الوطن ، يتراءى لي كجريح ينزف حتى الموت أمام أعين المسعفين ... أتصوره أباً يتضوّر جوعا أمام عقوق الأبناء ولامبالاتهم ... أتصوره أماً تضحي بآخر قطرة حليب من ثدييها وقلبها على جناها وقلب جناها على الحجر ... أوصال جسد الوطن تتآكل ، وتتقطع ، وحرّاس الوطن يبيعونها للخوف بلا ثمن ... الموت يتلذذ بالنظر إلينا ويمارس ساديته المعهودة ، فلا يأخذنا إليه ، ولا يمنح الشفاء فرصة لزيارتنا ... نسينا الهتافات القديمة ، نسينا من دفناهم تحت التراب ، فخيّل إلينا أنه في مقدرونا دائما أن نرحل ، وأننا سنجد الدفء ذاته أينما حللنا ... نحن نعاني من حالة خمول ، وحالة ركود ، وحالة خوف ، وحالة انهزام ... وعندما نصرخ ، يكون صراخنا بكاء ، وعويلا ، ونياحا ، وحسرة ... نرى بأم أعيننا خبث أعدائنا ، نرى غدرهم ، ثم لا ندفعهم عنّا ... بل ننتظرهم ، بل ننتظرهم ... نبتسم في وجه العدو كابتسامة طفل في وجه قاتله ظنا منه أنه آتٍ ليخلصه من ظلمات الليل ، فإذا به يجهز عليه... العبودية تجثم فوق إنسانيتنا ، ووقاحة الإقطاع تنهش اللحم والعظم والكرامة ، والاستغلال يتدثر بثياب النبل والرفاهية فيمتصنا ويمتص عرقنا ثم لا يمنحنا إلا الهوان ، ونحن لا نملك إلا أن نصدّق ، وأن نستسلم ، وأن نرسل ابتسامة بلهاء في وجه هذا البؤس المخيم علينا ...
هل نحن قوم عمون ، لا نرى ما يحيق بنا ، وبوطننا ؟ أم أننا نستمتع باجترار الحزن وممارسة النواح ؟
هل هي جرثومة الهزيمة والانكسار تسيطر علينا منذ الأزل فلا تمنحنا فكاكاً ؟ هل هي ورثة قديمة آلت إلينا من أعماق تاريخنا ؟ كيف تخلينا عن كل موروثاتنا إلا جرثومة الهزيمة والانكسار هذه ... كيف جاز لنا أن نغني للبطولات ، وأن نضخّم التاريخ ، وأن نمجّد الضوء في شموسنا الغاربة ...السنا القائلين :
نحن أبناء ملوك في الزمان والقائلين : حين خطّ المجد في الأرض دروبا عربا نحن حملناها ونوبة والقائلين : ما لهم منها تباروا هاربين
ثم : كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية ونفوسهم فاضت حماسا كالبحار الزاخرة من أجلنا ارتادوا المنون ولمثل هذا اليوم كانوا يعملون
أي الأيام عنيناه في غنائنا ؟ هل هو يوم الانكسار والهزيمة ؟ يوم الموت البطيء ، ؟ يوم أن هان علينا الوطن حتى حسبناه مجرد ضيف يرحل عنا بعيدا ليحل محله ضيف جديد ؟؟؟
02-28-2006, 06:50 AM
ودقاسم ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
ما معنى أن نغني لتاريخ لم تتواصل حلقاته ؟ كيف تمكنّا من إقناع أنفسنا بأننا امتداد للذين صدّوا الهجمات يوم استهدف الوطن ؟ وأننا أبناء الفاتحين ، وأبناء من طردوا الاستعمار ؟ ثم كبف تناسينا قدرتنا على هزيمة الطاغية في اكتوبر 1964 ؟ وكيف كنا قادرين على انتزاع كرامتنا ممن امتهنها في سنوات طوال امتدت من مايو 1969 حتى مايو 1985 ؟؟ كيف انتصرنا في صبح 21 أكتوبر 1964 ثم عدنا لنتمطى في أسرتنا في اليوم التالي ، لنترك أمرنا في مهب ريح القدر ... كيف دفنّا الأمال بهذه السرعة ، كيف حولنا نشيدنا الكبير ( الملحمة ) إلى قطعة أثرية محفوظة في أرشيف الإذاعة ... كيف وقفنا مذهولين صبيحة 25 مايو 1969 ، كيف انتظرنا أن تقودنا أقدارنا فقط إلى واقع جميل ... كيف استقبلنا جلادينا ببرود يشبه الرضا ، وكيف مكنّاهم حتى مكثوا فينا أعواما عديدة ... ألم نقل من قبل : نحن في الشدة بأس يتجلى ..
