شئ مـن العـلم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 10:28 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-03-2006, 02:02 AM

منصوري
<aمنصوري
تاريخ التسجيل: 09-28-2003
مجموع المشاركات: 2504

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
شئ مـن العـلم

    فشل المدنية الغربية
    وهذه المدنية الغربية الآلية الحاضرة قد بلغت نهاية تطورها، وقد فشلت فشلا نهائيا وظاهرا في أن تنظم حياة المجتمع البشري المعاصر، وآية هذا الفشل أن مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يذق الاستقرار الذي ذاقه مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين كانت هذه المدنية الغربية لا تزال غنية بأفانين الحلول لمشاكل ذلك المجتمع، فقد كان المنتصر في الحرب العالمية الأولى منتصرا في السلام أيضا، وقد كان بذلك قادرا على تنظيم المجتمع العالمي يومئذ، بصورة من الصور، مهما يكن عيبها، فقد كانت كافية لتحقيق نزع السلاح، ولو إلى مدى، والى حين، وكانت كافية لتحقيق لون من الاستقرار. وأما المنتصر في الحرب العالمية الثانية، وهو بريطانيا، فقد أصبح منهزما في السلام الذي أعقبها، وان أردت الدقة فقل، لم يكن في الحرب العالمية الثانية منتصر ومنهزم، وإنما أصبح الجميع في مركب واحد، تلفهم الحيرة في جناحها الأسود، وها قد انقضى على نهاية الحرب نيف وعشرون عاما، ولا تزال البشرية من خوف الحرب في حرب، فهي تتحدث عن السلام، وتنفق على التسلح أضعاف ما تنفق على مرافق التعمير وما ذاك إلا لأنها لا. تعرف طريقا إلى السلام إلا طريقا يقوم على تخويف العدو من عواقب المجازفة بإشعال نار الحرب.
    وسبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة في تنظيم المجتمع الحاضر هو أنها بلغت نهاية تطورها المادي الصرف، في هذه المرحلة الحاسمة، من مراحل تحولات المجتمع البشري المعاصر، وأصبحت تفتقر إلى عنصر جديد تشفع به عنصرها القديم، وتلقحه به، وتزيد بذلك من طاقتها على التطور، ومن مقدرتها على مواكبة، وتوجيه حيوية المجتمع الحديث.
    روسيا، وهي تواجه الفشل اليوم في تحقيق الاشتراكية، بله الشيوعية وتنكص على أعقابها، إلى إجراءات هي أدخل في الرأسمالية منها في الاشتراكية، تتوخى بها إيجاد حوافز للإنتاج جديدة، تعطي أكبر الدليل على أن المدنية الغربية الحاضرة بلغت نهاية تطورها المادي الصرف، ووقفت عند نهاية الطريق المسدود وسيصبح لزاما عليها أن ترجع إلى مفترق الطرق، حيث تبدأ بسلوكطريق آخر، كانت شرة الثورة قد أذهلتها عن سلوكه منذ نصف قرن مضى. ولن تجد الصين فرصة التجربة الطويلة التي وجدتها روسيا، ذلك لأن الزمن قد أزف، وأن المفارقة الكبيرة بين طاقة المجتمع البشري الحديث، وقصور المدنية الغربية أصبحت تتضح كل يوم، وقد أخذت الصين تشعر بهذا التناقض الرهيب، ولكنها لم تهتد إلى متنفس له إلا في هذه الحالة العصبية، التي أسمتها سخرية، بالثورة الثقافية يقوم بها، في الشوارع والأماكن العامة، المراهقون ضد أساتذة الجامعات والعلماء، وهي تستهدف، فيما تستهدف، تأليه ماو تسي تونغ، وجعل كتاباته مصادر الثقافة الوحيدة، ومناهل الحكمة التي ينتهي عندها رأي كل ذي رأي.
    وليس من الضروري أن نذكر الغرب الرأسمالي هنا، لأن مفارقات المدنية الغربية تمثلها الشيوعية في روسيا وفي الصين أكثر مما يمثلها الغرب، ولأن الغرب الرأسمالي ليس بصاحب رأي جديد في المدنية الغربية، وإنما هو مقيم على القديم، على تطوير يسير سببه تطرف الثورة الشيوعية، مما اضطره إلى ملاقاتها في منتصف الطريق، في محاولة الإبقاء على نظامه القديم، في وجه الثورة المجتاحة. فسبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة إذن، هو أن تقدمها المادي والآلي، لم يشفع بتقدم خلقي يصحح موازين القيم، ويضع الآلة في مكانها من حيث أنها خادم الإنسان وليست سيدته، فالتقدم المادي غير متناسق، ولا متساوق، مع التقدم الروحي، وفي تفكيرنا الاجتماعي المعاصر، كما سبق بذلك القول، الرغيف يجد اعتبارا فوق ما تلقى الحرية، وهذه الظاهرة تنطبق على المذاهب الاشتراكية، كما تنطبق على الرأسمالية، وفي الحق أن الشيوعية لا تختلف عن الرأسمالية، إلا اختلاف مقدار فهي كالرأسمالية، مادية في الأصل، ولكنها أكفأ منها، من حيث المقدرة على تحقيق الوفرة المادية، وعدالة توزيعها، وما ينبغي أن نخدع عن هذه الحقيقة بملاحظة العداوة النائرة بينهما، فإنما هي بمثابة العداوة التي تكون بين الفرق المختلفة في الدين الواحد فهي عداوة لا تدل على اختلاف المنبت كما تدل على وحدة الأديم الذي تقوم عليه هذه الفرق المتناحرة.
    وإذا أردنا أن نضع سبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة وضعا محددا، وجب علينا أن نقرر أن مرد هذا الفشل هو عجز هذه المدنية عن الإجابة على سؤالين ظلا بغير جواب صحيح طوال الحقب السوالف من التاريخ البشري، وقد أصبحت الإجابة عليهما ضربة لازب.
    والسؤالان هما: ما حقيقة العلاقة بين الفرد والجماعة؟ وبين الفرد والكون.

    الباب الثاني
    الفرد والجماعة في التفكير الفلسفي
    أما الفلسفة الاجتماعية، عبر العصور والى أن انتهت بالشيوعية المعاصرة، فإنها قد فشلت في إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة، فهي قد ظنت أن الفرد إذا وجد الفرصة لممارسة حريته فان نشاطه سيكون ضد مصلحة الجماعة، ولما كانت الجماعة أكثر من الفرد، فان مصلحتها أولى بالرعاية من مصلحته، ومن ثم أهدرت حرية الفرد، في سبيل مصلحة الجماعة، متى ظهر أنهما تتعارضان.
    ومتى نظرت إلى تاريخ المجتمع البشري، منذ نشأته وإلى يوم الناس هذا، ظهر لك جليا أن حرية الفرد كثيرا ما تتعارض مع مصلحة الجماعة، بل ظهر لك أن الجماعة لم يقم نظامها ولم تصن مصالحها إلا على حساب تقييد حرية الفرد، ذلك بأن الفرد البشري ارتفع من حيوانية متوحشة، لا هم لها غير تحصيل شهوة البطن والفرج، ولما كان المجتمع البشري في أولياته لم يكن لينشأ إلا إذا قيدت هاتان الشهوتان، فقد قام العرف الذي ينظم العلاقات الجنسية، فيحرم الأخت على الأخ، ويحرم البنت على الأب، ويحرم الأم على الإبن، ويحرم زوجة الإبن على الأب، ويحرم زوجة الأب على الإبن، قبل أن يقوم العرف الذي يحرم الزنا عموما، وقد أعان هذا العرف، أو سمه القانون الأول، على تهدئة الغيرة الجنسية التي كانت تفرق الأسرة البشرية، كلما بلغ الأبناء فيها مبلغ الرجال، فقد أصبح، بعد هذا العرف، من الممكن أن يتعايش، في منزل واحد، أو في منازل متجاورة، الأب والإبن البالغ والصهر والإبن المتزوج، وكل منهم آمن على زوجته من الآخرين. ولربما يكون العرف الذي ينظم احترام الملكية الفردية قد نشأ مع هذا العرف من الوهلة الأولى، فانه، في المجتمعات البدائية، ليس هناك كبير فرق بين ملكية الزوجة، وملكية الآلة أو الكهف، وإذا كان لا بد للمجتمعات الصغيرة أن تعيش في وئام، وفي مكان واحد، وفي أعداد تتزايد دائما، تصيد معا، وتحارب أعداءها معا، وتقابل صروف الأيام متحدة، فإنه لا بد من التواضع على هذين العرفين، اللذين ينظمان السلوك في الجماعة، ويصونان كيانها، ولا بد أن عقوبة القتل كانت تنفذ في الفرد لدى ثبوت تهمة الزنا، في هذه الدوائر، عليه، يستوي في ذلك الرجال والنساء. ولقد كانت عقوبة القتل توقع على الفرد أيضا لدى السرقة من عشيرته الأقربين، ثم عممت فأصبحت تطبق لدى السرقة من حيث هي، وذلك عندما اتسعت الجماعة، ثم خففت، فأصبحت تستأصل طرفا من السارق بدلا من استئصال حياته كلها، ذلك بأن الأفراد قد بلغوا من الرفعة والذكاء بحيث يرتدعون بعنف أخف من العنف الذي كان ضروريا لردع أسلافهم.
