الأيام و الليالي..مطية لا تتوقف عن السير...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-13-2024, 12:18 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-29-2020, 00:11 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأيام و الليالي..مطية لا تتوقف عن السير...

    11:11 PM January, 28 2020

    سودانيز اون لاين
    سيف اليزل برعي البدوي-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    الأيام والليالي .. مطية لا تتوقف عن المسير....
    "فقه الوقت" الشغل الشاغل للفضلاء، وإنما تعرف همة الرجل بقدر معرفته بمتطلبات وقته، واستثمار أيام عمره فيما يعود عليه نفعه في العاجل والآجل، خاصة وأن أيام العمر تمضي شئنا أم أبينا، والليالي تسري رضينا أم سخطنا .. قال بعض الحكماء: "من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإن لم يسر".
    وقال أحد العلماء: "إنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي لك أن تغتنمه، ويوم لا تدري هل أنت من أهله أم لا فلعلك تموت قبله، فأما أمس فحكيم مؤدِّب، وأما اليوم فصديق مودع، وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، فخذ الثقة بالله والتوكل عليه ثم بالعمل واترك الغرور بالأمل قبل حلول الأجل".
    وما هذه الأيامُ إلاَّ مراحِلُ *** يحثُّ بها داعٍ إلى الموتِ قاصدُ
    وأعجَبُ شيءٍ لو تأمَّلت أنَّها *** مَنازِلُ تُطوى والمُسافِرُ قَاعِدُ

    قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1-2] قال ابن عباس: "العصر هو الزمن". وقال الرازي: "أقسم الله بالعصر لما فيه من الأعاجيب، ولأن العمر لا يقوم نفاسة وغلاء".

    قال الإمام ابن القيّم:
    مثل أهل الدنيا في غَفْلتهم، مثل قومٍ رَكِبوا سفينة، فانتهتْ بهم إلى جزيرة، فأمَرَهم الملاَّح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذَّرهم الإبطاءَ، وخوَّفهم مرورَ السفينة، فتفرَّقوا في نواحي الجزيرة، فقَضَى بعضُهم حاجته، وبَادَرَ إلى السفينة، فصَادَف المكان خاليًا، فأخَذَ أوْسَعَ الأماكن وألْيَنَها وأوْفَقَها لِمُراده، ووقَف بعضُهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة، ويسمع نَغَمات طيورها، ويُعجبه حُسْنُ أحجارها، ثم حدَّثَتْه نفسُه بفَوْت السفينة، وسرعة مُرورها، وخَطَرِ ذَهابها، فلم يصادِفْ إلاَّ مكانًا ضَيِّقًا، فجلس فيه، وأكبَّ بعضُهم على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة، فحمل منها حملَه، فلمَّا جاء لَم يجدْ في السفينة إلاَّ مكانًا ضعيفًا، وزاده حمله ضِيقًا، فصارَ محمولُه ثقلاً عليه ووبالاً، ولَم يَقْدِرْ على نبذه، بل لَم يجدْ من حملِه بُدًّا، ولَم يجدْ له في السفينة موضعًا، فحَمَله على عاتقه، ونَدِم على أخْذه، فلم تنفعْه النَّدَامة، ثم ذَبُلَتِ الأزهار وتغيَّرت رائحتُها، وآذاه نتنُها، وتولج بعضُهم في تلك الغياض، ونَسِي السفينة، وأبعد في نزهته؛ حتى إنَّ الملاَّح نادَى الناسَ عند دَفْع السفينة، فلم يَبلغْه صوتُه؛ لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر، وتارة يشمُّ تلك الأنوار، وتارة يعجب من حُسن الأشجار، وهو على ذلك خائفٌ من سَبُع يخرج عليه، غير منفكٍّ من شوك يتشبَّثُ في ثيابه، ويدخل في قَدَميه، أو غُصن يجرحُ بَدَنه، أو عوسج يَخرِق ثيابه ويَهتك عورته، أو صوت هائل يُفزعه، ثم من هؤلاء مَن لَحِق السفينة ولَم يَبقَ فيها موضع، فماتَ على الساحل، ومنهم مَن شَغَله لَهْوه، فافترسته السباع، ونَهشتْه الحَيَّات، ومنهم مَن تاه، فهامَ على وجْهه حتى هَلك.

    فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم مَوردَهم وعاقبةَ أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تَغرَّه أحجار ونبات يصير هشيمًا، قد شَغَل بالَه وعوَّقه عن نجاته ولَم يَصحبْه!".
    لقي أحد السلف أخا له فقال له: أترضى حالتك التي أنت عليها للموت؟ قال: لا. قال: فهل عرضت عليها توبة من غير تسويف؟ قال: لا. قال: فهل تعلم دارا تعمل فيها غير هذه؟ قال: لا. قال: فهل للإنسان نفسان إذا ماتت إحداهما عمل بالأخرى؟ قال: لا. قال: فهل تأمن هجوم الموت على حالتك هذه؟ قال: لا. قال: فما أقام على ما أنت عليه عاقل.
    قال التاج السبكي عن سليم الرازي أحد أئمة الشافعية: "كان رحمه الله من الورع على جانب قوي، يحاسب نفسه على الأوقات، ولا يدع وقتا يمضي بغير فائدة، إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ"

    قال ابن عساكر: "ولقد حدثني عنه شخنا أبو الفرج الإسفراييني أنه نزل يوما إلى داره ورجع، فقال: قد قرأت جزءا في طريقي".
    قال أبو الفرج: وحدثني المؤمل بن الحسن أنه رأى سليما خفي عليه القلم، فإلى أن التقطه جعل يحرك شفتيه، فعلم أنه يقرأ بإزاء إصلاحه القلم، لئلا يمضي عليه زمان وهو فارغ".
    قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:37]
    وقال يحيى بن معاذ الرازي: "الفوت أشد من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق".
    وقال ابن القيم: " وإذا أراد الله بالعبد خيرا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدا له، وإذا أراد به شرا جعل وقته عليه، وناكده وقته، فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده الوقت، والأول كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده".
    ومن جهل قيمة وقته فسيأتي عليه حين يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان، وفي هذا يذكر القرآن موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم.

    - الموقف الأول: «ساعة الاحتضار»، حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فات. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100]

    - الموقف الثاني: «يوم القيامة»، حين توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى الحياة ليبدؤوا من جديد أعمالا صالحة .. هيهات هيهات لما يطلبون، فقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]
    عن مجاهد قال: "ما من يوم إلا يقول: ابن آدم، قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل في. فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفض ذلك الخاتم يوم القيامة".

    فالحذر الحذر من ضياع الأوقات ولصوص الأعمار، والانتباه قبل أن يأتي يوم قال الله تعالى فيه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] .. أي تعتذر وتخاصم عن نفسها، لا تتفرغ لغيرها، ولو كان أقرب قريب، وهذا من شدة الهول. قال ابن عباس في هذه الآية: لا تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، وليس أحد بِمَلُومٍ في هذه المواقف على قول نفسي نفسي، فالأمر شديد، والموقف رهيب.
    --------------------------------
    من منا لا يثور حمية ويشتد غيظا إذا نعت بهذا الوصف المشين أو أخبر عنه بهذا الوصف المهين، من أنه مصاب بالاستلاب الحضاري والتأثر بالغرب وتقليده تقليدا أعمى ؟
    ولكن الحقيقة التي تغيب عنا في خضم هذه الحمية والثورة، أننا نقع في صور من هذا الاستلاب الحضاري دون أن نعمد إليها سبيلا، أو نلقي إليها بالا، فالاستلاب الحضاري كالشرك في أنه "أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء" وبالمثال يتضح الإشكال، فبعض صور هذا الاستلاب الحضاري، يكمن في أننا قد تعودنا أن نصف كل ذي زي جميل، ومظهر حسن بــ"فلان يهتم بالموضة، أو فلان متحضر، أو فلان عصري أو خواجة، إلى ما هنالك من مصطلحات وعبارات تختلف في لفظها وتتحد في مضمونها الايجابي الذي يشير إلى الرضى عن الشخص والثناء عليه، في الوقت الذي نصف الشخص الذي لا يحافظ على مظهره، أو يتساهل في أناقة ملابسه ونظافة ثيابه، بأنه مطوع أو زاهد أو محافظ أو متزمت... إلى ما هنالك من نعوت تختلف من بلد لآخر وتتحد في الدلالة على معنى السلبية والضعة والتحقير والاستهزاء.

