هل يجوز قتل المرتد ؟

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-12-2024, 11:24 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-01-2006, 05:04 AM

Faisal Al Zubeir
<aFaisal Al Zubeir
تاريخ التسجيل: 10-25-2005
مجموع المشاركات: 9313

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
هل يجوز قتل المرتد ؟

    متى يتدبرون ؟ بقلم : عصام صديق : ‏
    في تعقيب لم ينشر على مطالبة الأستاذ عثمان ميرغني للإنقاذ بالتحقيق في محاولة ‏اغتيال الرئيس المصري قلنا بالحرف الواحد (إن المطلب يعبر عن صوت الشعب ‏السوداني المسالم، الذي لا يعرف الغدر ولا الاغتيال، فهو شعب متدين لا يقر اخذ ‏القانون باليد ولا قتل النفس التي حرم الله قتلها الا بالحق). المصيبة ان هناك بعض ‏السياسيين يؤمنون بمفاهيم مخالفة للدين جذورها حديثان (من بدل دينه فاقتلوه)، (ومن ‏رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، وآية (ومن لم يحكم بما انزل الله)، ولهذا ايدوا اعدام ‏نميري للأستاذ محمود محمد طه (وإن ارتد)، وأيدوا محاولة اغتيال الرئيس المصري. ‏وفي تقديري ان الترابي وجماعته كانوا وما يزالون (عدا الترابي وقلة مؤخراً)، لكنه لم ‏يطالب بإلغاء عقوبة الردة من القانون الجنائي الذي ساهم في وضعه) يحملون تلك ‏المفاهيم.. واليوم يعيد التاريخ نفسه، ويبدأ مسلسل تكفيري ضد الشيخ نفسه، وفي ظل ‏استمرار الهجران الكبير لمعاني ومقاصد القرآن الكريم، قد يقود الى ان يشرب من نفس ‏الكأس التي ساهم هو على الأقل سكوتياً في صنعها، وراح ضحية لها الأستاذ محمود ‏محمد طه قبل عقدين من الزمان بعد تجاوزه هو ايضاً السبعين!. الاختلاف الوحيد لمناخ ‏اليوم عن سابقه الذي ارتكبت فيه جريمة قتل المرتد محمود هو ان الدستور الانتقالي ‏يبيح حرية تبديل الدين. الا ان القانون المخالف للدستور، هو نفس القانون الذي اعدم ‏بموجبه محمود. ورئيس الجمهورية ونائباه في موقف لا يحسدون عليه، فالجماعات التي ‏نصبت نفسها مفسرة وحامية للعقيدة الإسلامية تضغط وتحرض وتتوعد لإقامة حد الردة ‏على الشيخ، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرئاسة الجمهورية يصدر الفتاوي المؤيدة ‏لتكفير الشيخ.. ومن ناحية ثانية رفع اكثر من حزب ومفكرون مذكرة لرئيس الجمهورية، ‏اهم ما فيها تعديل تلك المادة التي تعدم المرتد عن الدين الإسلامي، وبالتالي قد تقطع ‏الطريق على مرامي الجماعات التكفيرية.‏‎ ‎وفي هذا المقال لن نتعرض الى آراء الترابي، ‏وهل هو مرتد؟ ام غير مرتد عن الدين الإسلامي؟ ولسنا مؤهلين لذلك. المؤسف ان ‏الترابي خصم سياسي لتلك الجماعات، ولذلك تظل شبهة رغبة تلك الجماعات في اختفائه ‏عن الساحة السياسية قائمة. ولذلك فإنني اناشدهم بأن يعودوا الى القرآن الكريم ليكون ‏حكماً بينهم وبين الترابي بالحق، وليدخروا لذلك المؤهلين لإصدار الفتاوي وشرطها - ‏كما يقول البروفيسور ابراهيم احمد - توفر الخبرة والشرع. والخبرة هي بنص القرآن ‏‏(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق..) الفرقان: ‏‏20، اي المهنية في شتى ضروب الحياة والمعرفة. وأذكرهم فإن الذكرى تنفع المؤمنين ‏بقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: 24، وقوله تعالى ( وقال ‏الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) الفرقان: .30‏‎ ‎ترجع مناشدتنا ‏للإسلاميين والعلماء والفقهاء لتدبر معاني القرآن حول الحرية الدينية الى ثمانينيات ‏القرن الماضي بعد اعدام النميري للأستاذ محمود محمد طه، حين اقترحنا (حكم الردة ‏في الإسلام) موضوعاً لبحث بكالريوس التخرج لطالبة السنة النهائية للدراسات ‏الإسلامية عواطف احمد صالح، (ام العيال) بجامعة ام درمان الإسلامية، التي ارسلت ‏استبياناً الى اثني عشر عالما ومفكرا وفقيها، منهم الترابي، الصادق المهدي، ابن باز، ‏شيخ الأزهر والشعراوي. شمل الاستبيان الإجابة على سؤال (ما حكم المرتد في القرآن ‏الكريم؟). ولكن للأسف لسبب ما لم تصل إليها اجابة من اي من هؤلاء، وحصل البحث ‏على درجة الامتياز عام .1986 ومما جاء فيه: (انه لا يوجد نص بقتل المرتد في الدنيا ‏في القرآن الكريم)، وأرسل البحث الى رئيس الوزراء آنذاك السيد الصادق المهدي الذي ‏ايد ما جاء فيه، وبموجب ذلك ارسل كاتب هذا المقال خطابا الى النائب العام عام 1988 ‏د.حسن الترابي في ذلك الوقت، مطالباً بإلغاء مادة عقوبة الردة من مسودة القانون ‏الجنائي. سلم الخطاب الى الأستاذ حافظ الشيخ الزاكي لتسليمه الى النائب العام؛ الترابي، ‏ولكن لم يصل رد يفيد الاستلام او التعقيب، ولم نسقط مادة عقوبة الحد من القانون ‏الجنائي، وبقي كما اجازه النميري. وعندما اعدم محمود كان الترابي مستشاراً ممثلاً ‏لجماعته التي صالحت النميري وشاركته الحكم.‏‎ ‎لم تقف محاولاتنا لإلغاء المادة (126) ‏لمخالفتها الشريعة الإسلامية، عند ذلك الحد، وإنما استمرت المحاولة الى عهد الإنقاذ. ‏فقد حصلت على كتاب محمد منير ادلبي بعنوان (قتل المرتد الجريمة التي حرمها ‏الإسلام) عام 2004، ويا سبحان الله جاء مطابقاً لكثير مما جاء في بحث السيدة عواطف ‏احمد صالح، المشار اليه اعلاه، ولكن بتوسع كبير وإضافات وأدلة من الكتاب والسنة، ‏وتم تسليمه الى سكرتارية البروفيسور احمد على الإمام، مستشار الرئيس لشؤون ‏التأصيل، ليتم التداول حوله بمجمع الفقه الإسلامي، وأعيد لي الكتاب دون تعليق من ‏سكرتارية البروفيسور، ثم سلم الكاتب الى الأستاذ عبد الجليل النذير الكاروي ليعلق ‏عليه.. واليوم مضى على ذلك اكثر من عام ولم نسمع تعليقاً من الأستاذ على حكم الردة ‏في القرآن.‏‎ ‎ثم اقام ملتقى السلام الذي يرأسه كاتب المقال، سمناراً بعنوان (الحرية الدينية ‏والدستور الانتقالي) في قاعة الشارقة مطلع هذا العام شارك فيه كل من الإمام الصادق ‏المهدي، الدكتور الحبر يوسف نور الدائم، الحاج وراق ود.صبحي فانوس، وغاب عنه ‏كل من الشيخ حسن الترابي والدكتور بيتر نيوك. وجه للمتحدث سؤالاً عن حكم المرتد ‏في الإسلام ومدى مخالفة المادة (126) للدستور الانتقالي، ترك لهم حق الامتناع عن ‏الإجابة، وقد فعلوا سوى الحاج وراق، الذي رفض حدة الردة. في تقديري ان هذا الأمر ‏يضع حداً فاصلاً بين الحرية الدينية وعدمها في الإسلام، ولذلك لن نمل مناشدة الخبراء ‏والدعاة ان يقودوا حملات كبرى لوقف الهجران الكبير الذي يتعرض له القرآن الكريم، ‏بتدبر معانيه بعمق شديد ومستمر وجماعي لا فردي، ولا اعنى بالطبع هجر الحفظ ‏والتجويد، فنحن اليوم احوج لهذه الحملة من اصدار فتاوي التكفير، وهل الترابي مرتد أم ‏غير مرتد.. اذا كان السلف من الخلفاء الراشدين مثل الخليفة العادل عمر بن الخطاب ‏كانوا محتاجين لمن يذكرهم بتأمل آيات الله البينات وفي وقت لم يمضِ عليه سوى ‏سويعات على انتقال المصطفى (ص) الى الرفيق الأعلى، اي على ايام دولة المدينة ‏ودولة القرآن، حتى ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان محتاجاً للتذكير، حين استل ‏سيفه يريد اخذ القانون بيده لتنفيذ حد الردة في من نقلوا - فقط - خبر موت محمد (ص)، ‏قائلاً: (من يقل ان محمداً قد مات حسوت رأسه بهذا السيف!) فانبرى له الرئيس الحاكم ‏القائد الخليفة الأول لرسول الله (ص) ابوبكر الصديق، ثاني اثنين في الغار، مذكراً له ‏بالقرآن، الذي هجره عمر بن الخطاب في تلك اللحظة العصيبة التي تلت موت رسول ‏الله (ص)، مردداً قوله تعالى (ايه اسميها؟ اليوم وفي هذه اللحظة التي اكتب فيها هذا ‏المقال، اسميها ايه: الحرية الدينية): (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن ‏مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً) آل عمران: ‏‏..144 تعالوا تندبر هذه الآية سوياً. أولاً: هذه آية للإعجاز القرآني، فقد نزلت بالطبع قبل ‏قصة سيدنا عمر بن الخطاب حين انتقل المصطفى (ص) للرفيق الأعلى. ثانياً: الله ‏سبحانه وتعالى لم يشأ ان يكشف لعباده كيفية انتقال المصطفى اليه، ولذلك وضع ‏الاحتمالين لانتقال اي شخص: الموت او القتل. ثالثاً: الجزء الأول من الآية يخاطب عمر ‏بن الخطاب وكل من يحاول اخذ القانون بيده، انه حتى لو قتل الرسول (ص) فلا تبيح لك ‏تلك الجريمة ان تنفذ انت بيدك كمواطن غيور على العقيدة والدين عقوبة القتل على من ‏يقتل شخصاً، ولو كان ذلك الشخص هو اعظم البشر محمد (ص). ولذلك فإن قتل خالد ‏الإسلامبولي للسادات جريمة حسب نص هذه الآية العظيمة التي ذكر بها الخليفة الأول ‏في الإسلام ابن الخطاب وسائر المسلمين الى يوم الدين.. لا اظن ان الإسلامبولي ولا ‏الذين خططوا معه، ولا الذين حاولوا قتل الرئيس المصري حسني مبارك قد تدبروا ‏وأمعنوا النظر في تلك الآية ولم يجلسوا للنظر في مغزى تلك الحادثة الأولى بعد انتقال ‏الرسول (ص) الأمر الرابع لتلك الآية هو ان الجزء الأخير منها يقول بحرية تبديل الدين ‏‏(..ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً.. الآية). ماذا يضير الإسلام لو ارتد محمود ‏محمد طه أو ارتد الترابي؟ كم عدد الذين يدخلون في دين الله أفواجاً كل يوم؟ وكم عدد ‏الذين يرتدون؟ لا تقولوا إن شيخ الترابي كبير يؤثر في الكبار أو الشباب بأفكاره ولذلك ‏ينبغي ان تحرق كتبه! تدبروا قوله تعالى في شأن الفتن التي قد يجرها المرتد: (... آمنوا ‏بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) سورة آل ‏عمران: 72، وهي نزلت في اليهود، كانوا يخططون - كدأبهم- لفتنة المسلمين عن ‏دينهم، يؤمنون او النهار ليجالسوا المسلمين ثم يرتدون آخر النهار، عل المسلمين ‏يرتدون مثلهم (لعلهم يرجعون..) الآية. رغم ذلك لم ينفذ فيهم المصطفى (ص) حد الردة ‏المزعوم، رغم تخطيطهم الواضح لفتنة المسلمين، فما بال عمر البشير يستجيب ‏لنداءاتكم المخالفة للكتاب والسنة الصحيحة المفسرة له.. وتدبروا علمائنا الأجلاء قوله ‏تعالى (.. وكانوا شيعاً لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله..الآية) الأنعام: 159، و(من ‏يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه..) المائدة: 54، و(ومن يرتدد ‏منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) البقرة:..127 ‏وغيرها من الآيات البينات التي لا يسع المجال لذكرها كلها، وأضعف الإيمان أن تقرأ ‏هذه الآيات باستصحاب قاعدة (الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة)، فإن نجا ‏المرتد من العقوبة الدنيوية بسبب العفو فلن ينجو من عذاب الآخرة..‏‎ ‎‏ إن كان الترابي، أو ‏محمود من قبله مرتداً، فحسابهم على الله بنص القرآن، (لست عليهم بمسيطر × إلا من ‏تولى وكفر × فيعذبه الله العذاب الأكبر× إن إلينا إيابهم × ثم إن علينا حسابهم) الغاشية: ‏‏22- .26 فالإنسان حر فيما يعتقد دنيوياً دون ان يجرح مشاعر المؤمنين أو أي شخص ‏بالسباب أو السخرية من أي دين، كما فعل سفهاء الدنمارك مؤخراً. المطلوب اليوم تدبر ‏القرآن أكثر من الجدال في الفتاوي غير المرتبطة بالقضايا الرئيسية التي تواجه العالم ‏اليوم والغد، مثل أزمة الطاقة بارتفاع أسعار النفط لأكثر من 75 دولارا للبرميل والذي ‏يصادف الذكرى العقدية الثانية لكارثة مفاعل شرنوبل النووي، وتهديدات مجلس الأمن ‏لإيران واعتراضات رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، لنية ايران مساعدة السودان ‏للتوليد الكهربائي النووي وتوليد البرازيل 40% من كهربائها من الكتلة الحية، كأنهم ‏تدبروا قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً) يس: ...80 قضايا أمراض ‏العصر وتلوث الغذاء والبيئة والفقر والحلول القرآنية لها كقوله تعالى: (كلوا من طيبات ‏ما رزقناكم) البقرة: .57 ‏
    [email protected]‏ ‏
    نقلا عن السوداني العدد 174 الأول من مايو 2006 ‏
                  