    وليس معنى هذا الحديث أن المجتمعات كلها نشأت بصورة واحدة في كل مكان، ولكنه مما لا شك فيه أن المجتمعات البشرية حيث نشأت فقد نشأت حول طائفة من العادات والأعراف، التي تمثل نشأة القانون، والتي يرجع إليها الفضل في نشأة المجتمع البشري. ولما كان الفرد البشري الأول غليظ الطبع، قاسي القلب، بليد الحس، حيواني النزعة فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه، ولنقله من الاستيحاش إلى الاستيناس، وكذلك كان العرف الاجتماعي الأول، شديدا عنيفا، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات، بل انه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائما في خدمة مجتمعهم، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة، استجلابا لرضا الآلهة، أو دفعا لغضبها حين يظن بها الغضب، ولقد كانت هذه الشريعة العنيفة، في دحض حرية الفرد، في سبيل مصلحة الجماعة معروفة ومعمولا بها، إلى وقت قريب، ففي زمن أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل وهو قد عاش قبل ميلاد المسيح بحوالي ألفي سنة، كانت هذه الشريعة لا تزال مقبولة دينا وعقلا، فإنه هو نفسه قد أمر بذبح ابنه إسماعيل، فأقبل على تنفيذ الأمر غير هياب ولا متردد، فتأذن الله يومئذ بنسخها فنسخت، وفدي البشر بحيوانية أغلظ من حيوانيته، وكان هذا إعلاما بأن ارتفاع البشر درجة فوق درجة الحيوان قد أشرف على غايته، ولقد قص الله علينا من أمر إبراهيم وإسماعيل فقال (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني  رب هب لي من الصالحين  فبشرناه بغلام حليم  فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال يا أبتي افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين  فلما أسلما وتله للجبين  وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين  إن هذا لهو البلاء المبين  وفديناه بذبح عظيم  وتركنا عليه في الآخرين  سلام على إبراهيم.)
    (وتركنا عليه في الآخرين) تعني، فيما تعني، إبطال شريعة العنف بالفرد البشري، لأنها لبثت حقبا سحيقة، وقد تم انتفاعه بها، فارتفع من وهدة الحيوانية وأصبح خليقا أن يفدى بما هو دونه من بهيمة الأنعام.
    ولا عبرة ببعض صور العنف التي لا يزال يتعرض لها الأفراد في المجتمعات البشرية المعاصرة، فإنها آيلة إلى الزوال كلما أتيحت لها فرص الوعي والرشد. فان التضحية الحسية بالفرد البشري لم تنته بجرة قلم على عهد إبراهيم الخليل، والتاريخ يخبرنا أن المسلمين، لدى فتح مصر، قد وجدوها تمارس في صورة عروس النيل، فإنه قد قيل أن عمرو بن العاص، فاتح مصر وأميرها يومئذ، قد انتبه ذات يوم على جلبة عظيمة، فسأل عنها، فأخبر أن القوم قد جرى عرفهم بأن يتخيروا بنتا، من أجمل الفتيات، ومن أعرق الأسر، يزفونها كل عام إلى النيل، يلقونها في أحضانه فداء لقومها من القحط، لأنها تغري النيل بأن يفيض عليهم باليمن والبركات، فطلب إليهم عمرو بن العاص أن يستأنوا بها، حتى يستأمر عمر بن الخطاب في ذلك، فكتب إلى عمر، فرد عمر بجوابه المشهور الذي قال فيه:
    (بسم الله الرحمن الرحيم)
    من عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر.
    السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
    أما بعد، فإن كنت تفيض من عندك فلا تفض، وان كنت إنما تفيض من عند الله ففض.
    وأمر عمرو بن العاص أن يلقيه في النيل، ففعل، وفاض النيل، وأبطلت من يومئذ تلك العادة، وتم بالعلم فداء جديد للفرد البشري.
    وهذا العنف العنيف بالفرد البشري، الذي استمر منذ فجر المجتمع البشري، وهو قبل فجر التاريخ بآماد سحيقة، وظلت صوره إلى وقت قريب، كالذي سقنا عليه المثالين الماضيين، ضلل المفكرين الاجتماعيين، فظنوا أن حرية الفرد، قياسا إلى ما جرى به التاريخ، تتعارض دائما مع مصلحة الجماعة، وان الرشد إذن في أن يضحى بحرية الفرد في سبيل مصلحة الجماعة. وتورطت في هذا الوهم الشيوعية، وهي طليعة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، وصاحبة الدور التقدمي الذكي في المدنية الغربية الآلية الحاضرة.

    الفرد والكون في التفكير الفلسفي
    وعجز الفلسفة الاجتماعية المعاصرة في إدراك العلاقة بين الإنسان والكون، أكبر من عجزها عن أدراك العلاقة بين الفرد والجماعة، ولكن أثره أقل ظهورا، ذلك بأن علاقة الفرد بالجماعة واجهت التطبيق العملي، في السياسة والتشريع والتنفيذ، بينما لا تزال العلاقة بين الفرد والكون في الحيز النظري، وما ذاك إلا لأننا لا نزال في قبضة غريزة القطيع، لم يقو بنا الفكر حتى نبرز إلى منازل الفرديات. ولكن، مما لا ريب فيه، أن عهد الجماعة أصبح يخلي مكانه لعهد الفرد الذي أخذت شمسه تؤذن بشروق، وسيحل يومه حين يتم نظريا، ثم عمليا، فض التعارض المتوهم بين الفرد والجماعة، وهو أمر سنتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل، إن شاء الله.
    والفهم الدقيق للعلاقة بين الإنسان والكون ليس أمر فلسفة نظرية يمكن أن تلحق بالترف الذهني، وإنما هو أمر عملي، عليه يتوقف تحقيق الفردية، في مضمار المجهود الفردي، وفي مضمار تنظيم الجماعة لتكون والدا شرعيا للأفراد الذين يرجى لهم أن يحققوا فردياتهم.
    وضلال الفلسفة الاجتماعية عن فهم العلاقة بين الإنسان والكون فهما صحيحا إنما يلتمس سببه في استقراء التاريخ البشري منذ بداياته، ذلك بأن الإنسان الأول، عندما وقف على رجليه لأول مرة، واستقبل بعقله البيئة الطبيعية التي عاش فيها، وجدها تزخر بالقوى الهائلة التي، فيما يبدو له، تتركب بطريقة تختلف عن تركيبه، وتتصرف بأسلوب لا يستقيم مع تفكيره ومع رغباته، وهي بعد لا تبالي بحياته أو موته، بل إن كثيرا منها ليسعى في إهلاكه سعيا حثيثا، والذين يشاركونه الحياة، بين هذه القوى الصماء الهائلة، هم بين صيد وصياد - صيد يصيد ويصاد، وصياد يصيد ويصاد، فكأن البيئة كلها، أنياب زرق، ومخالب حمر، وأصبح عليه هو، إذا كان لا بد له أن يحفظ مهجته، أن يكيد أصناف الكيد، وأن يحتال لنفسه ألوان الحيل.
    ثم إن هذه القوى الصماء، منها الهائل الرهيب الذي يعجز حيلته، ويعيي عقله، ومنها ما يغلب منه الضرر، ومنها ما يغلب منه النفع، فهدته حيلته إلى التزلف إليها جميعا، بدوافع الخوف، أو بدوافع الحب، فتذلل، وتخشع، وقدم الهدايا، وقرب القرابين، ورسم مراسيم العبادات. ومن القوى التي تموج بها البيئة الطبيعية التي عاش فيها، قوى تنالها الحيلة، وتبلغ منها المناجزة، فاحتال أفانين الحيلة، فبنى البيوت فوق الأشجار، وعلى قمم الجبال، وعلى أعمدة اتخذها من سيقان الشجر وغرزها في أرض برك المياه، وفي الأماكن المحصنة الأخرى. ثم هو باتخاذ الآلة، من فروع الأشجار، ومن قطع الأحجار، قد مد في قدرته على المناجزة.