    والأمر في غاية الخطورة وحساسية الدلالة والمغزى، فإننا من طول ما تعودناه من مشاهدة الغربيين وهم يتصدرون القنوات الإعلامية والمحافل والبعثات الدولية، أعطينا النظافة والأناقة للغربيين، أو من يسير في ركابهم من مبتعثين أو مساعدين، وفي المقابل فإننا وللأسف كثيرا ما نشاهد أشخاصا يشار إليهم بالبنان، على أنهم يمثلون الدين الإسلامي ولهم مكانة علمية وروحية عندنا من أئمة ودعاة ومدرسين ووعاظ، وهم يتساهلون في المظهر والزي لدرجة تصل إلى التقشف والتفريط في النظافة، ولا يرون في ذلك حرجا أو غضاضة، بل ربما حسبوا بعض ذلك أو جله قربة إلى الله، وقضية الزهد ونزعات التصوف المغلوط، والممارسات التي شاعت في عصور ضعف الأمة وابتعادها عن منهج الله، لا تزال حاضرة في الذاكرة الجماعية، وماثلة في الواقع الإسلامي على تفاوت في الظهور والضمور هنا أوهناك، وحساسية الموقف وخطورة الأمر تكمن في أن هؤلاء الأشخاص الذين يحتلون مكانة بارزة بين المسلمين، بسلوكهم هذا يجعلون العامة من الناس يحكمون بأن الدين الإسلامي دين تقشف وتخلف وتساهل بأمر النظافة، وبالتالي فالحضارة العربية الإسلامية هي كذلك، ومن هنا تكمن الكارثة، ويأتي التناقض العجيب، فكيف نعتز بدين نلصق به تهم التخلف والسلبية، وكيف ندعوا إليه ونحن نطعن فيه ونظهره في ثوب السلبية، والتقشف ؟!

    لعل هذا التناقض الصارخ، والتنافر القائم بين السلوك والتصورات، ناجم عن أسباب وبواعث من أهمها:
    أولا: الجهل الشديد بهذه الحضارة ودينها الإسلامي الحنيف، وما يدعو إليه من رقي وتحضر، وما يشتمل عليه من مبادئ وأخلاق حميدة جميلة وسمت حسن أنيق، هي أبعد ما تكون عن الخمول والتقشف والتساهل بالمظهر، فبربك كيف ينسب شيء من ذلك إلى حضارة كتابها المقدس ودستورها الخالد، يجعل الطهارة شرط صحة لأعظم شعيرة لديه وأعظم عبادة عنده، ألا وهي الصلاة التي هي عماد الدين ومرتكزه الذي يقوم عليه، فيأمر المسلمين قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وينادي رب العزة والجلال رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، في بدايات الرسالة وبواكير البعثة، نداء تقدير وإجلال وتكليف وبيان: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 - 4] في ترابط رهيب وتناسق بديع، بين تعظيم الخالق وتمجيده، والتطهر من الأوساخ المادية والمعنوية، وها هو الرسول الكريم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يستوعب الأمر ويتفاعل مع مضامين التكليف، بمنتهى الإيجابية والفهم عن الله، فيعلي من شأن الطهارة والنظافة ويرفعها إلى مستوى يجعلها فيه من الإيمان، الذي هو أعلى مرتبه من الإسلام، بل يقول "الطهور شطر الإيمان" رواه مسلم.

    ثانيا: أننا وللأسف نتعامل مع قيمنا الإسلامية الحضارية، بمستوى من العفوية والإهمال يوقعنا في كثير من الأخطاء والمزالق غير المقبولة، وقد آن الأوان لأن نعي دور الإعلام والدعاية في الترويج للأفكار والمعتقدات، والتنفير منها في المقابل، فتأثيرات العولمة اختصرت المسافات، فجعلت العالم يعيش في قرية كونية واحدة، وينظر إلى شاشات متصلة، وهذا ما يجعل التفريط في هذه النواحي، وإهمال هذه الجوانب اليوم خطرا جسيما وإثما عظيما، فالإسلام اليوم يدخل القارات الخمس، ويتربع على الكراسي الغربية باعتزاز، بعد أن بدأ الغرب يدخل في دين الله أفواجا.

