوسفَ ولدي. لكل أجل كتاب. أنت نفسك، يوسفَ، لم تمت، وقد تمت تسميتك على جدّك، يوسف، بعد موته مباشرة». «من حقها (يا أمّي) أن تناديه بما يحلو لها. لا أحد يتبقى صحبةَ طفل في الأخير أكثر من أمّه». «سبحان الحيّ الدائم الذي لا يموت»، تناهى صـوت أمّي، بينما نقترب كثيراً من المقبــرة المقـامة، دون أسوار، على هضبة ترابية هائلة. قالت: «أستطيع تحديد قبر زوجي، إذا ما أوقفتنا، يا ولدي، على ذلك الجانب، حيث يوجد مسجد صغير أبيض». «هناك مسجدان، يا خالة»، عقّب السائق. أرختْ فكها. ثم تساءلت «كيف لم أفطن من قبل إلى وجود مسجد آخر هناك». قالت سها «كما لو أنهما توأمان، اللون الأبيض نفسه والمعمار، يا أمّي».

    كان علينا، إذاً، أن نطأ، في جيشان تلك المشاعر، على قبور كثيرة، كيما نلتقي، بقبره هناك، عند المنتصف. وقد بدا واضحاً أن الممرات القديمة المتعرجة بين القبور لم تعد موجودة هناك. قبل نحو ثلاثين سنة، رفعت أمّي يدها، عن تراب قبر جدّتي ممتعضة، من مشية شابة، كانت تسير، على تلك الممرات، كعارضة أزياء. «المستهترة (قالت أمّي) تظنّ أنّها بمنأى عن اليد القريبة للموت». كانت سها تتابعنا، بتلك الحيرة، بينما نتبادل الحديث، في مكان ما من المقبرة، التي لم تعد برأي أمّي «مفهومة هذه الأيام»، باحثين بأنظارنا ناحية الغرب، عن موضع قبر جدتي لأمّي ذاك، دونما جدوى. قالت أمّي «أتذكر، يوسفَ، زياراتنا تلك إلى قبرها؟»، هززتُ رأسي أن «نعم». واصلنا السير ثلاثتنا، إلى خارج المقبرة، في صمت مطبق رأيتُ خلاله وجه أبي، وهو يطل من ذاكرتي، كتحية طيبة على الطريق. كانت جلستْ قبلها عند صدر قبر أبي، متكئة بظهرها، على قبر ترابي مجاور لا ملامح له، قائلة «السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. هذه أنا. أم عيالك. المسكينة. وهذه بنتك سها. ثم هذا (وقد اختنق صوتها) ولدنا، يوسف يعقوب يوسف، وقد جاء لزيارتك، من كندا». ثم... وهي تنحني، بصدرها نحوه، ماسحة براحتها على تراب القبر، سألته:

    «كيف حالك اليوم، يا رفيقي».

    ستعاتبني أمّي، إذا ما قلت لها إنني لم أجد الوقت اللازم في كندا لإقامة عزاء يليق بيعقوب أبي. أما المهندسة سها، فستنظر إليَّ نظرتها إلى رقم في معادلة حسابية، لا دمع يختزنه ولا ضحك بالتأكيد قد يضج به، إذا ما أخبرتها أنه لم يكن لدي كذلك حتى الوقت اللازم لأحزن عليه. ولم تنس أمّي طريقتها الدرامية المعتادة تلك، والتي لم يغيرها على ما بدا الزمن، عندما أخذت تخبره، كما لو أنه بالفعل يسمعها ويشاهدها، عن قصة عودتي. لم تسقط لدهشتي حتى حكاية سرقة نقودي في مطار ماليزيا. وكانت حرصتْ، في أثناء الطريق، على تلقيني وسها «قولاً مأثوراً»، مؤكدة أن المرء إذا ما ردده، بذلك الصدق، فستُنكشف الحُجب عن الميت ويرى، كما لو أنه ُيطالع زائرَه، «عبر شاشة تلفاز، ياباني». ثم باعدت داخل ذلك الحيّز الضيق لعربة الأجرة ما بين يديها لتريني أنا بالذات الحجمَ الذي يمكن أن تكون عليه تلك الشاشة.

    بعد صلاة العشاء، أخلدتْ أمّي، بجرمها الصغير، إلى النوم، في حجرة داخلية. كنت لاحظتُ فور وصولي أن ظهرها احدودب وكيانها كله أخذ ينطق بالإعياء. شقيقتاي الأخريان، انصرفتا، تباعاً، إلى المطبخ، وبينما الليل يعبر منتصفه، قالت سها «حدث ذلك يوسفَ أخي داخل هذا الصالون». فكرتُ: حين كان أبي يناجيني من هنا، كنت هناك، وحين أخذت أناجيه من هنا، غدا هناك. «طلب مني أن أقوم بتدليك ساقيه». «قال إنه لا يكاد يشعر بهما». «من هزالهما، يوسفَ أخي، بدا كما لو «أنني أراهما للمرة الأولى». «لم يعد أبي على ما تركته أنت عليه». «أغمض عينيه. خلته استغرق في النوم. سحبت نفسي بهدوء». «عند هذا الباب، وجدتني ألتفتُ كما لو أن منادياً من السماء يدعوني. جمَّدني لوهلة ما رأيت. كان يحاول النهوض، بنصفه الأعلى، بينما يتابعني، بعينين أخافني أساهما. وجدتني أواصل سيري مبتعدة. قلت «أستوضحه في الصباح». لكنه (فجراً) فارق الحياة. «لماذا نهض أبي وأخذ يتبعني بنظراته تلك، يوسفَ أخي؟».

    خلال شتاء كندا القارس، يتأخر الشروق، في بعض الأيام، ولا يعلن الضياء، عن حضوره، إلا في نحو التاسعة تقريباً. وكان ذلك أول صباح مظلم أعقب وصول نبأ رحيل أبي يعقوب. ودعتُ زوجتي بابتسامة. كان الحمل جعل تنفسها عسيراً. كما لو أنّها تصعد جبلاً مع كل حركة تقوم بها. وكان عليَّ أن أبقيها حسب وصايا الطبيب خارج دائرة التوتر ما أمكن. أتذكر كل ذلك الآن بوضوح تامّ. ما إن أوصدت الباب، حتى سالتْ دموعي، ومشتْ حارة متدفقة، عبر الممشى الممتد بين شقق الدور الثاني، بينما أخذ يترسخ لدي أن إنساناً بدا حضوره في نفسي ربما منذ ولادتي كحضور الثوابت الطبيعيّة في الكون لم يعد له الآن من وجود. ثم لمدى ثلاثة أيام تالية، بينما أهبط في تلك الساعة المبكرة نفسها، كنت بالكاد أرى عبر غلالة الدموع ذلك الرجل، وهو يجلس القرفصاء، أسفل صناديق البريد القابعة، ما بين بابي مدخل البناية الزجاجيين. لكأنه عابر سبيل يستدفأ. كان يحييني من داخل أسماله الخفيفة، التي لا تناسب برد يناير ذاك، بابتسامة ظللت معرضاً عنها، بينما أتجاوزه شغوفاً كل مرة بمواصلة بكائي، في أثناء تلك الطريق المظلمة والزلقة إلى العمل. بعد سنوات، خطر لي أن ذلك الرجل كان يشبه يعقوب أبي، إن لم يكن هو نفسه، وقد جاء لعزائي فيه.

    كانت تقترب من الثانية، عندما انضمت إلينا أختاي مجدداً، وقد جلبن معهن براد الشاي ومستلزماته، إضافة إلى قطع من كعك منزلي. قالت شقيقتي الكبرى التي تقطن في إحدى ضواحي العاصمة الخرطوم إنها هاتفته في منتصف آخر نهار له، لكنّ «مريم»، كانت تعني الشقيقة الوسطى، لم تُجب وقتها على هاتفها، «مع أنني كررت المحاولة، يوسفَ أخي». «لو أنّ مريم أجابتني لأمكنني إذاً الحديث إلى أبي». قالت مريم ترد عليها وتخبرني في آن: كنا متحلقين هنا داخل الصالون حول سريره هذا، نحادثه. وكان التليفون هناك على بسطة تلك النافذة. لا أدري يوسفَ أخي ما قد حدث لي». تواصل رنين هاتفي هذا ثانية إلى أن توقف. كما لو أن قوة غامضة ظلّتْ تشدني إلى حيث أجلس. قالت سها: أمّي عزت ذلك، «يوسفَ أخي»، إلى أن قسمة شقيقتي الكبرى من الكلام مع أبي كانت قد تمت، من قبل، في كتاب «الأجل».