    والإنسان، بين العبادة والمناجزة، تغلب عليه الوحشة، ويساوره القلق بأنه وحيد من نوعه، يحتوشه الأعداء من جميع أقطاره، يتحينون منه الغرة، ويتربصون به الدوائر، ومن ههنا قام في خلد الإنسان أن مكانه من الكون مكان اللدد والخصومة.
    ولقد انتهت الفلسفة ببعض أبنائها الآن إلى أن يقرروا أن التدين، الذي دفع إليه الإنسان الأول، بالعوامل الطبيعية التي جرى ذكرها آنفا، إنما هو لازمة من لوازم الطفولة، وأن الدين، حيث وجد والى اليوم، إنما هو ظاهرة طفولة، إذ لجأ الإنسان الأول إلى إله تخيله ليسد به حاجة الطفل إلى أب يحميه. وأن الأصل في مواجهة البيئة هو المناجزة، لا التمليق، وما دفع الإنسان إلى التمليق إلا العجز عن المناجزة، والآن، وبتطويره لسلاحه الأول، من فروع الأشجار وقطع الأحجار، إلى أن بلغ به القنبلة الهيدروجينية، فإن مقدرته على المناجزة اكتملت، أو كادت، ويجب إذن أن يقلع عن التمليق، أو قل عن التدين، وعن الأديان، وعن الله.
    وإلى خروشيف ينسب قول، زعموا انه قاله، وهو أن قاقارين عندما دار في الفضاء الخارجي وكان ذلك لأول مرة في تاريخ تقدم العلم الحديث، لم يجد ذلك الكائن الذي يدعونه الله، فكأن خروشيف لا يتصور الله إلا من نوع المادة التي يزعم أنه يعرفها، وفي الحق، أن فلسفتهم، حين عجزت عن تصور شئ وراء المادة، اتخذت من عجزها فضيلة، فأنكرت وجود كل شئ وراء المادة، وذلك لكي يستقيم لها القول بأن الإنسان، أثناء مناجزته لبيئته المادية، يتطور في فهمه لها، ويحسن من وسائله في مناجزتها، حتى يتم له قهرها وتسخيرها، ويصبح بذلك سيد مصيره.
    إن الضلال في فهم علاقة الإنسان بالكون لم يبلغ، في أي وقت من الأوقات، هذا البعد الذي بلغه على عهد الشيوعية، وباسم العلم والفلسفة... والشيوعية هي طليعة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، وهي صاحبة الدور التقدمي، الذكي، في المدنية الغربية الآلية الحاضرة.. على أيسر تقدير، هذا ما يبدو للشعوب الآن.
    أم تقولون أن الغرب المسيحي يختلف في مسألة الدين، وفي أمر الله، عن الشرق الشيوعي.
    قد يكون هذا حقا من الناحية التقليدية، ولكنه ليس بحق من الناحية العملية، وليس في فكرة الغرب عن الدين، وعن الله، ما يعصم الغرب من أن يصبح شيوعيا، ولقد كانت روسيا، قبل الثورة الشيوعية، مسيحية، وكانت أورثوذكسية في ذلك.
    وفي الحق، ان الدين، سواء كان مسيحية أو إسلاما، إن لم يستوعب كل نشاط المجتمع، ونشاط الأفراد، ويتولى تنظيم كل طاقات الحياة الفردية والجماعية، على رشد وعلى هدى، فإنه ينصل من حياة الناس، ويقل أثره، ويخلي مكانه لأية فلسفة أخرى، مهما كان مبلغها من الضلال، ما دامت هذه الفلسفة قادرة على تقديم الحلول العملية لمشاكل الناس اليومية، أو حتى ما دامت قادرة على تضليل الناس، إلى حين، باسم خدمة مصالحهم المعيشية، فإن الناس، ما داموا أصحاب معدات وأجساد، يجب ألا تهمل دعوتهم إلى الفضيلة حاجة معداتهم وأجسادهم، بل إن المعرفة بطبائع الأشياء تقضي بأن تكون دعوتهم إلى الفضيلة عن طريق معداتهم وأجسادهم.
    مهما يكن من الأمر بين الشرق الشيوعي، والغرب المسيحي، فان المدنية الغربية الآلية الحاضرة ليست مسيحية، وهي قد عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة، كما عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والكون، وهي من جراء هذا العجز قد منيت بالقصور العملي عن الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية وذلك أكبر مظاهر فشلها.
    ولسنا نحن الآن بصدد الزراية عليها، ولا بصدد التقليل من شأنها، وإنما نحن بصدد دراسة علمية لها، تضعها في موضعها، وتعرف لها حقها، وتدعو إلى سد النقص فيها لتغدو مدنية بعد أن أصبحت حضارة.

    الباب الثالث
    الفرد والجماعة في الإسلام
    أول ما تجب الإشارة إليه هو أن الفرد في الإسلام هو الغاية وكل ما عداه وسيلة إليه، بما في ذلك وسيلة القرآن، والإسلام، تستوي في ذلك المرأة مع الرجل مساواة تامة، وهذا يعني أن الفرد البشري - امرأة كان أو رجلا، عاقلا كان أو مختل العقل - يجب ألا يتخذ وسيلة إلى غاية وراءه، وإنما هو الغاية التي تؤدي إليها جميع الوسائل.
    وهذه الفردية هي جوهر الأمر كله، إذ عليها مدار التكليف، ومدار التشريف، وإذ لا تنصب موازين الحساب، يوم تنصب، إلا للأفراد - يتساوى في ذلك الرجال والنساء وهذه النقطة نحب لها أن تكون مركزة في الأذهان - فالله تعالى يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ويقول (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) ويقول (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا  لقد أحصاهم وعدهم عدا  وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) ويقول (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) وهذه المساواة بين الرجل والمرأة، هي أصل الإسلام وإنما ميزت بينها الشريعة لعوامل تلتمس في تطور المجتمع عبر التاريخ.
    ومما لا ريب فيه أن الفرد الذي يقام له وزن في الإسلام إنما هو الفرد العارف بالله، وإنما جعل الإسلام كل فرد غاية في ذاته، وإن كان أبله، لأنه جرثومة العارف بالله، وستحصل منه المعرفة، عاجلا أو آجلا، (كان على ربك حتما مقضيا) ولقد زعمنا في مستهل هذا السفر أن الإسلام قد استطاع أن يفض التعارض البادي بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة، وأن ينسق هاتين الحاجتين في سمط واحد، تكون فيه حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، امتدادا لحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة. وبعبارة أخرى، استطاع أن يجعل تنظيم الجماعة وسيلة إلى الحرية، وهو بعد إنما استطاع هذا التنسيق بفضل التوحيد، الذي جعل شريعته تقع على مستويين.. مستوى الجماعة، ومستوى الفرد: فأما تشريعه في مستوى الجماعة فيعرف بتشريع المعاملات، وأما تشريعه في مستوى الفرد فيعرف بتشريع العبادات. والسمة الغالبة على تشريع المعاملات أنه تشريع ينسق العلاقة بين الفرد والفرد في المجتمع، والسمة الغالبة على تشريع العبادات أنه تشريع ينسق العلاقة بين الفرد والرب، وليس معنى هذا أن كلا من هذين التشريعين يقوم بمعزل عن الآخر، وإنما معناه أنهما شطرا شريعة واحدة، لا تقوم إلا بهما معا، وبينهما اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع. فتشريع المعاملات تشريع عبادات في مستوى غليظ، وتشريع العبادات تشريع معاملات في مستوى رفيع، وذلك لأن سمة الفردية في العبادات أظهر منها في المعاملات.. والمقرر أنه ليس للعبادة قيمة إن لم تنعكس في معاملتك الجماعة معاملة هي في حد ذاتها عبادة. ولقد جعل المعصوم الدين كله في هذا المجال فقال: (الدين المعاملة) فكأن العبادة في الخلوة مدرسة تعد الفرد الاعداد النظري، ثم هو لا يجد فرصة التطبيق العملي إلا في سلوكه في الجماعة، وتمرسه بمعاملة أفرادها.