وأي شدة أشد من مايو ؟
02-28-2006, 07:48 AM
ودقاسم ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
ولمّا الليل الظالم طوّل ، فتحنا أذرعتنا لليل أطول منه ، وأظلم منه ... وبقينا نجتر أحزاننا ، جربّن كل أنواع الهوان ، وكنبت شيطاني وُلد فينا التجسس ، والخسة ، والنذالة ... وشهدنا بعضنا يعذّب بعضنا ، وشهدنا جامعاتنا تغلق بالضبة والمفتاح لشهور عديدة ، ولم يعد أول مارس يوما لبداية الاختبارات النهائية في جامعة الخرطوم .. والحقيقة أننا حاولنا ، لكن أسناننا لم تكن حادة لتقطع القيد ، أو لتعض الظالم فتقطع إحدى أذنيه ، فلا يسمع هتاف جوقته ...
03-01-2006, 01:37 AM
ودقاسم ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
وكانت تلك أول جرثومة للانقلابات العسكرية/ العقائدية ، والتي يشارك المدنيون في التخطيط لها .. وذاق العسكر طعم السلطة ، وسكنى البيوت الفاخرة ، وامتطاء السيارات الفارهة ، فكان الداء الذي سرى في نفوس الكثيرين ،،، لماذا لا أكون أنا ؟ لماذا لا أمتطتي دبابتي ، فإما موت ، وإما هذه الأبّهة ...
ودقاسم ياممكون ويامغبون.. عبث كلها الحياة فما أعجب الا من راغب في ازدياد..
ياصديقي هون عليك.. أبدأ فأقول ليس كل الماضي حلوا ولا كل الحاضر يستحق سخطنا ولا كل المستقبل سيأتي قاتما كما نخاف.. ما عنيت السياسة ولا الساسة.. صدقني أنا أذكر يوم كنا فى السريحة واحدة من قرى الجزيرة وكانت منسية وخارج التاريخ والجغرافيا، تأتينا الماء ستة أشهر ونردها من الجداول والترع ستة أخرى.. يوم دخل أول بوكسي كنت ومعي كل صبيان الحلة نجري خلفه أينما نزل وحل.. كانت مدرستنا الابتدائية مشيدة منذ زمن الانجليز فى سنة ستة وأربعين.. لكن المتوسطة كانت في كاب الجداد تجمع فتياننا وفتيان عشرين قرية أخرى أو تزيد.. حدثنا أستاذ العمدة أنهم كانوا في زمانهم يأتون من أربعين قرية ليقبل منهم فقط أربعون طالبا.. اذا حدث وأدخلت واحدة من القرى طالبين، فهذا يعني ان هناك قرية حرمت من إدخال عبقريها الفرد..
أنا متأكد ان هنالك قرى فى دارفور تعيش فى القرن الواحد والعشرين أياما أسوأ من السريحة فى عام 1977... أما عن الجنوب، فهذه تعيش ماقبل التاريخ..
دولتنا أكذوبة.. نحن شعب عظيم ودولة تافهة كما قال عبقرينا الفرد... لا تغرنك صيحات الساسة حكومة ومعارضة... لكن من يريد أن يرحل الى تشاد منا؟ او النيجر، وان شئت فطوف حتى غانا وفرغانة.. أعدك لو تناوشتنا السيوف وفرقونا أيدي سبأ، وأرجعونا القهقرى للعصر الحجري او قريبا مما تفاخر به كلينتون يوما وبأنهم عزلونا عن العالم المتحضر.. لو فعلوا بنا الأفاعيل.. فغدنا أفضل من أمسنا... لقد حكمنا الخليفة التعايشي وكان النجومي في صفوفه مستعدا للموت حتى آخر رجل من أجل الفكرة.. نعم مات عبدالله ود سعد بحسرة المك نمر وتكاثرت النكبات والوقعات لكن ليس من طعان ذوي القربى نخاف، فذاك سيف ذقنا حزاته وجزاته ونبواته... لئن أتى الهامش ثائرا على الشمال والقلب ليجدن منا ما يلم شعثه ويهذب وعره ويهديه سبل التمدن بلا من ولا أذى.. فرانسيس دينق قال إن واحدة من زوجات أبيه، شمالية، علمت أمهاته الطبيخ ونقلت تحضر البيت الشمالي للبيت الجنوبي.. ولئن تفرقت بنا دروب الأربعين قبيلة قبيلة فلنتذكر أيام الهمباتة والفزع والطيب ودضحوية والعمد وشيوخ الخطوط.. ابتسم عزيزي ودقاسم... ما الأمم الغازية التي نخاف.. دخل كتشنر بالسنابك ونشأ الامام عبدالرحمن وهو يرى الخواجات الحمر أبين عيونا زرق يغدون ويروحون.. ماأنت بأكثر غبينة منه.. لكنه هادن ولاين وساير وأعطى سفر الولاء وسيف المهدي وشرب الشاى مع الحاكم العام وكان يأكل الزلابية.. لوكنت انا واحدا من رجالات الأنصار في زمانه لمت بسيفي أو رمحي او تحثيت الحنظل، ومخدوعا أموت!