    ثالثا: إن التلكؤ والتردد في أخذ الكتاب بقوة والاستمساك بدين الله في جدية لن يبعث إلا على مزيد من التناقض والإخفاقات والتِّيه، في حين أن العودة إلى آداب الإسلام ومراجعة تعاليمه كفيلة بحل المشكلة والتغلب على الإشكال، وإصلاح الحال المتردي "ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" ونحن أبناء المجتمعات الإسلامية، ينظر إلى أعمالنا بألف عين وعين ويحسب لسلوكنا ألف حساب، فإما أن نكون منفرين فتانين، وعندها نكون قد تولينا ونكثنا العهود مع الله والله قد توعدنا بالاستبدال لنا والاستغناء عنا {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] أو نكون دعاة بالعمل والأسوة قبل أن ندعو بالقول والكلمة، فنكون قادة في معارك الفتح الإسلامي ومبشرين بفجره المرتقب، وعندها نكون على موعد مع نصر الله وعنايته ورعايته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وذلك النصر يكون لا محالة بإحدى الحسنيين، أن نلقى الله ونحن على منهج الله، أو الوصول إلى التمكين لدين الله والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    -----------------------------------------
    الحق هو الصحيح الثابت الذي لا يسع عاقل إنكاره بل يلزمه إثباته والاعتراف به، ومن صفاته أنه واضح لمن أراد أن يسلكه، مَنْ تَعَدَّاه ظلم ومن قصر عنه ندم، ومَنْ صارعه صرعه . وأتباعه هم خيار الخلق، عقولهم رزينة ، وأخلاقهم فاضلة، إذا عَرَفُوا الحقّ انقادوا له، وإذا رأوا الباطل أنكروه وتزحزحوا عنه.
    أمَّا الباطل فهو ما لا ثبات له ، وما لا يستحق البقاء بل يستوجب الترك والقلع والإزالة. وأتباعه من أسافل الناس وأراذلهم وسَقَطهم، يُعْرَفُون بتكبرهم عن الحق، وجهلهم بالحقائق، بل إِنْ شئت فقل سُلِبُوا نعمة العقل، فالجهل لهم إماما، والسّفهاء لهم قادة وأعلاما. فَمَا إِنْ يتكلم أحدهم حتى يُعْرَفُ فساد ما عنده، يصور الباطل في صورة الحقّ، ويستر العيوب بزخرف القول، يتلون كالحرباء، فلا يثبت على مبدأ ، ولكن إذا شاء طفا، وإذا شاء رسب،. فيصدق فيه المثل القائل : يُطَيِّنُ عَيْنَ الشَّمْسِ . أي ينكر الحقَّ الجلىَّ الواضحَ بحجج سخيفة، وإذا كان الساكت عن الحقّ شيطان أخرس ، فالمتكلّم بالباطل شيطان ناطق.