    فالتوحيد يقرر أن الوجود كله مصدره واحد، وطريقه واحد، ومصيره واحد.. من الله صدر، وإلى الله يعود، وإنما يعود فرادى (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة). وليست العودة إلى الله بقطع المسافات، وإنما هي بتقريب الصفات من الصفات. بتقريب صفات المحدود، من صفات المطلق. وإنما تكون عودة الفرد إلى الله بوسائل العودة إليه، ومنها وسيلة الإسلام، ووسيلة القرآن، ووسيلة الجماعة.. والجماعة لها حرية، وهي بمثابة قاعدة الهرم حين تكون حرية الفرد هي قمته. أو قل أن حرية الجماعة هي الشجرة وحرية الفرد هي الثمرة، ومن ثم، ومن هذه النظرة الشاملة، لا يجد الإسلام تعارضا، ولا تناقضا، بين الفرد والجماعة.
    وحين وصل الإسلام بفضل التوحيد، إلى هذا التحقيق الدقيق، بين الفرد والجماعة، شرع كل تشريعاته بصورة تحقق في سياق واحد، حاجة الفرد وحاجة الجماعة.. فلم يضح بالفرد في سبيل الجماعة، فيهزم الغاية بالوسيلة، ولم يضح بالجماعة، في سبيل الفرد، فيفرط في أهم وسائل تحقيق الفردية، وإنما جاء تشريعه، في جميع صوره، نسقا عاليا من المقدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.

    الحرية الفردية المطلقة
    كثير من الفلاسفة يرى أن الحديث عن الحرية الفردية المطلقة نافلة من القول، وإلا فحرية الفرد يجب أن تكون مقيدة، إن لم نرد لها أن تصبح فوضى.
    وأما الإسلام فهو يرى أن الأصل في الحرية الإطلاق، واننا حين نتحدث عن الحرية، من حيث هي، وفي أي مستوى كانت، إنما نتحدث عن الإطلاق، من حيث لا ندري، ذلك بأن الحرية المقيدة إنما هي نفحة من نفحات الإطلاق تضوعت على أهل الأرض بقدر طاقتهم على احتمالها، فكأن القيد ليس أصلا، وإنما الأصل الإطلاق، وما القيد إلا لازمة مرحلية تصاحب تطور الفرد من المحدود إلى المطلق.
    فالحرية في الإسلام مطلقة، وهي حق لكل فرد بشري، من حيث أنه بشري، بصرف النظر عن ملته أو عنصره، وهي حق يقابله واجب، فلا يؤخذ إلا به، وهذا الواجب هو حسن التصرف في الحرية. فلا تصبح الحرية محدودة إلا حين يصبح الحر عاجزا عن التزام واجبها، وحينئذ تصادر في الحدود التي عجز عنها، وتصادر بقوانين دستورية.. والقوانين الدستورية في الإسلام هي القوانين التي تملك القدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، فهي لا تضحي بالفرد في سبيل الجماعة، ولا بالجماعة في سبيل الفرد، وإنما هي قسط موزون بين ذلك.. تحقق حين تطبق، بكل جزئية من جزئياتها، مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة في آن معا، وفي سياق واحد. وإنما كان الإطلاق في الإسلام أصلا لأنه لا يرى لترقي الفرد حدا يقف عنده، فهو عنده ساير من المحدود إلى المطلق، أو قل مسير من النقص إلى الكمال - والكمال المطلق. فنهاية العبد في الإسلام كمال الرب، وكمال الرب في الإطلاق، والله تبارك وتعالى يقول (وأن ليس للانسان إلا ما سعى  وأن سعيه سوف يرى  ثم يجزاه الجزاء الأوفى  وأن إلى ربك المنتهى) يعني منتهى السير.. وليس السير إلى الله بقطع المسافات، كما قلنا آنفا، وإنما هو بتخلق العبد بأخلاق الرب، والله تعالى يقول (يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) أردت أو لم ترد لقاءه، وأين يكون لقاؤه؟ أفي أرضه أم سمائه؟ لقد قال جل من قائل (ما وسعني أرضي ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن.) فأنت إذن إنما تلقاه فيك، وبه لا بك.
    وفي ذلك قال المعصوم (تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم)..
    والله تعالى يقول (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون).
    والذي يجعلنا عاجزين عن الوفاء بواجب الحرية الفردية المطلقة إنما هو الجهل، ونحن، لفرط جهلنا، نحب جهلنا، ونكره المعرفة، إلا إذا جاءت عن طريق يناسب هوانا. (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) .. (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) تشير إلى أنانيتنا.. فنحن نحب أنفسنا، ونحب كل ما يصدر عنها من حماقات. وكل فرد بشري هو، بالضرورة التكوينية، أناني.. وكماله إنما يكمن في هذه النشأة الأنانية..
    وأنانية كل أناني على مستويين.. مستوى الأنانية الضيقة، المتسفلة، الجاهلة، ومستوى الأنانية الواسعة، المتسامية، العاقلة.
    فالأناني الجاهل قد يرى مصلحته في أمور تخالف مصالح الجماعة، وإذا اقتضى الأمر فهو قد يضحي بمصلحة الجماعة ليصل إلى ما يظنه مصلحته هو.. والأناني العاقل لا يرى مصلحته الا في أمور تستقيم مع مصالح الآخرين، فهو يقول مع أبي العلاء المعري:ــ
    ولو أني حبيت الخلد فردا  لما أحببت بالخلد انفرادا
    فلا هطلت على ولا بأرضي  سحائب ليس تنتظم البلادا
    وملاك هذا الأمر التعليم الرشيد في عبارة المعصوم حين قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ومنذ هذه اللحظة وضع الإسلام نفسه ضد الأنانية الجاهلة، ومع الأنانية العاقلة (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) هواه يعني أنانيته الجاهلة.. (إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك).(نفسك التي بين جنبيك) تعني نفسك السفلى، أو نفسك الدنيا، في مقابلة نفسك العليا، أو نفسك الأخرى، التي يرجع إليها كاف الخطاب في (إن أعدى أعدائك) فكأنه قال إن أعدى أعداء نفسك الأخرى نفسك الدنيا.. ولأمر ما كثر التعبير في القرآن بكلمتي الدنيا والأخرى.
    وكل ذلك يعني الأنانية الجاهلة في مقابلة الأنانية العاقلة.. وقول الله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) يعني للنفس العليا، وكذلك قوله (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها).
    وما دمنا في منطقة الأنانية الجاهلة، فإن حريتنا لا بد تقيد، لمصلحة مجتمعنا، ولمصلحتنا نحن أيضا، ويجب أن يكون القيد وفق قانون دستوري.. ومن هذا يتضح أن الحرية في الإسلام على مستويين: مستوى الحرية المقيدة بقوانين دستورية، وقد تحدثنا عن القوانين الدستورية، ومستوى الحرية المطلقة. والحر في المستوى الأول، هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط ألا تتعدى ممارسته لحريته في القول، أو العمل، على حريات الآخرين، فإن تعدى تعرضت حريته للمصادرة وفق قوانين دستورية، جزاء وفاقا.
    والحر في المستوى الثاني هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون نتيجة ممارسته لكل أولئك إلا خيرا، وبركة، وبرا بالناس، وأدنى مراتب الحرية الثانية العفو، وصاحب هذه لا ينطوي ضميره المحجب على ضغن على أحد، ذلك لأنه يعلم أن الجريمة إنما تبدأ في الضمير، ثم تبرز إلى حيز القول، ثم إلى حيز العمل. والله تعالى إنما يعني هؤلاء، ولا يعني أولئك، حين قال: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) وهو يعنيهم أيضا حين قال: (قل إنما حرم ربي الفواحش، ما ظهر منها وما بطن) وهو أيضا يعنيهم حين قال: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه، يحاسبكم به الله)..
    وأما أصحاب مرتبة الحرية المقيدة فإن حديث المعصوم يعنيهم حين قال (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفوسهم، حتى يقولوا أو يعملوا)
    والحريتان متداخلتان، فالأولى منهما مرحلة اعداد للثانية، إذ لا يبلغ الفرد منازلها إلا بالتمرس بالمجهود الفردي في تربية النفس، بمراقبتها، ومحاسبتها، وترويضها لتصبح موكلة بالتجويد، كلفة بالإحسان. والمراقبة تعني الحضور مع الله دائما حتى لا تتصرف الجوارح فيما لا يرضيه، من فكر، أو قول، أو فعل، والمحاسبة تعني استدراك ما أفلت من ضبط المراقبة، ولما كانت الحرية الفردية المطلقة لا تنال إلا بثمنها، وثمنها، كما قررنا آنفا، هو حسن التصرف في حرية الضمير المغيب، وحرية القول، وحرية العمل، فقد طوع الإسلام عباداته، وتشاريعه، لتبلغ بالفرد هذا المبلغ.