05-01-2006, 05:37 AM

محمد ميرغني عبد الحميد
<aمحمد ميرغني عبد الحميد
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 1563

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل يجوز قتل المرتد ؟ (Re: Faisal Al Zubeir)
                  

05-01-2006, 08:17 AM

بابكر حامد احمد

تاريخ التسجيل: 10-06-2005
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل يجوز قتل المرتد ؟ (Re: محمد ميرغني عبد الحميد)

    المجتمع المسلم ومواجهة الردة:

    أشد ما يواجه المسلم من أخطار: ما يهدد وجوده المعنوي، أي ما يهدد عقيدته، ولهذا تعتبر الردة عن الدين: أي الكفر بعد الإسلام من أشد الأخطار على المجتمع المسلم. وكان أعظم ما يكيد له أعداؤه أن يفتنوا أبناءه عن دينهم بالقوة والسلاح أو بالمكر والحيلة. كما قال تعالى: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا" (البقرة: 217).

    وفي عصرنا تعرض المجتمع المسلم لغزوات عنيفة، وهجمات شرسة، تهدف إلى اقتلاعه من جذوره، تمثلت في الغزو التنصيري، الذي بدأ مع الاستعمار الغربي، والذي لا يزال يمارس نشاطه في العالم الإسلامي، وفي الجاليات والأقليات الإسلامية، ومن أهدافه: تنصير المسلمين في العالم، كما وضح ذلك في مؤتمر "كلورادو" الذي عقد سنة 1978. وقُدِّمَت له أربعون دراسة حول الإسلام والمسلمين، وكيفية نشر النصرانية بينهم. ورصد لذلك ألف مليون دولار، وأسس لذلك معهد "زويمر" لتخريج المتخصصين في تنصير المسلمين.