    وقد حظيت المقارنة بين الحق والباطل باهتمام الحكماء والأدباء فقالوا : الحقُّ أَبْلَجُ والباطل لَجْلَجٌ، والمعنى: الحق واضح مُشْرِق والباطل غامض . ومن أقوالهم الجامعة : دولة الباطل ساعة ودولة الحقّ إلى قيام السَّاعة، للباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل ، العاقل لا يبطل حقاً ولا يحق باطلاً ، الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، حقّ يضرُّ خيرٌ من باطل يسرُّ .
    والتدافع بين الحق والباطل أمرٌ حتمي و سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الله في كونه ، وقديما قال ورقة بن نوفل للرسول صلّى الله عليه وسلّم في بداية نزول الوحي : « إِنَّه لم يأت أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عُودِي » والسبب في ذلك أن الحق والباطل ضِّدِّان والضِّدِّان لا يجتمعان ، بل لم يزل أحدهما ينفر من الآخر ويدافعه حتى يزيله ويطرده ، أو على الأقل يضعفه ويمنعه من أَنْ يكون له تأثير في واقع الحياة ، لذا فمَنْ حاول الجَمَعَ بين الحق والباطل لم يجتمعا له، وكان الباطلُ أولى به!!
    والعجيب أنَّ أهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم ، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله وإزالتهم وصَدّ الناس عنهم بكل ما أوتوا من قوة ، ويحْتَالُون في إِضْلَالِهم بكل حِيلَةٍ و إمالتهم إِليهم بكل وسيلة ، وقد صَوَّرَ القران طَرَفًا من ذلك ، قال سبحانه :[ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ] أي : ولقد كان مكرهم بالحق وبمن جاء به من الشدة بحيث كادت الجبال بسببه تزول وتنقلع من أماكنها، لكن الله بقدرته وقوته يَرُدُّ كيدهم في نحورهم ، فلا يغن عنهم كيدهم ولا مكرهم شيئا، قال سبحانه : [ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ] أي: يفسد ويبطل ، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فأمرهم لا يروج ويستمر إلا على غبي أو متغابي.

    والباطل مهما ملك من القوة والعتاد دائما ذليل ، و الحق دائما عزيز شعار صاحبه و المدافع عنه [لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى]، وهي العبارة التي ذَكَّر الله بها موسى عندما أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً من سحر فرعون وضخامته، ومعناها كما يقول صاحب الظلال : أنت الأعلى لأن معك الحق ومعهم الباطل. معك العقيدة ومعهم الحرفة. معك الإيمان بصدق ما أنت عليه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة. أنت متصل بالقوة الكبرى وهم يخدمون مخلوقا بشريا فانيا مهما يكن طاغية جبارا. ان القوة المادية- كائنة ما كانت- لا تملك أن تستعبد إنساناً يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال! انتهى كلامه
    والثابت بيقين أَنَّ الغلبة دائما للحق، أَمَّا الباطل فأمره الى زوال، وتلك سنة لا تتخلف أبداً : [فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض] والزَبَد :ما يعلو الماءَ وغيره من الرَّغوة عند غليانه أو سرعة حركته، ووجه الشبه هنا أَنَّ الحق في استقراره ونفعه كالماء المستقرّ النافع، وكالمعدن النّقي الصّافي. والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السّيل على جوانبه، وكشوائب المعدن التي يطرحها ويتخلّص منها عند انصهاره، فيبقى الحقّ ويثبت، ويزول الباطل ويتبدّد.

    ومما يجب أنْ يُعرف أنَّه إِذا كان النصر أمر لا شك فيه فإِنَّه لا يأتي دون جهد عظيم يُبْذَلُ وتضحيات تُقَدَّمُ ، كما أنَّه قد يتأخر لأنَّ الله تعالى يريد لأهله النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيراً في واقع الحياة وفي عموم الناس ، يدل على ذلك أنَّ نصر الرسول الكريم ومن معه من المؤمنين لم يحصل في يوم وليلة ولا سنة واحدة ، وإنَّما تأخر مدة ، ثم جآءهم النصر الذي دخل بسببه الناس في دين الله أفواجاً . اللهم ارزقنا حسن الثقة بك ، واجعلنا ممن يعلمون الحق ويعملون له ويوقنون بانتصاره كأنما يرونه رَأْيَ الْعَيْنِ. آمين
    ------------------------------------------------------
    في قلوب الكثير منَّا فرعون صغير؛ يصيح كلما واتته فرصة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (24:النازعات)..
    ويحتاج إلى موسى ليهتف به: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}(18،19:النازعات).
    موسى وكل الأنبياء بُعثوا لقمع الأنانية الطاغية، ومساندة التواضع لله، وكانت رسالتهم العبادة لله وحده، لا تشركوا معه إلهاً آخر من أنفسكم، ولا من ناسكم، ولا من أحجاركم أو أشجاركم!
    ولذا كان السجود قمة التواضع وهو ذروة العبادة.