    الشريعة في خدمة الحرية الفردية المطلقة
    شريعة العبادات كلها شريعة فردية لأن مدارها على الضمير المغيب، ولا يطعن في هذا التقرير أن بعض العبادات تؤدى في جماعة، وفي الحق، أن كل أعمال الإسلام في العبادات، والمعاملات، تركز على الضمير تركيزا أساسيا، ومن ههنا جاء قول المعصوم: (نية المرء خير من عمله). فالنية تجري من العمل مجرى الروح من الجسد، فإذا خرجت الروح من الجسد فسد، وتحلل، وأصبح هباء منثورا، وإلى ذلك الإشارة الكريمة بقوله تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ذلك لأنه عمل لا روح فيه، أو قل لا نية صالحة لوجه الله وراءه.
    والخطيئة إنما تبدأ في الخاطر، والخاطر هو حديث الضمير، فإذا كان الضمير المحجب ينطوي على إثم فان خواطره تكون شريرة، ثم لا تلبث هذه الخواطر أن تلح على صاحبها حتى ينطلق بها لسانه، فيكون كلامه شريرا، ثم لا يلبث هذا الكلام الشرير أن يلح على صاحبه حتى يبرز إلى حيز العمل، فيكون عمله شريرا أيضا، فإذا كان الفرد يفكر بالشر في ضميره المغيب، ويتحدث بالشر، وتتحرك أعضاؤه بعمل الشر، فقد وجب أن تسحب حريته، وأن تصادر، بيد أن هذه المصادرة يجب أن تكون لمصلحته هو أولا، ثم لمصلحة الجماعة في المكان الثاني، وهي إنما تكون لمصلحته إذا كان إنما يفيد منها تربية تجعله أهلا لاسترداد حريته من جديد، مع المقدرة على حسن التصرف فيها.
    ومما لا شك فيه ان التشريع، سواء كان تشريع عادة، أو تشريع عبادة، إنما هو منهاج تربوي يرتفع، بالمجتمعات وبالأفراد، من الغلظة، والجفوة إلى اللطف والإنسانية، وكلما كان الناس غلاظ الأكباد، بليدي الحس، كلما شدد عليهم في التشريع، وكبلوا بالقيود والأثقال. فلو أن الناس رعوا ما عليهم، حق رعايته، لما أعنتوا في أمر من أمور معاشهم، ولا أمور معادهم، والله تبارك وتعالى يقول (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكرا عليما؟) لكن حاجة الناس إلى التربية، والتأنيس، والترويض، هي التي حرمت المحرمات، وهي التي عزمت العزائم، وجاءت المحرمات والعزائم وفق الحاجة إليها. وقد تحدثنا عن التشديد على الفرد عند نشأة المجتمع البشري في سحيق الآماد بما يكفي، فإذا جئنا إلى العصور الحديثة، عصور الديانات الكتابية التي نعرفها، نجد أن القاعدة تطرد ولا تتخلف، فهذا القرآن يحدثنا عن اليهود فيقول (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا، وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) ويقول أيضا عنهم، (وإذ قال موسى لقومه يا قومي إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم، إنه هو التواب الرحيم).
    فلغظة أكبادهم، وبلادة حسهم، شدد عليهم، فحرمت عليهم الطيبات، وفرض عليهم، في التوبة، أن يقتلوا أنفسهم قتلا حسيا، وهو بسبيل مما تحدثنا عنه في أمر التضحية بالفرد البشري على مذابح العبادة في أول النشأة.
    ولما تقدم الفرد البشري هوناً ما، وأصبح لا يحتاج كل ذلك التشديد ليتربى، خفف عنه، فجاء التشريع في حق الأمة المحمدية يقول (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير، فإنه رجس، أو فسقا أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فإن ربك غفور رحيم) وقال في حقهم أيضا، (يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة، عن تراض منكم، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما).
    فضاقت دائرة المحرمات في التشريع الأخير، واختصرت إلى أربعة، كلها خبيث، ثم تجاوز حتى عن هذه الأربعة للمضطر، إذا لم يكن باغيا، ولا عاديا على أحد.
    ونهى عن قتل النفس، حين أصبحت تستجيب بأقل من هذا العنف فقال (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) وهو إنما كان، في شريعته، بنا رحيما لأننا أصبحنا رحماء (كما تدين تدان).
    وتواصل القاعدة اطرادها في المزيد من التخفيف على الناس كلما أصبحوا من رهافة الحس بحيث لا يحتاجون الشدة ليتعلموا.. ويبلغ من أمر هذا التخفيف أن ينتقل التحريم من الأعيان الحسية إلى صور السلوك المعنوية، فاسمع القرآن الكريم يحدثنا فيقول: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين  قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا، في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون  قل إنما حرم ربي الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) ويقول، (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم، إلا ما اضطررتم إليه، وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم، إن ربك هو أعلم بالمعتدين  وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون).
    فإذا المحرم حقا، وفي آخر الأمر، هو عيب السلوك، ونقص الأخلاق، وإنما حرم المحسوس من الأعيان المحرمة كوسيلة لشفاء النفوس من عيوب السلوك، ومن نقص الأخلاق، وذلك على القاعدة الحكيمة التي تطالعنا بها هذه الآية الكريمة، (سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟) وحين ينسحب التحريم من الصور الحسية الغليظة إلى الصور المعنوية الدقيقة في عيوب السيرة بين الناس، يواصل هذا الانسحاب حتى يصل خفايا السريرة، وما يحوك فيها من خواطر الإثم، وحين قال (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) إنما جاء الأمر بترك ظاهر الإثم في مكان الوسيلة، وجاء الأمر بترك باطن الإثم في مكان الغاية. فكأنه قال: أتركوا ظاهر الإثم لتتمكنوا من ترك باطنه، لأنه هو مصدر كل الشرور.. ويصل القرآن بمطاردة الإثم إلى أغوار السريرة حين يقول (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه، يحاسبكم به الله) وحين يقول (وعنت الوجوه للحي القيوم، وقد خاب من حمل ظلما) والظلم هنا الشرك الخفي، وإليه يرجع كل الشر، في جميع صوره، وإنما يكون الشرك الخفي في سر السريرة، وأخفى منه ما يكون في سر السر، كما يقول أصحابنا الصوفية والقرآن في ذلك يقول (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) أخفى من السر، وهو سر السر. فأسلوب القرآن في شفاء النفوس من الخطيئة أسلوب عكسي، يبدأ من الخارج، ويسير إلى الداخل. (سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد؟) قوله(سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم) يعني، في جملة ما يعني، أن السالك في طريق الله، يراقب نفسه، في أول أمره، ويحاسبها، لتترك عيوب العمل، في حين أنها متورطة، في هذه الأثناءة، في عيوب القول، ولكنه يسمح بذلك كنوع من التدريج للنفس، ثم هو، إن استقام له أمر نفسه في ترك عيوب العمل، وكان ذلك منها في سلاسة بينة وانقياد، زحف بها إلى تكليفها ترك عيوب القول، في حين أنها متورطة، في هذه الأثناءة، في عيوب الخواطر، فهي مشوشة الخواطر، كثيرة الثرثرة الباطنية، ولكنه يسمح لها بذلك سياسة لها وتدريجا، إذ كلفها أمرا شاقا في ترك ثرثرة اللسان، ثم هو، إن استقام له أمره على ما يحب في ضبط لسانه، بعد ضبط جوارحه، يكون كل أولئك قد ترك أثرا حميدا في تهذيب الخواطر فيصبح عليه أن يزحف نحوها في ثبات وثقة، يهذبها بعد تشويش، ويسكنها بعد جيشان، فإن هو استقام له أمره على خير ما يحب، وسلم صدره من الوساوس وتنقت السريرة، فقد يبدأ، بصورة جلية، الأسلوب الطردي، بعد أن وصل الأسلوب العكسي إلى هذه المرحلة المتقدمة، ويجئ دور قوله تعالى من الآية السالفة الذكر: (أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد؟) ويكون أغلب نظر الإنسان بعد ذلك إلى داخله بعد أن كان مشغولا ومهووسا بالخارج. وعند ذلك توشك المطابقة أن تتم بين السيرة والسريرة، فإن نقاء السريرة ينعكس في استقامة السيرة، ويبلغ صاحب هذه السيرة عتبة الحرية الفردية المطلقة. وكلما تنقت السريرة، كلما استقامت السيرة، فضاقت لذلك دائرة المحرمات، وانداحت دائرة المباحات، على قاعدة الآية الكريمة، (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكرا عليما؟) فإذا استمر السير بالساير إلى نهايته المرجوة، وهي تمام نقاء السريرة، وكمال استقامة السيرة، عادت الأعيان المحسوسة إلى أصلها من الحل، وانطبقت الآية الكريمة، (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا، إذا ما اتقوا، وآمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا، وآمنوا، ثم اتقوا، وأحسنوا، والله يحب المحسنين).