    كما تمثلت أحد مكونات تلك الهجمة في الغزو الشيوعي الذي اجتاح بلادًا إسلامية كاملة في آسيا، وفي أُوروبا، وعمل بكل جهد لإماتة الإسلام، وإخراجه من الحياة نهائيًا، وتنشئة أجيال لا تعرف من الإسلام كثيرًا ولا قليلاً.

    وثالثة الأثافي: الغزو العلماني اللاديني، الذي لا يبرح يقوم بمهمته إلى اليوم في قلب ديار الإسلام، يستعلن حينًا، ويستخفي حينًا، يُطارد الإسلام الحق، ويحتفي بأشكال التدين الخرافي التي تعتبر نفسها من مظاهر الدين الإسلامي، والإسلام منها براء. ولعل هذا الغزو هو أخبث تلك الأنواع وأشدها خطرًا.

    وواجب المجتمع المسلم – لكي يحافظ على بقائه – أن يقاوم الردة من أي مصدر جاءت وبأي صورة ظهرت، ولا يدع لها الفرصة حتى تمتد وتنتشر كما تنتشر النار في الهشيم.

    هذا ما صنعه أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم حين قاتلوا أهل الردة، الذين اتبعوا الأنبياء الكذبة، مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي، وكادوا يقضون على دعوة الإسلام في مهدها.

    ومن الخطر كل الخطر أن يبتلي المجتمع المسلم بالمرتدين المارقين، وتشيع بين جنباته الردة، ولا يجد من يواجهها ويقاومها. وهو ما عبر عنه أحد العلماء عن الردة التي ذاعت في هذا العصر بقوله "ردة ولا أبا بكر لها" (1).

    ولا بد من مقاومة الردة الفردية وحصارها، حتى لا تتفاقم ويتطاير شررها، وتغدو ردة جماعية، فمعظم النار من مستصغر الشرر.

    ومن ثم أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية.

    وفيها وردت جملة أحاديث صحيحة عن عدد من الصحابة: عن ابن عباس وأبي موسى ومعاذ وعلي وعثمان وابن مسعود وعائشة وأنس وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة.

    وقد جاءت بصيغ مختلفة، مثل حديث ابن عباس: "من بدل دينه فاقتلوه" (رواه الجماعة إلا مسلما، ومثله عن أبي هريرة عند الطبراني بإسناد حسن، وعن معاوية بن حيدة بإسناد رجاله ثقات).

    وحديث ابن مسعود "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (رواه الجماعة).

    وفي بعض صيغه عن عثمان: "... رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (رواه الجماعة).

    قال العلامة ابن رجب: والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق عليه بين المسلمين (2).

    وقد نفذ علي كرم الله وجهه عقوبة الردة في قوم ادعوا ألوهيته فحرقهم بالنار، بعد أن استتابهم وزجرهم فلم يتوبوا ولم يزدجروا، فطرحهم في النار، وهو يقول:

    لما رأيت الأمر أمـرًا منكرا *** أججت ناري ودعوت قنبرا

    وقنبر هو خادم الإمام علي رضي الله تعالى عنه (3).

    وقد اعترض عليه ابن عباس بالحديث الآخر "لا تعذبوا بعذاب الله"، ورأى أن الواجب أن يُقتلوا لا أن يُحرقوا. فكان خلاف ابن عباس في الوسيلة لا في المبدأ.

    وكذلك نفذ أبو موسى ومعاذ القتل في اليهودي في اليمن، والذي كان قد أسلم ثم ارتد. وقال معاذ: قضاء الله ورسوله (متفق عليه).

    روى عبد الرازق: أن ابن مسعود أخذ أقوامًا ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عمر. فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق، وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوها فخل عنهم وإذا لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله (4).

    وروي عن أبي عمر الشيباني أن المستورد العجلي تنصر بعد إسلامه، فبعث به عتبة بن فرقد إلى علي فاستتابه فلم يتب، فقتله(5).

    الردة نوعان: مغلظة ومخففة:

    وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن النبي صلي الله عليه وسلم قبل توبة جماعة من المرتدين، وأمر بقتل جماعة آخرين، ضموا إلى الردة أمورًا أخرى تتضمن الأذى والضرر للإسلام والمسلمين. مثل أمره بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح، لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم. وأمر بقتل ابن أبي صرح، لما ضم إلى ردته الطعن والافتراء. وفرق ابن تيمية بين نوعين: أن الردة المجردة تقبل معها التوبة، والردة التي فيها محاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد لا تُقبل فيها التوبة قبل القدرة (6).

    روى عبد الرازق والبيهقي وابن حزم: أن أنسًا عاد من سفر فقدم على عمر، فسأله: ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام، فلحقوا بالمشركين؟ قال: يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين، قتلوا بالمعركة. فاسترجع عمر -أي قال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون-، قال أنس: هل كان سبيلهم إلا إلى القتل؟ قال نعم، كنت أعرض عليهم الإسلام فإن أبوا أودعتهم السجن (7). وهذا هو قول إبراهيم النخعي، وكذلك قال الثوري: وهو الرأي الذي نأخذ به (. وفي لفظ له: "يؤجل ما رجيت توبته" (9).

    والذي أراه أن العلماء فرقوا في أمر البدعة بين المغلظة والمخففة، كما فرقوا في المبتدعين بين الداعية وغير الداعية، وكذلك يجب أن نفرق في أمر الردة الغليظة والخفيفة، وفي أمر المرتدين بين الداعية وغير الداعية.

    فما كان من الردة مغلظًا كردة سلمان رشدي، وكان المرتد داعية إلى بدعته بلسانه أو بقلمه، فالأولى في مثله التغليظ في العقوبة والأخذ بقول جمهور الأمة وظاهر الأحاديث؛ استئصالاً للشر وسدًا لباب الفتنة، وإلا فيمكن الأخذ بقول النخعي والثوري، وهو ما رُوي عن الفاروق عمر.

    إن المرتد الداعية إلى الردة ليس مجرد كافر بالإسلام، بل هو حرب عليه وعلى أمته؛ فهو مندرج ضمن الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا. والمحاربة كما قال ابن تيمية نوعان: محاربة باليد، ومحاربة باللسان. والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد، وكذلك الإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان، وما يفسده اللسان من الأديان قد يكون أعظم مما تفسده اليد، فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد، والسعي في الأرض بالفساد باللسان أوكد (10).

    والقلم أحد اللسانين كما قال الحكماء، بل ربما كان القلم أشد من اللسان وأنكى، ولا سيما في عصرنا؛ لإمكان نشر ما يُكتب على نطاق واسع.

    إلا أن المرتد محكوم عليه بالإعدام من الجماعة المسلمة؛ فهو محروم من ولائها وحبها ومعاونتها. فالله تعالى يقول: " وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " (المائدة: 51)، وهذا أشد من القتل الحسي عند ذوى العقول والضمائر من الناس.

    سر التشديد في عقوبة الردة

    وسر التشديد في مواجهة الردة أن المجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده.

    ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية، ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم في نظر الإسلام؛ لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوي، وخطر على الضرورية الأولى من الضروريات الخمس التي حرص الإسلام على صيانتها عبر كل نسقه التشريعي والأخلاقي، وهي: "الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، والدين أولها؛ لأن المؤمن يضحي بنفسه ووطنه وماله من أجل دينه.

    والإسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه، ولا على الخروج من دينه إلى دين ما؛ لأن الإيمان المعتد به هو ما كان عن اختيار واقتناع. وقد قال الله تعالى في القرآن المكي: "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، وفي القرآن المدني قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).

    ولكنه لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يدخل فيها اليوم من يريد الدخول، ثم يخرج منه غدًا على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: "آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران: 72).

    ولا يُعاقِب الإسلام بالقتل ذلك المرتد الذي لا يجاهر بردته ولا يدعو إليها غيره، ويدع عقابه إلى الآخرة إذا مات على كفره، كما قال تعالى: "وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 217)، وقد يعاقبه عقوبة تعزيرية مناسبة.

    الإسلام يعاقب فقط ذلك المرتد المجاهر، وبخاصة الداعية للردة؛ حماية لهوية المجتمع وحفاظًا على أسسه ووحدته. ولا يوجد مجتمع في الدنيا إلا وعنده أساسيات لا يسمح بالنيل منها مثل: الهوية والانتماء والولاء، فلا يقبل أي عمل لتغيير هوية المجتمع أو تحويل ولائه لأعدائه وما شابه ذلك.