    ولذا عزف موسى عن أبهة القصر، وعاهد الله على البُعد عنها: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} (17:القصص).
    وقرر أن يقف مع الضعيف المغلوب في المشاجرات التي حكاها الله عنه، ليُحارب عنصرية الفراعنة ضد بني إسرائيل المستضعفين.
    وأدرك بفطرته طبيعة مجتمع ذكوري لا يلتفت لمعاناة امرأةٍ ضعيفةٍ فوقف في صف الفتاتين، وسقى لهما غير آبه بالعيون التي ترمقه باستغراب وتشكك..
    ورضي أن يظل عشر سنوات يرعى الغنم كمهرٍ للزوجية، و" السَّكينة والوَقَار في أهل الغنم " (البخاري)، وما من نبي إلا رعى الغنم، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- يرعاها لأهل مكة على قَرَارِيط ..
    صُحبة الغنم تورِّث التواضع والسكون والهدوء، وتصنع رابطة غريبة من الإلف والتعارف.. نعم التعارف!
    ولذا ظل موسى وهو يناجي ربه يُفسِّر وجود العصا معه بأنه يتوكأ عليها ويهشُّ بها على غنمه، فيضرب الشجر حتى يتساقط ورقها فتأكله غنمه.
    والاتكاء على العصا لأنه كان يُكثر المشي على قدميه في البرية؛ هارباً من الظلم، أو باحثاً عن الأمن، أو عائداً إلى أمه وأسرته، أو راعياً لغنمه.. وهي تربية على التواضع.

    المرَّة الوحيدة التي أُثر أن موسى قال فيها (أنا)، هي حينما سأله رجل وهو على المنبر: مَنْ أعلم أهل الأرض؟ قال: أنا!
    وهذه الـ(أنا) لم تكن من شأن موسى؛ لأنه لا يجزم بذلك، فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فيقول: لا أدري، أو الله أعلم.
    فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.. وهو الخَضِر.
    موسى كان أفضل منه، فهو رسول من أولي العزم، والخَضِر نبي عنده علمٌ من عند الله لم يطَّلع عليه موسى في مسائل مفردة، وكأنها أمثال ضُربت لموسى، وفي طيَّاتها إشارة لسرعته في الجواب عن سؤال: مَنْ أعلم الناس؟!
    لم يصبر موسى على التعلُّم من الخَضِر كما وعد، فعاتبه على خرق السفينة؛ خيفة أن يغرق أهلها، وكأن هذا تذكير له بإلقائه في اليَمِّ وهو رضيع؛ لا ليغرق، ولكن ليسلِّم بإرادة الله وتدبيره من بطش الطاغية فرعون، ولذلك عُدَّ هذا نسياناً منه..

    على أن موسى قاوم طغيان فرعون حتى انتصر عليه، والخَضِر اكتفى بحماية السفينة والحفاظ على مال المساكين، وبهذا يتبيَّن الفرق العظيم بينهما!
    ولم يصبر موسى على قتل الغلام الفاسد فأنكر على الخَضِر قتله، وكأن هذا تنبيه على أن قتل فرعون لأولاد بني إسرائيل وإن كان جرماً إلا أنه قَدَرٌ إلهي له أسراره وأبعاده التي لا يُحيط بها إلا من آتاه الله من لدنه علماً..
    أو أنه تنبيه لموسى على قتله للقبطي؛ الذي لم يؤمر بقتله، وأن من ورائه سراً إلهياً لا يعلمه موسى، ولعله لو عاش لأرهق من حوله طغياناً وكفراً أو كان عائقاً عن دعوة الحق، وهذا يُخفف من لوعة موسى من تلك الفعلة..
    ولم يصبر على إقامة الجدار بغير أجرة لغلامين يتيمين من أهل قرية أبوا أن يضيفوهما، وكأن هذا نظير ما فعله موسى للفتاتين الضعيفتين في أرض مدين، حيث كان موسى غريباً طارئاً لم يجد منهم الحفاوة، ولذا دعا ربه: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (24:القصص)..
    وكان خاتمة اللقاء بينهما هو هذا الموقف الذي يختلف عن سابقيه بأن للنفس فيه بعض الحظ، ولذا قال الخَضِر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} (78:الكهف)!
    في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي " (رواه مسلم ).