    وهذه مرتبة متقدمة من مراتب الحرية الفردية المطلقة، التي قد طوع كل تشريع الإسلام ليبلغها الأفراد، ومن أكبر آيات هذا التطويع أن التشريع كله، وفي كل صوره، مبني على المعاوضة، أو قل القصاص (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لعلكم تتقون) والقرآن أيضا يقول، (ليس بأمانيكم، ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوء يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا، ولا نصيرا) ويقول (ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويعذب المنافقين، إن شاء، أو يتوب عليهم، إن الله كان غفورا رحيما) ويقول (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وهاتان الآيتان هما قوام الأمر كله، في مبنى الشريعة، وفي مبنى الحقيقة.. يعني في عقوبة الدنيا أو ثوابها، وفي عقوبة الآخرة أو ثوابها.
    والقرآن يقول (ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعد للكافرين عذابا أليما) فسئل عنه شيخ الطائفة الصوفية، أبو القاسم الجنيد فقال (يسأل الصادقين، عند أنفسهم، عن صدقهم، عند الله.) والصدق عند الله مطلق، والصدق عند الخلق نسبي، فيجزي كل صاحب صدق بما يبلغ صدقه بالقياس إلى الصدق المطلق، كما قال (ليجزي الصادقين بصدقهم) وهذا الجزاء قصاص في الشريعة، وقصاص في الحقيقة أيضا، كما وردت إلى ذلك الإشارة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) حياة هنا تعني زيادة معرفة. فحين تجازون بالخير على ما عملتم من خير، على قاعدة الحسنة بعشر أمثالها، أو تضاعف، وحين تعاقبون على السيئة بمثلها، أو يعفى عنها، تزيدون حياة على حياتكم السابقة، بارتفاع مدارككم، وصفاء عقولكم، وبسلامة قلوبكم.
    وهذه الزيادة في المدارك، لدى القصاص في الشريعة، لا تحتاج إلى عميق فكر، فهي ظاهرة، وذلك أن الفرد لا يتعدى على حريات الآخرين، أثناء ممارسته لحريته، إلا لجهل، وغباء، وقصور تخيل.. فمن قلع عين أحد، أثناء ثورة غضب، مثلا، لا يفعل ذلك وهو متخيل تماما لمبلغ الألم، وفداحة الضرر، الذي يلحقه بضحيته. فإذا ما اقتص منه، فوضع في موضع الضحية، وقلعت عينه معاوضة منه لفعله ذلك، فقد تحقق غرضان في آن معا، أولهما حفظ حق الجماعة، بردع المعتدي في نفسه، وبجعله نكالا لغيره، وثانيهما إحراز حاجة الفرد إلى سعة التخيل، حيث أعطي الفرصة ليعيش التجربة الأليمة التي فرضها على غيره لقصر في تخيله شدة الألم، وفداحة الخسارة، اللذين تسبب فيهما، وإنه لمما لا ريب فيه أن مثل هذه التجربة الأليمة تجعل من يتعرض لها أكثر إنسانية، في مقبل أيامه، منه في سابقتها، فهو لا يمكن أن يسقط من اعتباره نتائج تصرفه على الآخرين. وهو، على أيسر تقدير، سيكف أذاه عن الآخرين، وقد يحتمل أذاهم أيضا، وسيكون، على التحقيق، كثير الاعتبار لهم، حين يتصرف، وقد يقوده هذا الصنيع، معانا بالعبادة، إلى الكلف بتوصيل الخير اليهم، وهو خليق أن يجد في ذلك رضا نفسه، وطمأنينة قلبه. فإن هو بلغ ذلك فقد وقف على أعتاب الحرية الفردية المطلقة، بفضل ما أصاب من الوعي وسعة التخيل اللذين أفاده إياهما القصاص. وإن هو لم يبلغ هذا المبلغ فحسبه أن يكون واعيا لحدود حريته وحدود حريات الآخرين، وفي ذلك خير كثير. والمعاوضة في حد الزنا تقوم على الرجم، أو على الجلد، حسب مقتضى الحال، وذلك أن الزاني حين ذهب يبحث عن اللذة، حيث كانت، ومن غير اعتبار لشريعة، أذيق الألم ليرده لصوابه، فإن موقع الألم من وادي النفس يقوم على العدوة القصوى، حين تقوم اللذة على العدوة الدنيا، وفي شد النفس إلى الألم، حين تتهافت على اللذة المحرمة، إقامة للوزن بالقسط مما يعينها على الاعتدال، ويجعلها أبعد من الطيش والنزق.
    وحد الخمر يقوم على نفس الأصل، وذلك أن صاحب الخمر حين يسعى في إلغاء عقله، إنما يريد أن يهرب من واقعه ليعيش في دنيا من صنع أوهامه، وأخيلته المريضة، فأريد بألم الجلد أن يرده إلى واقعه المرير ليعمل عقله في تغييره، فإن الواقع لا يتغير بالهروب منه، وإنما يتغير بمواجهته، وإعمال الفكر في تغييره، والله تعالى يقول (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
    ثم إن العقل، وبه وحده استحق الإنسان الكرامة على الحيوان، هو الإبن الشرعي للقاح اللذة بالألم، منذ سحيق الآماد، وعبر رحلة الحياة الشاقة، فإذا حاف عليه صاحبه، في لحظة من لحظات الضعف، فإن في لدغ الألم لما يعينه على استعادة مكانه من قيادة السفينة في خضم الحياة الصخاب، حتى يبلغ بها بر السلامة.
    وقانون المعاوضة - القصاص - قانون ينبع من أصل في الحياة أصيل، فهو ليس قانون دين بالمعنى المألوف في الأديان، ونحن حين نقرر أن تشاريع الإسلام مبنية على القصاص، إنما نعني الإسلام في حقيقته، لا في عقيدته، والإسلام في حقيقته ليس دينا بما ألف الناس عن الأديان، وإنما هو علم، وما مرحلة العقيدة فيه إلا مرحلة انتقال إلى المرحلة العلمية منه.. مرحلة الشريعة فيه مرحلة انتقال إلى مرتبة الحقيقة حيث يرتفع الأفراد، من الشريعة الجماعية، إلى الشرائع الفردية، التي هي طرف من حقيقة كل صاحب حقيقة.
    (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟،  إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج، نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا).. (هل) تعني هنا قد و (الإنسان) تعني جنس الإنسان. (لم يكن شيئا مذكورا) تعني أنه كان يتقلب في المستويات الدنيا من الحياة، لم يظهر فيه العقل، الذي انبنى عليه التكليف، وبه رفع الذكر. و(نطفة أمشاج) تعني الماء الصافي المخلوط بالطين، ومنه نشأت الحياة في ظلمات الدهر. وأما قوله (نبتليه) فهو روح الآية، لأنه يشير إلى الصراع في البيئة الطبيعية، بين الحي والقوى الصماء، وبينه وبين إخوانه في الحياة، وهو ما سبقت الإشارة الى جانب منه، حين تحدثنا عن نشأة المجتمع البشري، وهذا الصراع، قبل، وبعد نشأة المجتمع البشري، كان ولا يزال، قانونه المعاوضة (القصاص).
    قوله (فجعلناه سميعا بصيرا) إشارة إلى العقل، والى كون العقل وليد الصراع الذي يهتدي بقانون المعاوضة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) ووردت بعد الآيتين السالفتين من سورة الدهر الآية (إنا هديناه السبيل، إما شاكرا، وإما كفورا).. (إما شاكرا) تعني مصيبا، (وإما كفورا) تعني مخطئا، وهكذا يرتجح العقل في أرجوحة الخطأ والصواب. وفي ذلك كماله (إن لم تخطئوا وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم) كما قال المعصوم.
    وقانون المعاوضة على مستويين: مستوى الحقيقة، ومستوى الشريعة، وبينهما اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. فقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة قوامه قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وقانون المعاوضة في مستوى الشريعة قوامه قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).
    وقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة هو الإرادة التي بها قهر الله العوالم فأبرزها إلى الوجود وسيرها إلى الكمال، وهو الحق الذي ورد كثيرا في القرآن (ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون) وهو يقول أيضا، (خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون) ويقول (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين  ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) فالحق هو هذا القصاص الذي تحكيه أحكم حكاية الآيتان، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وعبارة (لاعبين) في الآية السابقة تشير إلى ما تشير إليه الآيتان من قوله تعالى، (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون  فتعالى الله الملك الحق، لا إله إلا هو رب العرش الكريم) وتعني أن العوالم لا بد راجعة إلى الله بفعل قانون المعاوضة هذا (ليس بأمانيكم، ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوء يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.)
    وقانون المعاوضة في مستوى الشريعة محاكاة محكمة لقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة، وهو يسير معه سيرا مصاقبا ولكنه، في سبحاته العليا، أكمل منه وأدق، وهو يقع على ثلاث مستويات، ويحكيه قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى) والعدل هو القصاص في مستوى (العين بالعين، والسن بالسن)، (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم). والإحسان هو العفو عن المسئ، (فمن تصدق به فهو كفارة له) كما ورد في آية القصاص، (وإيتاء ذي القربى) تعني صلة الرحم في معناها الواسع، وهو رحم الحياة. وهذه المستويات الثلاث تحكيها هذه الآية (وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين) قوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) مستوى العدل من درجة التناصف، وإنما سماها سيئة ليرغب عنها، حيث أمكن ذلك (ولمن صبر وغفر، إن ذلك لمن عزم الأمور) وأما قوله (فمن عفا) فهو مستوى الإحسان بترك المسئ، والتعطف عليه، والتلطف به، والمحبة له، وذلك قمة الصلاح والإصلاح، وهو أعلى مستويات قانون المعاوضة في الشريعة.
    ولما كان قانون المعاوضة، في مستوى الحقيقة، مرادا به تسيير العوالم إلى الله عن طريق الجسد - عن طريق القهر، فإن قانون المعاوضة، في مستوى الشريعة، مراد به تسيير البشر إلى الله عن طريق العقل - عن طريق الحرية، وفي ذلك الكرامة، كل الكرامة، للإنسان. وفي هذا المقام يجئ حديثنا عن العلاقة بين الإنسان والكون.

    الفرد والكون في الإسلام
    والعلاقة بين الإنسان والكون ظلت مادة التعليم والتعلم، من لدن فجر الحياة البشرية وإلى يوم الناس هذا، ولقد استعان الإنسان على استجلاء حقيقة هذه العلاقة بالدين، وبالعلم المادي، منذ النشأة، فالدين والعلم المادي تومأن، ولدا في وقت واحد، ودرجا معا، وظلا يتعاونان في مدارج النمو. ولقد كان ميدان العلم المادي لدى الإنسان الأول ضيق جدا، وميدان الدين واسعا، فهو قد اعتنق جميع مظاهر الحياة المادية في البيئة الطبيعية، وفيما وراء المادة بالقدر الذي تعطيه الأحلام في النوم، وتوحيه الأوهام في اليقظة، وهو لم يترك في حيز العلم المادي إلا أشياء قليلة أوحى طول الألفة بأنها لا تحتاج إلى كثير احتفاء. كان الإنسان يشعر أن لكل شئ في الوجود روحا، ورسخت الأحلام فيه هذا الشعور، حتى لقد أصبح يصلي لكل شئ.. يصلي للصيد، ويصلي للزراعة، ويصلي للحصاد، ويصلي لتناول الطعام، ويصلي للسلاح. ثم أخذت الألفة والعادة تعمل عملها، في رفع الرهبة والقداسة عن الأشياء التي اعتادها وقدر عليها، فدخلت منطقة علمه التجريبي، وأخذت بذلك دائرة العلم تزيد ودائرة الدين تضيق، حتى جاء الوقت الحاضر، حيث يزعم بعض المغرورين بالعلم الحديث أن الدين لم تعد له مكانة في حياة الإنسان المتحضر، وما كفر العلم، ولكن بعض العلماء كفروا، برسالة العلم، وبرسالة الدين معا. ذلك بأن العلم لم يدع أنه يبحث عن جوهر الأشياء وحقائقها، وإنما هو يبحث عن ظواهرها وقوانين سلوكها، فهو يعرف خصائص الكهرباء ولا يعرف كنه الكهرباء. بل إن العلم نفسه قد قرر أن المادة، كما نعرفها، إنما هي مظهر لأمر وراءها لا نعرف حقيقته. فقد قال اينشتاين أن المادة والقوى شئ واحد، وجاءت التجارب في انفلاق الذرة بتأييد هذا القول، فالقوى غير معروفة الكنه، وإن كانت بعض القوانين التي توجه سلوكها معروفة.
    وفي الحق ان العلم الحديث داع إلى الله بلسان بليغ، فهو يرينا كل يوم، كيف أن العالم المحسوس، إذا أحسن استقصاؤه، يسوقنا إلى عتبة عالم وراءه، غير محسوس، أو قل لا تدركه الحواس على النحو المألوف، ثم يتركنا هناك وقوفا، في خشوع وإجلال، نلتمس وسائل غير وسائل العلم التجريبي المادي، بها نهتدي في مجاهيل الوادي المقدس، الذي يقع وراء عالم المادة التي نعرفها.
    إن أرباب القلوب قد سمعوا أن الظواهر المادية تنادي إلى الله بصوت عال يقول: إنما نحن فتنة فلا تكفروا! وإن مطلوبكم أمامكم فلا تقفوا معنا!
    قد أنى للانسان أن يعلم أن البيئة التي يعيش فيها إنما هي بيئة روحية ذات مظهر مادي، وهذا اكتشاف جديد أفاده تقدم العلم المادي الأخير، وهو اكتشاف يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم، ذلك بأن عليه أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة، إن كان لا بد له أن يستمر حيا.
    لقد كان الإنسان الأول أحكم منا، في موقفنا الحاضر، حين ظن، أو قل علم، أن لكل شئ في الوجود روحا، والآن، وقد استدار الوجود دورة تامة، فإن التاريخ سيعيد نفسه في الأيام القليلة المقبلة، وهو، كما قررنا في مستهل هذا السفر، لن يعيد نفسه بصورة واحدة، وإنما يعيدها بصورة تشبه من بعض الوجوه، وتختلف من بعضها، عما كان عليه الأمر في سابقه، وسيكون وجه الشبه، في الدورة الجديدة، علمنا أن بيئتنا روحية الجوهر، مادية المظهر. وسيكون وجه الاختلاف أن إدراكنا هذا لن يكون إدراكا ساذجا، جاهلا، وإنما هو أدراك حاذق، عالم، به يعود الدين ليعتنق كل نشاطنا، في كل صغيرة وكبيرة.. يعود علما يتقدم بمنهاج للحياة متكامل، يخاطب العقل، ويحترمه، ويحاول إقناعه بجدوى ممارسة منهاجه في الحياة اليومية، في كل مضطربها، لأمر معاشها، وأمر معادها.
    لقد جاء الإنسان إلى هذه الحياة ولم يكن له في أمر مجيئه تدبير، ولا اختيار، وهو يغادر هذه الحياة، يوم يغادرها، وليس له في ذلك تدبير، ولا اختيار.. والله تعالى يحدثنا في ذلك فيقول، جل من قائل: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين  ثم جعلناه نطفة في قرار مكين  ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين  ثم إنكم بعد ذلك لميتون  ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) وهذه الصورة القرآنية المتكاملة تعطينا صورة لموضعنا من الكون، إذ نحن مسيرون فيه كالعناصر الصماء تماما، ولن يكون لنا فضل عليها إلا إذا استيقنت نفوسنا أمر هذا التسيير، ثم أذعنا له، عن رضا وعن استسلام، وعن علم ولقد خلقنا الله مستعدين لتحصيل هذا العلم، ولقد أشار إلى هذا الاستعداد بقوله تعالى (ثم أنشأناه خلقا آخر) من الآيات السابقة. وفي موضع آخر جاء البيان الواضح، حيث قال: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون  فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) فهذا الخلق الآخر إنما جاء من نفخ الروح الإلهي فيه.