03-01-2006, 02:43 AM
المسافر المسافر
تاريخ التسجيل: 06-10-2002
مجموع المشاركات: 5061
Quote: .. نعم مات عبدالله ود سعد بحسرة المك نمر وتكاثرت النكبات والوقعات لكن ليس من طعان ذوي القربى نخاف، فذاك سيف ذقنا حزاته وجزاته ونبواته... !
هيه بأي النطاقين إتزرنا الرماد الشح أو سربال الدم الموشح ليس هناك مكان للورود على ردن الكفن أو مقام للتقريح وسرد المناقب إنما طريق سريع تكاد تلهبه المطايا لهباً وغبار لا يستقر فيم الإلتفات واليقين يدرك معنى السراب ولحظة ما بين الإندفاع والإنكفاء بسعر الخمود ليس بحرا أو عدو أو أشرعة مكسرة إنما فور ومور كياجوج وماجوج ولا يصح لك السؤال من أي السواد نبت الفتى فهو قاهرك يامطيع وناقلك إلى الموات إن لم تمت لا محالة أو لا محالة إلى أيهما أعتصرت خلاصتك في قرارة قارورة فوق منزلق أو هكذا مستقر
03-01-2006, 07:50 AM
ودقاسم ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
Quote: هيه بأي النطاقين إتزرنا الرماد الشح أو سربال الدم الموشح ليس هناك مكان للورود على ردن الكفن أو مقام للتقريح وسرد المناقب إنما طريق سريع تكاد تلهبه المطايا لهباً وغبار لا يستقر فيم الإلتفات واليقين يدرك معنى السراب ولحظة ما بين الإندفاع والإنكفاء بسعر الخمود ليس بحرا أو عدو أو أشرعة مكسرة إنما فور ومور كياجوج وماجوج ولا يصح لك السؤال من أي السواد نبت الفتى فهو قاهرك يامطيع وناقلك إلى الموات إن لم تمت لا محالة أو لا محالة إلى أيهما أعتصرت خلاصتك في قرارة قارورة فوق منزلق أو هكذا مستقر
ليتنا نتمسك بعصا الترحال حتى نبلغ المستقر
03-01-2006, 04:00 AM
ودقاسم ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
الأخ الكريم محمد الصائم لك التحية والشكر وأنت تمنحنا دفقة الأمل هذه .. حقيقة ينتابني شعور عميق بأن السودانيين الذين يقومون بدورهم الوطني كاملا هم قلة ، وأن الكثير منهم يمرون بهذه الحياة دون أن يمنحوا الوطن طرفة عين .. وأنّ فعلنا الإجمالي يعيقه الكثير من قصورنا ، وانتظارنا الدائم لمن يقوم بدور وطني نيابة عنّا .. وأننا نسعى دائما لحل مشاكلنا الشخصية في إطار الهروب والبدائل السهلة ... هي تراكمات لكثير من الاحباطات ، ونحن نتوق دائما إلى الأمل لكننا لم نحصد حصادا طيبا منذ قيام هذا الكيان المسمى بالسودان ،،، وأنا أردد : نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
04-09-2006, 02:39 AM
ودقاسم ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
والمشكلة أن ماضينا دائما أفضل من حاضرنا ... سمعت كلاما يقول : ما بكيتم من شئٍ إلا وبكيتم عليه ! قلت أن هذا الكلام يناقض الكثير مما تعلمناه من قواعد العلم . قلت أن المستقبل لابد أن يكون أفضل ... لكنه في كل مرة يفاجئنا بما هو أسوأ ... ثمّ : إلى متي يستمر بنا الحال؟ وإلى أين المآل ؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
ودقاسم
المسافر
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست