طوق الحمامة .... ابن حزم الاندلسى

Quote: مساجلة مع ابن حزم الاندلسي حول الالفة والآلاف‚‚! ــــ الخضر هارون على الطائر الميمون اتجهت بنا الحافلة السريعة صوب مدينة كوستي وقد شاء السائق الحاذق ان يستبدل صخب السيارات (والقومسيونجية) والباعة الجوالة في السوق الشعبي بصخب جهاز الاستريو فشنف آذاننا بما شاء هو من الغناء والموسيقى رغم انوفنا وآذاننا معا! ولما استوت الحافلة على الجادة المستهلكة المرقعة وهي تطوي الفلاة طيا نحو المدينة البعيدة‚ اجلست الى جانبي شيخ فقهاء الظاهر ابا محمد علي بن احمد الاندلسي وهو يومئذ في نحو الخامسة والستين يعتمر عمامة داكنة سمراء تحيط بوجهه الصبوح لحية كثيفة لكنها متناهية التنسيق ويضع فوق جلبابه معطفا تزين حافتيه زركشة صنعت من ماء الذهب‚ بادرته محييا ومستأذنا في ان نقطع بقية الطريق مستمعين الى علمه الغزير فالتفت الي قائلا: انتم اهل السودان مالكيون اليس كذلك؟ {قلت و انا اعلم حربه الضروس مع شيوخ المالكية في الاندلس وما انتهت اليه تلك الحرب من احراق كتبه على يد المعتمد بن عياد : بلى ايها الشيخ الجليل لكنا اليوم لسنا بصدد الحديث في مسائل الفقه وعلم الكلام‚ سيكون موضوعنا ان أذنت كتابك ( طوق الحمامة في الالفة والالاف‚‚! ) وكما ترى فإن حديثنا سيكون في امر خفيف الوقع على النفس يدور في فلك المحبة والاحبة والمحبين‚ قال وقد سرى عنه بعد ان رمق محيط الشيب الزاحف على فودي: لكنك فتى تكتهل! اي مالك انت والحب والمحبين بعد ان وخط الشيب راسك! قالها كما ترون بدبلوماسية الادباء الحذاق فطرز كهولتي بذكر الفتوة التي تفارقنى كل يوم جديد تشرق فيه الشمس‚ قلت: بل انا كهل حقيقى ايها الشيخ‚‚ وراق لي ان اغمزه فاضفت: وهل يحفل بمثل هذه الاحاديث الا الكهول والشيوخ معا‚‚ عنيته بذلك لانه قد كتب كتابه موضوع حديثنا بعد ان جاوز الخمسين فتبسم لقولي فقد عرف ما رميت اليه‚ واستطردت قائلا: لكن قد راقني على كل حال جمعك بين الكهولة والشباب فقد ذكرت بذلك خطبة ابي حمزة الشاري يفاخر باتباعه مخاطبا اهل مكة وقد اقتحم المدينة المقدسة عليهم باولئك الاتباع: «تعيرونني باصحابي بأنهم شباب وهل كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا شبابا‚ شباب والله مكتهلون في شبابهم‚‚ غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل ارجلهم انضاء عبادة واطلاح سهر‚‚»‚ طرب الشيخ ايما طرب لسحر البيان وتمتم قائلا : رحمه الله فقد كان حديد اللسان‚ قلت: هل كان ظاهريا ؟ قال باقتضاب من لا يرغب في الاسترسال: لم يكن‚‚! قلت نعود لطوق الحمامة‚‚الذى يقرأ الكتاب يعدك عالما من علماء النفس وهؤلاء اهل بواطن لا يحفلون بالظاهر‚ كيف ذاك ؟ قال: لأن الناس لا يفهمون مذهب أهل الظاهر و يحسبون ان الظاهر هو السطح وليس الامر كذلك‚ قلت : نلج الى الكتاب اذن‚ اراك في ابياتك التاليات تعيب السواد‚ ألا تخشى ان يتهمك اهل السواد بالعنصرية وأنت شيخ من شيوخ الاسلام؟ وابعد خلق الله من كل حكمة مفضل جرم فاحم اللون مسود به وصفت الوان اهل جهنم ولبسة باك مشكل الاهل محتد وان لاحت الرايات سودا تيقنت نفوس الورى الا سبيل الى الرشد قال محتدا: لم تقرأ بإمعان ولعلك مررت على الكتاب مرور الكرام وعلى كل حال لن اجيبك عن سؤال حتى اتيقن من قراءتك الكتاب‚ قلت: بل قرأته بكل الامعان ومن الغلاف الى الغلاف فهو مقسم الى ثلاثين بابا منها في اصول الحب عشرة: علاماته ومن احب في النوم ومن احب بالوصف‚ ومن احب من نظرة واحدة وباب من لا تصح صحبته الا مع المطاولة ثم باب التعريض بالقول ثم باب الاشارة بالعين ثم باب المراسلة فباب السفير‚‚ وهناك اثنا عشر بابا في اعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة: باب الصديق المساعد باب الوصل باب طي السر وباب الكشف والاذاعة وباب الطاعة وباب المخالفة وباب من احب صنعة لم يحب بعدها غيرها ثم باب القنوع ثم باب الغدر ثم باب الضنى فباب الموت‚ أراك بعد ذلك قد خصصت ستة ابواب للآفات الداخلة في الحب وهي ابواب العاذل الرقيب‚ الراشي‚ الهجر‚ البين‚ السلو وبها بابان لكل منهما ضده فباب العاذل ضده الصديق المساعد وباب الهجر وضده باب الوصل‚ ثم ختمت الكتاب ببابين هما باب في قبح المعصية وباب في فضل التعفف وكأني بك قد ختمت بهذين البابين معذرة الى الله من ان يوقع كتابك بعض خفاف العقول والقلوب في حبائل الشيطان فتؤثم‚‚! قال: نعم ولا ضير في ذلك فنحن نتقلب في صلتنا بالله جل وعلا بين الحب والرجاء‚ زدني علما بما قرأت‚ قلت: اعجبني قولك في تعريف الحب بأنه هو الاتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة تلتقي في دروب الحياة فتتعارف وتتآلف ودللت على ذلك بقول الله تعالى: «هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها» فجعل علة السكون - كما قلت- انها منه ولو كانت علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الانقص في الصورة‚ ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الادنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه‚‚ وسقت حديث النبي تؤيد به ما ذهبت اليه: «الارواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»‚ ثم اشرت الى ان الحب الحقيقي الذي تتآلف به الارواح لا يقع من النظرة الاولى لأن النفس في هذا العالم الادنى قد غمرتها الحجب ولحقتها الاعراض الارضية فهي بحاجة لازالة تلك الركامات حتى تتعرف على نصفها الضائع‚ وقلت ان الحب الذى يقع من نظرة واحدة ما هو الا ضرب من الشهوة الجسدية العارضة تزول بزوال اسبابها والنفس جبلت على تشهي المحاسن لكن ذلك ليس الحب المتمكن من الفؤاد الذى تكون علته التقاء الارواح والنفوس بنظائرها او اجزائها الضائعة ‚‚‚‚! وقد شدني قولك: «وما لصق باحشائي حب قط الا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لي واخذي معه في كل جد وهزل‚‚»‚ وكذلك انا في السلو والتوق فما نسيت ودا لي قط وان حنيني الى كل عهد تقدم ليغصني بالماء ويشرقني بالطعام (الى ان تقول) وقد نغص تذكري ما مضى كل عيش استأنفه واني لقتيل الهموم في عداد الاحياء ودفين الاسى بين اهل الدنيا والله المحمود على كل حال لا اله الا هو»‚ قال وقد تهلل وجهه بشرا: كيف اذن فاتك سياق الذي قلته في السواد؟ عد اليه ايها الكهل الفتى فستجدني ذكرته في معرض من عاب على حب الشقرة في الشعر فقد كنت شغوفا بها وكان كذلك ابي رحمه الله وجل خلفاء دولة الناصر الاموية في الاندلس ممن عمل ابي وزيرا لهم‚‚ فلما عاب على بعضهم نفوري من سواد الشعر وتفضيل الشقرة عليه نظمت الابيات التي ذكرت منتصرا للشقرة ولا صلة لذلك بعرق ولا عنصر‚ قلت: ذكرت في كتابك ان الخلفاء والامراء كانوا يتزوجون جواريهم ويشترون اكثرهن من السوق وهن روميات وصقالبيات ومن البرابر يلدن لهم من يخلفوهم على العروش والوزارات والولايات يفاخرون بأنساب العرب وهم من هذه الاخلاط فكيف ذاك؟! قال : أما علمت ان العرب تقفوا آباءها ولا تحفل بالامهات؟ قلت : رغم ان نسل اسماعيل الذبيح قد استعربوا بنسبتهم الى امهم الجرهمية؟ قال : نعم رغم ذاك فتلك مقالة علي رضي الله عنه‚ ثم قال: ان نقاء الاعراق وهم من الاوهام وعلى كل حال فذاك تصديق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بأن العرب لا تدع خصلة التفاخر بالانساب‚! قلت: تأمل معي ما قلته في كتابك وانت ترغب الشباب في التعفف عن الحرام ولجم اللذائذ طمعا فيما عند الله : «فكيف بمن طوى قلبه على احر من الجمر وطوي كشحه على احد من السيف وتجرع غصصا أمر من الحنظل وصرف نفسه كرها عما طمعت فيه وتيقنت ببلوغه وتهيأت له ولم يحل دونه حائل‚ لحرى أن يسر غدا يوم البعث ويكون من المقربين يوم الجزاء وعالم الخلود وان يأمن من روعات القيامة وهول المطلع وان يعوضه الله عن هذه القرحة في يوم الحشر»‚ قلت: ألا ترى ان مثل هذا الوصف الدقيق للحب بين الجوانح ولسعته وعذابه لا يصح الا من مجرب‚‚؟ قال : ومن قال لك اني لم أجرب‚‚ الا اني والله ما قارفت ذنبا قط ولا ارتكبت خطيئة‚‚ حاشى لمثلي وهو موقن ان الله مطلع عليه في كل حال أن يتجرأ عليه بفعل الكبائر وسبحانه ينظر اليه‚‚ لكن ما حيلتنا والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء ‚‚‚ قلت عابوا عليك تأليف هذا الكتاب‚‚‚‚‚ قال : أعلم ذلك وقد قلت في آخره : «اعلم انه سينكر علي بعض المتعصبين تأليفي لمثل هذا الكتاب ويقول: خالف طريقته وتجافى عن وجهته وما أحل لأحد أن يظن بي غير ما قصدته‚‚‚ وذكرت ذم الله تعالى لكثير من الظن وطرفا من اقوال النبي في ذلك وختمت بقولي: وبالجملة فاني لا أقول بالمراياة (من الرياء) ولا انسك نسكا أعجميا ومن ادى الفرائض المأمور بها واجتنب المحارم المنهي عنها ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الاحسان ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله»‚ كانت الحافلة قد عبرت الجسر الرابط بين( ربك) و(كوستي) الى حيث مقصدنا فاستأذن طيف الفقيه الجليل وارتحل‚‚!!

Quote: كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد احد يسلم من لسانه، قال‏ابن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين، قاله لكثرة وقوعه في الائمة، فنفرت منه القلوب، واستهدف‏لفقهاء وقته، فتمالؤوا على بغضه، وردوا قوله، واجتمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم من الدنو اليه، والاخذ عنه، فاقصته الملوك، وشردته عن بلاده، حتى انتهى الى بادية لبلة ((2181)) ، فتوفي بهافي اخر نهار الاحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين واربعمائة. (افمن حق عليه كلمة العذاب افانت تنقذ من في النار