    ومن أجل هذا اعتبرت الخيانة للوطن وموالاة أعدائه بالإلقاء بالمودة إليهم وإفضاء الأسرار لهم جريمة كبرى، ولم يقل أحد بجواز إعطاء المواطن حق تغيير ولائه الوطني لمن يشاء ومتى يشاء.

    والردة ليست مجرد موقف عقلي، لكي يقتصر الحديث فيها على مناقشة مبدأ حرية الاعتقاد، بل هي أيضًا تغيير للولاء، وتبديل للهوية، وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى، ومن وطن إلى وطن آخر، أي من دار الإسلام إلى دار أخرى، فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التي كان عضوًا في جسدها، وينضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها، ويعبر عن ذلك الحديث النبوي بقوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه. وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ؛ فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة.

    ومهما يكن من جرمه فنحن لا نشق عن قلبه، ولا نقتحم عليه بيته في غفلة منه، ولا نحاسبه إلا على ما يعلنه جهرة بلسانه أو قلمه أو فعله، وهو ما يكون كفرًا بواحًا صريحًا لا مجال فيه لتأويل أو احتمال، فأي شك في ذلك يُفسَّر لمصلحة المتهم بالردة.

    إن التهاون في عقوبة المرتد المعالن الداعية يعرض المجتمع كله للخطر، ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه، فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره وخصوصًا من الضعفاء والبسطاء من الناس، وتتكون جماعة مناوئة للأمة، تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها، وبذلك تقع الأمة في صراع وتمزق فكري واجتماعي وسياسي قد يتطور إلى صراع دموي، بل إلى حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس.

    وهذا ما حدث بالفعل في أفغانستان مجموعة محدودة مرقت من دينها واعتنقت العقيدة الشيوعية بعد أن درس أفرادها في روسيا، وجُنِّدوا في صفوف الحزب الشيوعي، وفي غفلة من الزمن وثبوا على الحكم، وطفقوا يغيرون في هوية المجتمع كله بما تحت أيديهم من سلطات وإمكانات. ولم يسلم أبناء الشعب الأفغاني لهم، بل قاوم ثم قاوم، واتسعت المقاومة التي كونت الجهاد الأفغاني الباسل ضد المرتدين الشيوعيين الذين لم يبالوا أن يستنصروا على أهليهم وقومهم بالروس يدكون وطنهم بالدبابات ويقذفونه بالطائرات ويدمرونه بالقنابل والصواريخ، وهكذا كانت الحرب الأهلية التي استمرت عشر سنوات، وكان ضحاياها الملايين من القتلة والمصابين واليتامى والأرامل والثكالى، والخراب الذي أصاب البلاد، وأهلك الزرع والضرع.

    كل هذا لم يكن إلا أثرًا للغفلة عن المرتدين، والتهاون في أمرهم والسكوت على جريمتهم في أول الأمر. ولو عُوقب هؤلاء المارقون الخونة قبل أن يستفحل أمرهم لوقى الشعب والوطن شرور هذه الحرب الضروس وآثارها المدمرة على البلاد والعباد.

    محددات منهجية لا بد من مراعاتها

    الذي أريد أن أذكره في هذا المقام جملة أمور:

    الأول: أن الحكم بردة مسلم عن دينه أمر خطير جدا ويترتب عليه حرمانه من كل ولاء وارتباط بالأسرة والمجتمع، حتى إنه يفرق بينه وبين زوجة وأولاده إذ لا يحل لمسلمة أن تكون في عصمة كافر (11) كما أن أولاده يُفصَلون عنه؛ لأنه لا يكون مؤتمنًا عليهم، فضلاً عن العقوبة المادية التي أجمع عليها الفقهاء في جملتها.

    ولهذا وجب الاحتياط كل الاحتياط عند الحكم بتكفير مسلم ثبت إسلامه؛ لأنه مسلم بيقين، فلا يزال اليقين بالشك. ومن أشد الأمور خطرًا تكفير من ليس بكافر وقد حذرت من ذلك السنة النبوية أبلغ التحذير.

    الثاني: أن الذي يملك الفتوى بردة امرئ مسلم هم الراسخون في العلم من أهل الاختصاص الذين يميزون بين القطعي والظني، وبين المحكم والمتشابه، وبين ما يقبل التأويل وما لا يقبل التأويل، فلا يكفرون إلا بما لا يجدون له مخرجًا: مثل إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، أو وضعه موضع السخرية من عقيدة أو شريعة، ومثل سب الله تعالى ورسوله، أو كتابة ذلك السبِّ علانية، ونحو ذلك.

    ومثال ذلك ما أفتى به العلماء من ردة الكاتب الإيراني سلمان رشدي، ومثله رشاد خليفة الذي بدأ بإنكار السنة؛ ثم أنكر آيتين من القرآن في آخر سورة التوبة؛ ثم ختم كفره بدعوى أنه رسول الله؛ قائلاً إن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وليس خاتم المرسلين. وقد صدر بذلك حكم الردة عليه من مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي. لكن لأهمية ودقة هذا الموقف لا يجوز ترك مثله للمتسرعين أو الغلاة، أو قليل البضاعة من العلم ليقولوا على الله ما لا يعلمون.

    الثالث: أن الذي ينفذ هذا الحكم هو ولي الأمر الشرعي، بعد حكم القضاء الإسلامي المختص؛ الذي لا يحتكم إلا إلى شرع الله عز وجل، ولا يرجع إلا إلى المحكمات البينات من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما المرجعان اللذان يُرجَعُ إليهما إذا اختلف الناس، وهو الأمر الذي أكد عليه الله تعالى بقوله: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ" (النساء: 59).

    والأصل في القاضي في الضوابط الإسلامية أن يكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يتوافر فيه ذلك استعان بأهل الاجتهاد حتى يتبين له الحق، ولا يقضي على جهل، أو يقضي بالهوى فيكون من قضاة النار.

    الرابع: أن جمهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد قبل تنفيذ العقوبة فيه بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الصارم المسلول على شاتم الرسول": هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم. وبعض الفقهاء حدد مدة الاستتابة بثلاثة أيام وبعضهم بأقل وبعضهم بأكثر ومنهم من قال يستتاب أبدًا.

    وقد استثنى بعضهم الزنديق؛ لأنه يُظهِر غير ما يبطن؛ فلا توبة له وكذلك ساب الرسول صلى الله عليه وسلم لحرمة رسول الله وكرامته، فلا تقبل ممن يسبه توبة. وقد ألف ابن تيمية كتابه في ذلك.

    والمقصود بذلك الاستمهال، وتلك الاستتابة إعطاوه الفرصة ليراجع نفسه، عسى أن تزول عنه الشبهة، وتقوم عليه الحجة؛ إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص. أما إن كان له هوى، أو يعمل لحساب آخرين فليوله الله ما تولى.

    ومن المعاصرين من قال: إن قبول التوبة إلى الله وليس إلى الإنسان. ولكن هذا في أحكام الآخرة. أما في أحكام الدنيا فنحن نقبل التوبة الظاهرة، ونقبل الإسلام الظاهر، ولا ننقب عن قلوب الخلق. فقد أمرنا الله تعالى أن نحكم بالظاهر، وأن الله وحده يتولى السرائر. وقد صح في الحديث أن من قالوا لا إله إلا الله عصموا دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله: يعني فيما انعقدت عليه قلوبهم.

    ومن هنا نقول: إن إعطاء عامة الأفراد حق الحكم على شخص ما بالردة، ثم الحكم عليه باستحقاق العقوبة، وتحديدها بأنها القتل لا غير، وتنفيذ ذلك بلا هوادة يحمل خطورة شديدة على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم؛ لأن مقتضى هذا أن يجمع الشخص العادي الذي ليس لديه علم أهل الفتوى، ولا حكمة أهل القضاء، ولا مسئولية أهل التنفيذ، سلطات ثلاثًا في يده؛ يفتي – أو بعبارة أخرى يتهم، ويحكم، وينفذ، فهو الإفتاء والادعاء والقضاء والشرطة جميعًا.