    أتيح لي أن أهاتفه، قليلاً من القاهرة، وكثيراً من حواضر كندية، وأخرى أستراليّة، كما حادثته مرة من اليابان. أخبرني أثناء محادثة، من أتوا، عن إعجابه أنني أتحدث الإنكليزية، مع «الخواجات أنفسهم». كانت أمّي جالسة، تلك المرة، إلى جانبه، حين طلب مني أن أبحث له، عن «عروس كندية». انتزعتْ السماعة من يده، وبغيظ «قل لأبيك أن يهتم من الآن فصاعداً بشؤون الآخرة». مرة، على هامش مناسبة في فانكوفر، أخذ يحثني على إرسال «الدولارات»، آلمني ذلك. كان من المستحيل شرح المسألة عبر الهاتف، ذلك أن أمّي، وكان فارق العمر بينهما كبيراً، عملتْ دوماً على أن تكون وصيّة عليه، كمريض بداء السُّكر. «إذا ما أعطيت والدك القروش، فإنه سينفقها كطفل على أشياء تضر بصحته، إنه لا يتورع حتى عن الذهاب إلى أقرب حلواني، لشراء الباسطة والبسبوسة». كان أذان الفجر يتناهى من غير مكان، لحظة أن قالت شقيقتي سها إن أبي كان يغافل أمي أحياناً، ويتحصَّل على مثل تلك الأشياء، بمجرد أن يقبض على معاشه الضئيل. أكثر ما قد أثار دهشة أبي أثناء مكالمة هاتفية أخرى أن كندا بدت مغمورة بضياء الشمس، بينما يطبق عليهم في الآن نفسه داخل الوطن ظلام حالك. قال: «سبحان الله». وتغيرتْ فجأة نبرة صوته، بينما يسألني بما بدا يأسا:

    «متى تعود إلى البيت، يا ولدي»؟








                  

12-26-2019, 11:42 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22489

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: زيارة إلى نهاية العالم (Re: عبد الحميد البرنس)

    تحياتي البرنس
    وقفت هنا طويلا

    ****

    كان علينا، إذاً، أن نطأ، في جيشان تلك المشاعر، على قبور كثيرة، كيما نلتقي، بقبره هناك، عند المنتصف. وقد بدا واضحاً أن الممرات القديمة المتعرجة بين القبور لم تعد موجودة هناك. قبل نحو ثلاثين سنة، رفعت أمّي يدها، عن تراب قبر جدّتي ممتعضة، من مشية شابة، كانت تسير، على تلك الممرات، كعارضة أزياء. «المستهترة (قالت أمّي) تظنّ أنّها بمنأى عن اليد القريبة للموت». كانت سها تتابعنا، بتلك الحيرة، بينما نتبادل الحديث، في مكان ما من المقبرة، التي لم تعد برأي أمّي «مفهومة هذه الأيام»، باحثين بأنظارنا ناحية الغرب، عن موضع قبر جدتي لأمّي ذاك، دونما جدوى. قالت أمّي «أتذكر، يوسفَ، زياراتنا تلك إلى قبرها؟»، هززتُ رأسي أن «نعم». واصلنا السير ثلاثتنا، إلى خارج المقبرة، في صمت مطبق رأيتُ خلاله وجه أبي، وهو يطل من ذاكرتي، كتحية طيبة على الطريق. كانت جلستْ قبلها عند صدر قبر أبي، متكئة بظهرها، على قبر ترابي مجاور لا ملامح له، قائلة «السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. هذه أنا. أم عيالك. المسكينة. وهذه بنتك سها. ثم هذا (وقد اختنق صوتها) ولدنا، يوسف يعقوب يوسف، وقد جاء لزيارتك، من كندا». ثم... وهي تنحني، بصدرها نحوه، ماسحة براحتها على تراب القبر، سألته:

    «كيف حالك اليوم، يا رفيقي».

    ****

    أعادت لي شذرات من الماضي

    سلمت يمناك
                  

12-27-2019, 03:23 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: زيارة إلى نهاية العالم (Re: ابو جهينة)

    حياك الله أبا جهينة.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de