    ذلٌّ وانكسارٌ وتعبُّد هو سر الفضل والسَّبق، ولذا كان موسى هو الرجل الثالث في الفضيلة الإنسانية بعد محمد وإبراهيم -عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام- على قول الأكثرين.
    قتل موسى قبل النبوة رجلاً ظالماً من القبط؛ كان يريد تسخير بعض بني إسرائيل في مصالحه، ولكن لم يكن له في قتله حق، فظل الندم على هذا الفعل يلاحقه طيلة حياته مع أن الله غفر له، وحتى بعد موته لم ينس هذا الذنب، فإذا جاءه أهل الموقف يطلبون شفاعته إلى الله اعتذر وقال:" إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا "( الترمذي)
    وأحدنا يفعل أمثال الجبال من الذنوب ثم ينساها أو لا يدري عنها أصلاً؛ لأنها من الذنوب الخفية ..ذنوب القلوب!
    ولكنه يحتفظ بذنوب الآخرين وكأنه ربٌّ يحاسبهم، ولذا قال عيسى: (لَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ)، رواه مالك بلاغاً، والله أعلم.
    -------------------------------------------------
    جاء في كتاب (ذيل طبقات الحنابلة) في ترجمة القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار يروي لنا حكاية عن نفسه قال: كنت مجاورا بمكة المكرمة – حرسها الله تعالى - فأصابني يوما من الأيام جوع شديد، ولم أجد شيئاً في داري ادفع به عني الجوع، فخرجت التمس الطعام، فسمعت الآذان يؤذن للصلاة، وبينما كنت متوجهاً للحرم الشريف إذ بي أرى في الطريق كيسا حريريا مشدوداً بخيط من ذهب، فأخذته وجئت به إلى بيتي فحللته فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ لم أرى مثل جماله أبداً، وأخذت أقول في نفسي يا ليت هذا العقد لي.
    فخرجت فإذا بشيخ ينادي عليه ومعه خرقة فيها خمسمائة دينار، وهو يقول: "أيها الناس، هذا لمن يرد لنا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، هذا لمن لديه شهامة وأمانة" فقلت في نفسي: أنا محتاج، وأنا جائع، فلم لا آخذ هذا الذهب فانتفع به، فوالله لا أظن أحدا في مكة كلها مثلي معوز وجائع.
    فناديته: تعال معي تعال، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني لون الكيس وعلامة اللؤلؤ وعدده والخيط الذهبي، فأخرجته ودفعته إليه، فسلم إلى الخمسمائة دينار فرفضت أن آخذها وقلت له: يجب على أن أعيده لك ولا آخذ له جزاء ولا شكورا، فقال: لابد أن تأخذ وألح علي، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى، وأما ما كان مني فإنني شددت رحلي وخرجت من مكة وركبت البحر، فلما استويت على ظهر السفينة أخذت أفكر في حالي وفقري ومن أين لي أن آتي بالمال، فرفعت يدي ودعوت ربي {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: ٢٤].