    اعتراضات مردودة لبعض المعاصرين

    ولقد اعترض بعض الكتَّاب في عصرنا من غير أهل العلم الشرعي على عقوبة الردة بأنها لم ترد في القرآن الكريم، ولم ترد إلا في حديث من أحاديث الآحاد، وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في الحدود، فهم لذلك ينكرونها.

    وهذا الكلام مردود من عدة أوجه:

    أولاً: أن السنة الصحيحة مصدر للأحكام العملية باتفاق جميع المسلمين. وقد قال الله تعالى: "قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ" (النور: 54)، وقال أيضًا: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ" (النساء: 80).

    وقد صحت الأحاديث الآمرة بقتل المرتد، ونفذها الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين.

    والقول بأن أحاديث الآحاد لا يُؤخَذ بها في الحدود غير صحيح. فجميع المذاهب المتبوعة أخذت بأحاديث الآحاد في عقوبة شارب الخمر، مع أن ما ورد في عقوبة الردة أصح وأوفر وأغزر مما ورد في عقوبة شرب الخمر.

    ولو صح ما زعمه هؤلاء من أن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في الأحكام لكان معناه إلغاء السنة من مصدرية التشريع الإسلامي، أو على الأقل إلغاء 95% إن لم نقل 99% منها، ولم يعد هناك معنى لقولنا اتباع الكتاب والسنة.

    فمن المعروف لدى أهل العلم أن أحاديث الآحاد هي الجمهرة العظمى من أحاديث الأحكام، والحديث المتواتر الذي هو مقابل الآحاد نادر جدًا، وبلغت ندرته حد أن زعم بعض أئمة الحديث أنه لا يكاد يوجد، كما ذكر ذلك الإمام ابن الصلاح في مقدمته الشهيرة في علوم الحديث.

    إلا أن كثيرًا ممن يتناولون هذا الأمر لا يدركون معنى حديث الآحاد، ويحسبون أنه الذي رواه واحد فقط. وهذا خطأ. فالمراد بحديث الآحاد ما لم يبلغ درجة التواتر، وقد يرويه اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من الصحابة، ويرويه عنهم أضعاف هذا العدد من التابعين.

    وحديث قتل المرتد رواه جمع غفير من الصحابة، ذكرنا عددًا منهم، فهو من الأحاديث المستفيضة المشهورة.

    ثانيًا: أن من مصادر التشريع المعتمدة لدى الأمة مصدر الإجماع. وقد أجمع فقهاء الأمة من كل المذاهب، السنية وغير السنية، والفقهاء من خارج المذاهب على عقوبة المرتد وأوشكوا أن يتفقوا على أنها القتل، إلا ما رُوي عن عمر والنخعي والثوري ولكن التجريم في الجملة مجمع عليه.

    ثالثًا: أن من علماء السلف من قال إن آية المحاربة المذكورة في سورة المائدة تختص بالمرتدين، وهي قوله تعالى: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا..." (المائدة: 33). وممن قال بأن هذه الآية للمرتدين أبو قلابة وغيره (12).

    وقد نقلنا من كلام ابن تيمية أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد من المحاربة باليد وكذلك الإفساد في الأرض. ومما يؤيد ذلك أن الأحاديث التي قررت استباحة دم المسلم بإحدى ثلاث، ذكر منها "... ورجل خرج محاربًا لله ورسوله فإنه يقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض" كما في حديث عائشة، بدلاً من عبارة ارتد بعد إسلامه أو التارك لدينه.. إلخ، وهو ما يدل على أن الآية تشمل المرتدين الداعين إلى ردتهم.

    وفي القرآن يقول الله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" (المائدة: 54).

    وهذا يدل على أن الله هيأ للمرتدين من يقاومهم، من المؤمنين المجاهدين الذين وصفهم الله بما وصفهم به، مثل أبي بكر والمؤمنين معه، الذين أنقذوا الإسلام من فتنة الردة.

    وكذلك جاءت مجموعة من الآيات في شأن المنافقين، تبين أنهم حموا أنفسهم من القتل بسبب كفرهم عن طريق الأيمان الكاذبة، والحلف الباطل لإرضاء المؤمنين، كما في قوله تعالى: "اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً" (المجادلة: 16)، "يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ" (التوبة: 96)، "يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ..." (التوبة: 74). فالآيات تؤكد أنهم ينكرون أنهم كفروا، ويؤكدون ذلك بأيمانهم، ويحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر، فدل ذلك على أن الكفر إذا ثبت عليهم بالبينة، فإن جنتهم تكون قد انخزمت، وأيمانهم الفاجرة لم تغن عنهم شيئًا(13).

    أعـظم الردة: ردة السـلطان

    وأخطر أنواع الردة: ردة السلطان، ردة الحاكم، الذي يُفترَض فيه أن يحرس عقيدة الأمة، ويقاوم الردة، ويطارد المرتدين، ولا يُبقي لهم من باقية في رحاب المجتمع المسلم، فإذا هو نفسه يقود الردة، سرًا وجهرًا، وينشر الفسوق سافرًا ومقنعًا، ويحمي المرتدين، ويفتح لهم النوافذ والأبواب، ويمنحهم الأوسمة والألقاب، ويصبح الأمر كما قال الشاعر العربي:

    وراعي الشاة يحمي الذئب عنها *** فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!

    نرى هذا الصنف من الحكام، مواليًا لأعداء الله، معاديًا لأولياء الله، مستهينًا بالعقيدة، مستخفًا بالشريعة، غير موقِّر للأوامر والنواهي الإلهية والنبوية، مهينًا لكل مقدسات الأمة ورموزها، من الصحابة الأبرار، والآل الأطهار، والخلفاء الأخيار، والأئمة الأعلام، وأبطال الإسلام. وهؤلاء يعتبرون التمسك بفرائض الإسلام جريمة وتطرفًا مثل الصلاة في المساجد للرجال، والحجاب للنساء. ولا يكتفون بذلك، بل يعملون وفق فلسفة "تجفيف المنابع" التي جاهروا بها في التعليم والإعلام والثقافة، حتى لا تنشأ عقلية مسلمة، ولا نفسية مسلمة. وهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يطاردون الدعاة الحقيقيين، ويغلقون الأبواب في وجه كل دعوة أو حركة صادقة، تريد أن تجدد الدين، وتنهض بالدنيا على أساسه.

    والغريب أن بعض هذه الفئات – مع هذه الردة الظاهرة - تحرص على أن يبقى لها عنوان الإسلام، لتستغله في هدم الإسلام، ولتعاملهم الأمة على أنهم مسلمون، وهم يقوضون بنيانها من الداخل. وبعضها تجتهد في أن تتمسح بالدين، بتشجيع التدين الزائف، وتقريب الذين يحرقون لها البخور من رجاله ممن سمَّاهم بعض الناس "علماء السلطة عملاء الشرطة".

    وهنا يتعقد الموقف، فمن الذي يقيم الحد على هؤلاء؟ بل من الذين يُفتي بكفرهم أولاً، وهو كفر بواح كما أسماه الحديث النبوي الشريف؟ (14)، ومن الذين يحكم بردتهم وأجهزة الإفتاء الرسمي والقضاء الرسمي في أيديهم؟

    ليس هناك إلا "الرأي العام" المسلم، والضمير الإسلامي العام، الذي يقوده الأحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر، والذي لا يلبث - إذا سدت أمامه الأبواب، وقطعت دونه الأسباب - أن يتحول إلى بركان ينفجر في وجوه الطغاة المرتدين. فليس من السهل أن يفرِّط المجتمع المسلم في هويته، أو يتنازل عن عقيدته ورسالته، التي هي مبرر وجوده، وسر بقائه.

    وقد جرب ذلك الاستعمار الغربي الفرنسي في الجزائر، والاستعمار الشرقي الروسي في الجمهوريات الإسلامية في آسيا. ورغم قسوة التجربة وطولها هنا وهناك، لم تستطع اجتثاث جذور الهوية الإسلامية، والشخصية الإسلامية. وذهب الاستعمار والطغيان، وبقي الإسلام، وبقي الشعب المسلم.

    غير أن الحرب التي شُنَّت على الإسلام ودعاته من بعض الحكام "الوطنيين" العلمانيين والمتغربين في بعض الأقطار - بعد استقلالها - كانت أحدَّ عداوة، وأشدَّ ضراوة من حرب المستعمرين.

    الردة المغلفة: النفاق المعاصر

    ولا يفوتنا هنا أن ننبه على نوع من الردة لا يتبجح تبجح المرتدين المعالنين، فهو أذكى من أن يعلن الكفر بواحًا صراحًا، بل يغلفه بأغلفة شتى، ويتسلل به إلى العقول تسلل الأسقام في الأجسام، لا تراه حين يغزو الجسم، ولكن بعد أن يبدو مرضه ويظهر عرضه، فهو لا يقتل بالرصاص المدوّي، بل بالسم البطيء يضعه في العسل والحلوى. وهذا يدركه الراسخون في العالم، والبصراء في الدين، ولكنهم لا يملكون أن يصنعوا شيئًا أمام مجرمين محترفين، لا يمكِّنون من أنفسهم، ولا يدعون للقانون فرصة ليمسك بخناقهم. فهؤلاء هم "المنافقون" الذين هم في الدرك الأسفل من النار.

    إنها "الردة الفكرية" التي تطالعنا كل يوم آثارها؛ في صحف تُنشَر، وكتب تُوزَّع، ومجلات تُباع، وأحاديث تُذاع، وبرامج تُشاهَد، وتقاليد تروج، وقوانين تَحكُم.

    وهذه الردة المغلفة - في رأيي - أخطر من الردة المكشوفة، لأنها تعمل باستمرار، وعلى نطاق واسع، ولا تقاوم كما تقاوم الردة الصريحة، التي تحدث الضجيج، وتلفت الأنظار، وتثير الجماهير.

    إن النفاق أشد خطرًا من الكفر الصريح. ونفاق عبد الله بن أُبيِّ ومن تبعه من منافقي المدينة، أخطر على الإسلام من كفر أبي جهل ومن تبعه من مشركي مكة. ولهذا ذم القرآن في أوائل سورة البقرة: "الذين كفروا" (البقرة: 6) أي المصرحين بالكفر في آيتين اثنتين فقط، وذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية.

    إنها الردة التي تصابحنا وتماسينا، وتراوحنا وتغادينا، ولا تجد من يقاومها. إنها – كما قال شيخ الإسلام الندوي - ردة ولا أبا بكر لها.

    إن الفريضة المؤكدة هنا، هي محاربتهم بمثل أسلحتهم: الفكر بالفكر، حتى تنكشف أوراقهم، وتسقط أقنعتهم، وتُزال شبهاتهم بحجج أهل الحق.

    صحيح أنهم ممكَّنون من أوسع المنابر الإعلامية: المقروءة والمسموعة والمرئية، ولكن قوة الحق الذي معنا، ورصيد الإيمان في قلوب شعوبنا، وتأييد الله تعالى لنا، كلها كفيلة بأن تهدم باطلهم على رؤوسهم: "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ" (الأنبياء: 1، "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ" (الرعد: 17). وصدق الله العظيم
                  

05-01-2006, 08:19 AM

بابكر حامد احمد

تاريخ التسجيل: 10-06-2005
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل يجوز قتل المرتد ؟ (Re: بابكر حامد احمد)

    هزا المقال للشيخ يوسف القرضاوي من موقع أسلام اون لاين
                  

05-01-2006, 08:36 AM

بابكر حامد احمد

تاريخ التسجيل: 10-06-2005
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل يجوز قتل المرتد ؟ (Re: بابكر حامد احمد)

    للفائدة العامة

    من مقال أ . د محمد سليم العوا

    ومما يجدر بيانه هنا أن الفقهاء لا يستندون بصفة أساسية إلى آي القرآن الكريم في إثبات عقوبة للمرتد، وإنما مستندهم الأساسي في ذلك هو أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وإنما ترد آيات القرآن الكريم في بحث الفقهاء لعقوبة الردة بيانا لوعيد الله سبحانه وتعالى للمرتد بالعقاب الأخروي. ويقودنا ذلك لبحث حكم الردة، الذي قررته السنة النبوية، في ضوء الأصل الذي سبق تقريره من أنه "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، وفي ضوء الحقائق الأخرى المأخوذة من السنة أيضا، .

    قال هزا بعد أن اورد جميع الإيات التي وردة فيها الردة أو الخروج عن الجماعة . والمشار إليها في المقال الاساسي .
                  

05-01-2006, 08:47 AM

بابكر حامد احمد

تاريخ التسجيل: 10-06-2005
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل يجوز قتل المرتد ؟ (Re: بابكر حامد احمد)

    أ جمال البنا .. لا عقوبة للردة .. وحرية الاعتقاد عماد الاسلام

    والذكر المأثور للردة في التاريخ الإسلامي هو ردة القبائل العربية بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانت ردة هذه القبائل في حقيقة الحال رفض دفع الزكاة. ومن هنا كانت قولة أبي بكر المشهورة: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه للنبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه". وأكثر منها صراحة قولته في حربه لمن يفرق بين الصلاة والزكاة. فردة هذه القبائل كانت سياسية أكثر مما كانت دينية بالمعنى الذي نفهمه. ولهذا لا نجد استشهادًا بها في الكتب الفقهية تأييدًا لدعوى قتل المرتد.

    أما فكرة الارتداد كنوع من ممارسة حرية العقيدة فقد كانت مستبعدة وقتئذ، ومن هنا فحتى الفقهاء أنفسهم لاحظوا هذه النقطة، وفرقوا بين القبض على المرتد قبل أن يجاهر بالمحاربة أو بعدها.

    وكان يجب على الذين يعالجون هذه النقطة في العصر الحديث أن يفطنوا لها، فإذا أرادوا عقوبة فعلى ما يقترفه المرتد من حرب أو خيانة للبلاد، ومن هنا فإن الجريمة تكون (الخيانة العظمى) وليست الردة.

    وكان يجب أن تقف أقوال الفقهاء عند هذا الحد من آيات القرآن، وتجاوز الفقهاء لروح الإسلام في هذا الصدد لم يكن له مبرر.

    وهناك حالة تطبيقية في الآونة المعاصرة؛ حيث كانت صحيفة "الأهرام" المصرية قد وافتنا في 6–7-19977 بنبأ عن موافقة مجلس الدولة على مشروع قانون بإقامة حد الردة، ويقضي هذا القانون بإعدام المرتد عن الإسلام عمدًا بقول صريح أو بفعل قطعي، والسجن عشر سنوات لمن ارتد أكثر من مرة، وعقوبات رادعة إذا وقعت الردة من قاصر.

    وفي هذا القانون تثبُت الردة بالإقرار مرة واحدة أو بشهادة رجلين. ومن الآثار المترتبة على هذا الحكم منع المرتد من التصرف في أمواله، وهذه هي عناوين الخبر، وقد تضمنت التفاصيل أنه إذا كان "الجاني" -على حد تعبير صحيفة الأهرام- قد أتم السابعة، ولم يتم العاشرة؛ فللقاضي أن يوبخه في الجلسة أو يأمر بتسليمه إلى أحد والديه أو إلى ولي نفسه أو بإيداعه إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية الخاصة بالأحداث، وإذا كان قد أتم العاشرة ولم يتم الخامسة عشرة فإنه يعاقب بضربه بعصا رفيعة من عشر إلى خمسين ضربة... إلخ.

    وينص مشروع القانون بأن كل من حرض غيره على ارتكاب ما يكون جريمة الردة، يعاقب بالعقوبة المقررة للشريك إذا لم يترتب على هذا التحريض أي أثر، ويعاقب بنفس العقوبة على التحريض المبين بالقانون.

    ولا تسري على الجريمة الحدّية الأحكام المقررة في قانون الإجراءات الجنائية في شأن سقوط العقوبة بانقضاء المدة، ولا يجوز إبدال العقوبة الحدية ولا العفو عنها. كما يحظر على المتهم بالردة التصرف في أموال أو إدارتها، وكل تصرف أو التزام يصدر منه خلال فترة اتهامه يكون معلقًا على البتّ في أمره.

    إن هذا الاقتراح بقانون مثَّل آنذاك ردة تشريعية حقيقية لعلاج مشكلة إسلامية وهمية. ولو أنه كان قد صدر فما كان صدوره إلا لحساب المغفلين والجهلة وأعداء الإسلام؛ المغفلين الذي يظنون أنه يحقق خيرًا في حين أنه شر ماحق، والجهلة الذين لم يعلموا تجربة التاريخ في الحديث والقديم، وكيف أن كل حجْر على الفكر يؤخر البشرية، ويؤخر الفكرة المطلوب حمايتها. وأن أي قانون يوضع لذلك إنما تستفيد منه السلطة القائمة، والأوضاع المقررة في هذا العصر الذي تصل فيه شهوة الحكم بحيث يتجسس الحاكم على صديق عمره، ويحتفظ بأسرار وصور ما يحدث في غرفات النوم. يقدم هذا القانون سلاحًا للاتهام والتحقيق والتشهير بكل معارض، ويُمكن أن يُستخدم لسلب الأموال، أو انتزاع الأبناء الأبرياء، الذي حماهم القانون بما لم يَحمِهم به أي تشريع آخر في العالم، ويزج بهم إلى معاهد تخريج المجرمين التي تسمى "مؤسسات الرعاية الاجتماعية".

    وأما أعداء الإسلام فكانوا سيقولون: إن المسلمين إنما يقرون لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة تطبيقًا لقانون العقوبات.. ليس إلا.

    وبعد كل هذا، أفلم يخطر للذين وضعوا هذا المشروع أنه قد يأتي بعكس ما أريد منه؟

    إن الاتهام يكسب المتهم تعاطف الجماهير، فإذا رفض هذا المتهم "الاستتابة" المزعومة، وفضَّل أن يُقتل في سبيل رأيه –كائنًا ما كان– فإن هذا الوقوف سيجعله شهيدًا من شهداء حرية الرأي، وسيطرز حواشي الإلحاد بالبطولة؛ الأمر الذي حدث بالفعل بالنسبة لضحايا المحاكمات البابوية في المسيحية.

    ولا يمكن للاستتابة أن تصل إلى أبعد من هذين، ما دامت صادرة من السلطة. إن الاستتابة للرجال هي كبيت الطاعة للنساء، وفي الوقت الذي يتمرد فيه النساء -ولهن الحق- على بيت الطاعة، يريد المشرِّع أن يُوجد بيت طاعة للرجال.

    حرية الفكر غاية شرعية

    رأينا أن تمحور الفكر الإسلامي حول "الله" جعل المبدأ الأعظم في المجتمع الإسلامي هو "الحق"، وأن الحرية تنطلق من الحق وتعد ممارسة له، وهو أمر صحيح، ولكنه في الوقت نفسه اقتضى استثناء حرية واحدة من هذا النطاق، وهذا الاستثناء ليس على سبيل التعارض والافتيات، ولكن على أساس أن هذه الحرية وحدها هي التي تكفل التفهم السليم لمبدأ الحق، تلك الحرية هي حرية الفكر والاعتقاد.

    والحد الوحيد الذي تنتهي عنده هذه الحرية هو ذات الله تعالى وكنهه؛ لأن التفكير الإنساني ليس مهيّأ لمعالجته، ولم يستطع كل الفلاسفة والمفكرين الذين حاولوا هذا من أربعة أركـان الأرض، ومن سقراط حتى الآن التوصل إلى طائل من جراء الخوض فيه، ومن هنا فإن الخطر الوحيد على التفكير الذي جاء في أثر إسلامي هو التفكير في ذات الله، وباستثناء هذه النقطة فإن الإسلام يطلق حرية الفكر دون قيد أو شرط.

    والقضية التي كان على الفكر الإسلامي أن يجابهها هي أنه إذا كان الحق هو المبدأ الأعظم، فكيف يمكن تفهم هذا الحق والاقتناع به -أو بالتعبير الديني الإيمان به-؟ فإذا كان الإيمان بالحق لا يُفرض فرضًا، ولا بد فيه من الاقتناع والاطمئنان والطواعية، فلا مناص إذن من تهيئة مناخ من حرية الفكر ليمكن أولا تفهم "الحق" ومعالمه وأصوله وما يقتضيه أو ينبني عليه... إلخ، وثانيًا الاقتناع بصحة ذلك وسلامته إلى درجة الإيمان.

    وهكذا نجد أن حرية الفكر هي الطريق إلى الحق، ومن هنا فلا يمكن بداءة تقييدها بالحق؛ لأن هذا مصادرة لها، ومناقضة لطبيعتها. كما أن فكرة حماية التفكير من أن يضل وأن ينتهي إلى نتائج خاطئة أو إلى متاهات هي مما لا يمكن التمحك بها؛ لأن أي سماح بفرض قيود أو حدود بتعلة حماية الفكر لن يقف عند هذه الدرجة المزعومة؛ لأن حدود الحماية تتوقف على فهم من يفرض هذه القيود لمضمون الفكر. ويغلب أن يؤدي ضيق الأفق وسيطرة المصلحة إلى فرض أسوأ صور القيود في كل حالة يُسمح بها، كما يؤكد ذلك تاريخ حرية الفكر.

    ولذلك فإن الإسلام استبعد أي صورة من صور القيود، ولم يوقفه عن ذلك خوف الضلال والإلحاد؛ لأن البديل عن هذا أسوأ منه؛ فعندما نفتح الباب على مصراعيه لحرية الفكر، ويضل البعض نتيجة لذلك، فإن من يؤمن فسيؤمن عن بينة واقتناع. أما إذا سمحنا بالقيود والتحكم فسيكون الإيمان على دخل، ولا قيمة لهذا الإيمان، حتى وإن كثر عدد المؤمنين به.

    والنصوص التي توجب حرية الفكر والاعتقاد عديدة، ولكن قد يكون أهم من ذلك أن التصور الإسلامي للمجتمع يفترض وجود الحرية كجزء لا يتجزأ من بنية هذا المجتمع، ليس فحسب لما قدمناه من أن الإيمان بالعقيدة لا يمكن أن يتم إلا في بيئة حرة، وبعد اقتناع كامل، ولكن أيضًا لأن الإسلام يبني الحياة الإنسانية بصفة عامة على أساس أنها اختبار واختيار بين الخير والشر، وهذا بدوره يفترض ويتطلب وجود قوى الشر والغواية، وحرية الإنسان في الانسياق أو المقاومة، وليس هناك ما هو أكثر صراحة من النصوص القرآنية في هذا، فإن إبليس ما كان يستطيع أن يفتن الناس لولا أن الله تعالى سمح له بذلك، بل ومنحه القوى والوسائل اللازمة. فقد ذكر القرآن الكريم على لسان إبليس: "قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" (الأعراف: 14 - 17)، كما قال في آية أخرى: "قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً" (الإسراء: 62 - 65)، وهو معنى تكرر بنصه تقريبًا في سورتي "الحجر" و"ص". فافتراض عدم وجود هذه القوى وحريتها في العمل وحرية الإنسان تجاهها في الاختيار يخالف تصور الإسلام للمجتمع واستخدامه للثواب والعقاب.. الجنة والنار، بل إنه يقضي على مبرر وجود هذه الحياة الدنيا الذي يعود إلى الإغواء من ناحية، والضعف البشري من ناحية أخرى، وسمح الله تعالى لها أن تكون مسرحًا لعمل الشيطان وإغوائه حتى يوم القيامة. فإذا وجدت القيود والحمايات التي تستبعد آثار هذا الإغراء والإغواء، وإذا أقيمت "خيمة" من سد الذرائع وإغلاق الطريق أمام وسائل الإغراء والإغواء، فلن يكون هناك اختبار، ولن يكون هناك اختيار، ولا يكون هناك ثواب أو عقاب، وهذا يختلف اختلافًا جذريًا بل هو يناقض مناقضة تامة التصور الإسلامي للمجتمع الإنساني، هذا المجتمع الذي بدأه وتسبب فيه اختيار آدم، ثم جعله الله تعالى مسرحًا للاختيار الحر طوال المدة التي أُنظِر فيها الشيطان حتى يوم القيامة، وسُمِح له فيها بالعمل، وتم تسليح المؤمنين في مواجهة هذا الإغواء بالإيمان والعقيدة، وكان يمكن لله تعالى ألا يسمح له أصلاً، وأن يهدي الناس جميعًا... إلخ.

    وكما أن هذا التصور واضح في تقبل القرآن لوجود الكثرة الغافلة، والباطل المستشري؛ حيث يقول تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" (يونس: 99). والقرآن يوجه الرسول في شيء من الصراحة حول هذه المسألة فيقول: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" (آل عمران: 12، كما قال تعالى: "وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (الأنعام: 35)، كما قال تعالى: "إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ" (النحل: 37)، وكذا قوله تعالى: "إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ" (القصص: 56).