    وبينما كنت متكئا على السارية أحسست بالسفينة تعلو وتهبط ليس كعادتها، ثم إن البحر بدأ يثور وأخذت أمواجه تتلاطم بالسفينة من كل مكان، ودب الرعب والذعر وزاد صراخ الناس، فأخذت أنظر فإذا بموجة كالطود العظيم جاءت فضربت السفينة فانكسرت، وغرق الناس وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة خشبية من المركب، فبقيت مدة بالبحر حتى لاحت لي يابسة.
    فأخذت أسبح بما بقي لي من قوة حتى ألقيت بنفسي على شاطئ جزيرة فجاءوني صبيانها وحملوني إلى أهلهم فأطعموني وسقوني، ثم إني خرجت بعد ثلاثة أيام فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أترنم بالقرآن وأقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إلي وقال: "علمني القرآن"، فحصل لي من أولئك شيء كثير من المال، ثم إني رأيت في ذلك المسجد أوراقا من مصحف فأخذت أقرا فيها فقالوا: أتحسن الكتابة والخط؟ فقلت: نعم، فقالوا علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب فكنت أعلمهم فحصل لي أيضا في ذلك شيء من المال الكثير، فقالوا لي بعد ذلك، عندنا صبية يتيمة, ولها شيء من متاع الدنيا والأموال، نريد أن تتزوج بها، فامتنعت فقالوا: لابد، والزموني، فأجبتهم إلى ذلك.
    فلما زفوها إلى مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقاً على عنقها فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه والتفكر في أمره، فقالوا: يا شيخ كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد.
    فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة فقلت: ما الخبر أيها الناس؟ ماذا بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد هو والد هذه الصبية اليتيمة، وكان يقول قبل موته: ما وجدت في الدنيا مسلماً كهذا الذي رد إلى هذا العقد، وكان يدعو ويقول: "اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه بابنتي"، والآن قد حصلت وتحققت دعوته فلله الأمر جميعاً، وهو الذي يصرف الأمور كيف يشاء!
    فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين جميلين، ثم إنها مرضت مرض الموت فماتت - رحمها الله - فورثت العقد عنها، ذلك العقد الذي أبيت أن آخذ ثمناً له لأمانتي عندما وجدته، فجعله الله من نصيبي ومعه غلامين جميلين من صاحبته.

    إن الإحسان دليل على النبل، واعتراف بالفضل، وعرفان بالجميل، وقيام بالواجب، واحترام للمنعم، ينبئ عن الصفاء، وينطق بالوفاء، ويترجم عن السخاء؛ بالإحسان يشُترى الحب، ويُخطب الودّ، ويكسب النفوس، ويُهيمن على القلوب، وتستعبد الأفئدة .. الإحسان عطاء بلا حدود، وبذل بلا تردد، وإنعام دونما منّ، وإكرام لا يلحقه أذى.
    وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فالجزاء دوما من جنس العمل، والحصاد من جنس البذرة، فاعمل ما شئت فكما تدين تدان!! بل الجزاء دوما أفضل، لأنك إذا أعنت أخاك كان الله في عونك، وإذا كان الله في عونك كان الجزاء أكبر من العمل، بل إن البون شاسع، والفرق كبير بين إحسان وإحسان، فماذا تساوي قطرة من إحسان منك، مع بحور الفضل وأنهار الإحسان وقنوات العطاء منه جل وعلا، بل إحسانك ما هو إلا من إحسانه إليك ولطفه بك أن هداك لذاك، فهو المحسن دوما الغفور الودود.
    وشرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل «الجزاء من جنس العمل» وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل. قال بعض أهل العلم –رحمهم الله –: إن نصوص الشرع قد دلت في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
    حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوما كما هو دائن

    إن اليقين بهذه القاعدة يمنح وقودا إيمانيا عجيبا لمن سلك سبيل الله تعالى، فإذا ما واجه عقبات أو منغصات أو اضطهاد أو ظلم أو استضعاف، يحثه هذا اليقين على الصبر والثبات، وثوقا بموعود الله الذي يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
    وكل أصول وفروع المعاشرة وآدابها، وكل قوانين التعامل ترجع إلى الإحسان، فهو يشمل محيط الحياة كلها في علاقة العبد بربه، وعلاقته بأسرته، وعلاقته بمجتمعه، وعلاقته بالبشرية جميعاً، بل وعلاقته بسائر المخلوقات.

    والمحسن محبوب من المخلوقين، ومحبوب من الخالق، ولذلك كانت منزلة المحسنين عند الله تعالى عظيمة، ومرتبتهم كبيرة، ودرجاتهم عالية، قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: ٦٠].
    كان بعض السلف يدور على المجالس ويقول: (من أحبّ أن تدوم له العافية فليتق الله).
    وقال العمري الزاهد: (كما تحب أن يكون الله لك، فهكذا كن لله عز وجل).
    وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: قال داود عليه السلام: إلهي كُن لابني سليمان من بعدي كم كنت لي. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، قل لابنك سيلمان يكون لي مثلما كنت لي [أي في الطاعة والعبادة]، أكُن له كما كنت لك [أي في الحفظ والرعاية والعناية].
    islamweb








                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de