    أما الآيات التي تؤيد حرية الاعتقاد فهي أكثر من أن يستشهد بها في هذا المقام الموجز، لكن يُستفاد منها عدة أمور على النحو التالي:

    ( أ ) أن يكون اكتساب الإيمان بالدعوة والحوار دون ضغط أو قسر أو استخدام سلطة أو جاه أو طلب معجزة أو تحقيق مطالب دنيوية.

    (ب) حرية الدعاة في الدعوة، وأن منعهم نوع من الصد والعدوان.

    (جـ) حرية الناس في الاستجابة للدعوة أو رفضها.

    وقد أظهرت آيات عديدة أن الإيمان هداية، والاختلاف قضاء، وكله من عند الله. وقد أمر الله تعالى نبيه بأن "يُعرِض" عن المشركين والجاهلين؛ لأنه لا إكراه في الدين، فمن آمن فلنفسه، ومن ضل فعليها، وأن الله تعالى وحده هو الذي سيحكم بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، والآيات في هذه المعاني تجاوزت العشرات؛ وهو ما لا يدع شكًا في أنها أصل مؤكد من الأصول الإسلامية.

    منهج القرآن في التعامل مع الآخر

    وقد وضع القرآن النهج الذي يجب اتباعه إزاء الآراء المخالفة، فإنه يذكر دعاوى المشركين مهما كان فيها من إفك أو شرك أو كفر أو وقاحة، ثم يرد عليها بالحجة والمنطق؛ فهناك مثلاً قوله تعالى: "وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا" (البقرة: 116)، وقوله تعالى: "قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ" (آل عمران: 181)، وقوله تعالى: "فَقَالُوا أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً" (النساء: 153)، وقوله تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ" (المائدة: 64)، وقوله تعالى: "قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ" (المائدة: 73)، وقوله تعالى: "قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ" (النحل: 101)، وقوله تعالى: "وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى" (سبأ: 43)، وقوله تعالى: "قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ" (يس: 1، وقوله تعالى: "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً" (الفرقان: 5). وأمثال هذه الآيات عديدة، ويضيق المجال عن الاستشهاد بها جميعًا. ولم يقل القرآن في حالة واحدة: اقطعوا ألسنتهم أو اسجنوهم، أو وقعوا عليهم كذا وكذا من العذاب والعقاب، كما فعل في حالة السرقة والزنا والإفك... إلخ، كما لم يتجاهل هذه الدعاوى؛ بدعوى ما يمكن أن يثيره ذكرها من شك، وإنما يذكرها ثم يفندها بالحجة والمنطق والبرهان.

    أما ما يُثار عن "الجهاد" وتلك الشبهة الضاربة أطنابها من أن الإسلام انتشر بالسيف، فليس هناك ما هو أبعد عن الحقيقة منها؛ إذ لو كان الهدف من الجهاد هو فرض الإسلام على الناس لما جاز أن تُقبل منهم الجزية، ولاعتبرت أسوأ أنواع الرشوة، ولوجب أن تُوجَّه أشد الضربات وأولاها إلى دعاة الأديان الأخرى من كهان وأحبار، وأن تُهدم هدمًا دور العبادة من كنائس أو معابد أو أديرة. ولكن الجهاد الإسلامي سلك نقيض ذلك؛ فقد أبقى من يشاء على دينه، ورفض أن يُفتن أحد عن دينه، وقدم نوعًا من الحصانة والحماية للكهان والأحبار والمعابد والكنائس، ونهى نهيًا باتًا عن المساس بهم وبها.

    وما لم يفهمه بعض الناس هو أن الإسلام بجانب أنه عقيدة دينية خالصة بين الفرد وربه، فإنه كذلك نظام اجتماعي وسياسي يقوم على العدالة والمساواة وحرية الفكر والاعتقاد، وكانت النظم القائمة موغلة في طغيانها، عريقة في طبقيتها، قائمة على الاستعلاء والظلم والتحكم، ولم تكن هذه النظم لتسمح لا بظهور الإسلام كدين وعقيدة، ولا بدعوته للعدل والمساواة والحرية. فلم يكن ثمة مناص من مجابهة هذه النظم بالقتال؛ لأن تجربة التاريخ وسابقة الإسلام نفسه وما قُوبل به من كفار قريش حتى اضطر إلى السرية حينًا، والهجرة حينًا أخر - تؤكد أن الطبقات المميزة والفئات الحاكمة لا تتنازل طواعية عن امتيازاتها. فالجهاد الإسلامي كان في حقيقة الحال حربًا في سبيل حرية الاعتقاد، سواء كان بالنسبة للمسلمين أو غيرهم، وتحريرًا للجماهير والشعوب والسواد المسترَق والمستعبَد في إسار الجهالة والفاقة والنظم الطاغية، وإحلالاً لشرعة الكتاب والميزان محل شرعة الارستقراطيات والعروش والطاغوت.

    ولو لم تكن الفتوح الإسلامية تحريرًا للجماهير وإقامة للعدالة لما حارب المسلمون حرب الاستشهاد؛ فإن الإنسان لا يضحي بنفسه في سبيل الدنيا أو المغانم، ولما استطاع الفتح الإسلامي أن يمضي قدمًا وأن يشق طريقه ويرسخ أقدامه. وكان من أسهل الأمور أن تثور الجماهير على الجيوش الإسلامية التي كانت قليلة العدد رثة العدة والعتاد، مُنبتَّة عن قواعدها، وقد كان المسلمون الذين دخلوا الأندلس بضعة عشر ألفًا، وكان من المستحيل أن يظلوا ثمانية قرون لولا ما جاءوا به من قوتهم، والإضافة التي تُبقي عليهم.

    ومع أن كلمة "جزية" تصطحب لدى بعض الكتاب، أو تثير في النفوس تداعيات لمعانٍ سيئة، فإنها في حقيقة الأمر بعيدة عن ذلك، فقد اشتُقت من "جزى" يجزي جزاء، مثل قضى يقضي قضاء. وفي التنزيل نجد قوله تعالى: "لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا" (البقرة: 4، وفي الحديث المشهور: "تجزي عنك ولن تجزي عن أحد بعدك" (رواه البخاري). فمفهوم الجزية هو "المقابل"، وتلك هي حقيقتها. فهي مقابل ما يقدمه المجتمع الإسلامي من حماية لغير المسلمين، مع إعفائهم من الاشتراك في عبء الدفاع أو الانخراط في الجيش. ومن أجل هذا فإنها لا تُفرض على النساء والولدان، ولا على من يعجز عن الكسب من أهل الذمة، بل قد يُفرض لهم من بيت مال المسلمين عطايا ورواتب لما ألمّ بهم من عجز، فليس فيها ما يثير أي معنى سيئ. وهي بعد وسيلة للجمع بين الحرية والعدالة. وللجزية مثيلات في المجتمع الأوروبي والأمريكي الحديث.

    ومن ناحية أخرى فمن الثابت أن مشروعية القتال في الإسلام إنما نشأت أول ما نشأت للدفاع عن حرية العقيدة؛ فالجهاد هنا في صف الحرية ولحماية الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، وليس ضد الحرية أو كبتها، وهو واضح من أول آية أذنت بالقتال؛ حيث قال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" (الحج: 39 - 42).

    وبقية الآيات التي تأذن بالقتال لا تختلف عن هذا الموضوع؛ فكلها حماية للعقيدة وصدّ للفتنة. وقد تضمنت أشد الآيات -وهي التي يطلق عليها بعض المفسرين آية السيف- نصًا تاليًا يثير الإعجاب، حيث يقول تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ" (التوبة: 6). ومن النادر أن نجد مثل هذا النص وسط آية للقتال إلا إذا كان هذا القتال حماية لحرية العقيدة، وأن السيف فيها لا يوجه للإرغام على الاعتقاد. كما أن من النادر أن نجد توجيهات للداعية في مثل صراحة ووضوح الآيات "لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ" (الغاشية: 22)، وقوله تعالى: "وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ" (الأنعام: 107). إن النبي -عليه الصلاة والسلام- مبلغ وشهيد، ولكنه ليس مسيطرًا ولا حتى وكيلاً.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de