    الإرادة
    والروح الإلهي المنفوخ في البشر هو الإرادة.. والإرادة صفة متوسطة بين صفتين.. من أعلاها العلم ومن أسفلها القدرة.. وبالعلم والإرادة والقدرة أبرز الله العوالم إلى حيز الوجود، وكذلك البشر إنما يعملون أعمالهم بالعلم والإرادة والقدرة، فوقع الشبه بين الخالق والمخلوق، والى ذلك الإشارة بقول المعصوم: (إن الله خلق آدم على صورته).
    والإرادة لله بالأصالة، وللإنسان بالإعارة، وهي هي الأمانة التي أشار إليها تعالى في قوله (إنا عرضنا الأمانة على السموات، والأرض، والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا).. (ظلوما) بادعائه لنفسه ما لغيره، و (جهولا) بقدر نفسه، حين ظن أنه صاحب إرادة، والذي ورطه في هذا الظلم، وهذا الجهل، خفاء الأمر، ودقة مأتاه، ذلك بأن الله، جلت حكمته، سير الغازات، والسوائل، والجمادات، تسييرا قاهرا ومباشرا، (قل أانكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أندادا، ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء، وهي دخان، فقال لها، وللأرض، إئتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها، وزينا السماء الدنيا بمصابيح، وحفظا، ذلك تقدير العزيز العليم).
    وهذه هي بيئة الحياة، فلما تهيأ المكان في الأرض خلق فيها الحياة وأودع فيها (إرادة الحياة) وهي قوة تعمل، بدوافع حب البقاء، للاحتفاظ بالحياة.. وقانونها السعي وراء اللذة، والفرار من الألم، وأصبح تسيير الله للمخلوقات في هذا المستوى وهو مستوى النبات والحيوان، شبه مباشر، ومن وراء حجاب (إرادة الحياة) وهي إنما سميت بإرادة الحياة لأنها تتمتع بما يسمى الحركة التلقائية، وذلك لأن دوافع حركتها، وقوى حركتها، فيما يظهر، مودعة فيها. وهي حركة يستخدمها الحي في تحصيل قوته، وفي الاحتفاظ بحياته، والاحتفاظ بنوعه.
    ثم لما ارتقى الله تعالى بالحياة إلى مرتبة الإنسان، زاد على (إرادة الحياة) عنصرا جديدا هو (إرادة الحرية)، وهي إنما تختلف عن إرادة الحياة اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع. ثم سير الله تعالى البشر من وراء إرادة الحياة، ثم من وراء إرادة الحرية، وأصبح بذلك تسييره إيانا غير مباشر، وتدخله في أمرنا هو من اللطف والدقة، بحيث تورطنا في الوهم الأكبر.. فاعتقدنا أننا نملك إرادة حرة بالترك أو بالعمل.. واليكم آيات هن آية في الدلالة على لطف تدخل إرادة الله في توجيه إرادتنا (إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم  إذ يريكهم الله في منامك قليلا، ولو أراكهم كثيرا لفشلتم، ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم، إنه عليم بذات الصدور  وإذ يريكموهم، إذا التقيتم، في أعينكم قليلا، ويقللكم في أعينهم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، والى الله ترجع الأمور).. فانظروا إلى هذا اللطف اللطيف، من جانب الإرادة الإلهية القديمة، إذ تتدخل في تسيير الإرادة البشرية المحدثة!!
    فالنبي يرى أعداءه في منامه قليلين فيصمم على مقاتلتهم، ولو رآهم غير ذلك ما قاتلهم، ثم عند اللقاء، يرى المؤمنون المشركين قليلين فيصمموا على قتالهم. والله هو الذي يري كل فريق من الفريقين أعداءه قليلين، ليقضي الله أمرا كان مفعولا. كل ذلك من غير أن تنزعج (إرادة الحرية) ومن غير أن تشعر بتدخل خارجي في أمر من أمورها، يملي عليها، أو يسلبها حريتها.
    خلق الله الإنسان ضعيف البنية، وبغير مخالب ولا أنياب، ليكون اعتماده على الحيلة أكثر من اعتماده على القوى الجسدية. وجعل طفولته طويلة ليكون اعتماده على الآخرين أكثر من استقلاله بأمر نفسه. وضعف بنيته، وطول طفولته ألجآه ليعيش في جماعات، ولقد تحدثنا عن نشأة الجماعة، وكيف أنها أقامت العرف الذي يقيد نزوات الأفراد، ولقد كان القتل الذريع جزاء وفاقا لكل فرد يتورط في مخالفة العرف الذي ارتضته الجماعة، وقد يكون غضب الآلهة في انتظار هذا الفرد بعد موته، ليذيقه من ألوان العذاب فوق ما أذاقته الجماعة، ولقد كان الخوف من غضب الجماعة، ومن غضب الآلهة يؤرق الفرد، وهو لا يزال يعمل عمله في حمل الأفراد على ترك مخالفات القوانين.
    وبنشأة المجتمع البشري البدائي دخل صراع في البنية البشرية بين قوتين.. بين الحيوان القديم الذي يعمل (بإرادة الحياة)، وقانونها السعي في تحصيل اللذة بكل سبيل، وبين الإنسان الحديث الذي يعمل (بإرادة الحرية)، وقانونها تحصيل اللذة التي لا تتورط في غضب الجماعة، ولا غضب الآلهة، بمخالفة العرف المرعي، مما تكون عاقبته ألما باقيا في الحياة وبعد الممات.
    فإذا كانت اللذة المبتغاة لا تنال إلا عن طريق مخالفة أمر الجماعة، وهو دائما أمر الآلهة، فإن اتجاه إرادة الحرية التخلي عن ابتغاء تلك اللذة، رجاء الحصول على لذة أكبر منها، من ثواب الجماعة، ومن ثواب الآلهة، وذلك خير وأبقى. وبهذا دخلت في الحياة القيم التي تجعل الفرد البشري يضحي باللذة الحاضرة في سبيل لذة مرتقبة، أو يضحي باللذة الحسية العاجلة في سبيل لذة معنوية عاجلة أو مؤجلة، كرضا المجتمع عنه، وثقته به، وثنائه عليه، أو كرضا الآلهة عنه، ومجازاتها إياه، في هذه الحياة، أو في الحياة المقبلة.
    واستمر المجتمع البشري ينمو ومعه ينمو عرفه وعاداته، ويتجدد هذا العرف، ويتخذ صورا دقيقة، وحاسمة، ويجئ أنبياء الحقيقة، ويدخل تشريع الحرام والحلال، واعتبارات الجنة والنار، وأوصاف الإله. فان أنبياء الحقيقة، ورسل الإنسانية لم يجيئوا ليقولوا للناس أن لهم خالقا، فإن ذلك قد سبقتهم إليه رسل العقول. ولكنهم جاءوا ليعينوا العقول على معرفة الخالق بتعليمها أسماءه وصفاته وأفعاله.
    وأما أنوار العقول فإنها قد نشأت من نار الاحتكاك الذي ظل جاريا بين (إرادة الحياة) و (إرادة الحرية) بفعل الخوف القديم، الذي دفعته في قلب الإنسان الأول القوى الصماء، التي زخرت بها بيئته الطبيعية التي عاش فيها.
    ولقد قلنا أن إرادة الحرية لا تختلف عن إرادة الحياة اختلاف نوع، وإنما تختلف اختلاف مقدار، ونعني أن إرادة الحرية هي الطرف الرفيع، الشفاف، من إرادة الحياة.. أو قل هي الروح، حين تكون إرادة الحياة بمثابة النفس.. فإرادة الحياة حواء البنية البشرية، وإرادة الحرية آدمها، والعقل هو نتيجة اللقاء الجنسي بين آدمها وحوائها هذين. وفي مرتبة اللقاء الجنسي الذي ينتج العقل فإن لإرادة الحياة اسما آخر، هو الذاكرة، وإرادة الحرية هي الخيال. والذاكرة هي حصيلة التجارب السوالف جميعها، ومن ثم فقد أسميناها النفس، في موضع آخر، وقد ورد أن القصاص المراد به تقوية التخيل عند من يحتاج أن يوضع بالقصاص في موضع ضحيته. والتخيل هو إسم آخر للذكاء، وهو القدرة الدراكة، والإرادة الكابتة لرغايب النفس التي لا يرضى عنها القانون. والذكاء يعمل في توجيه رغايب النفس بفعل الخوف فيه - أو قل بفعل الرغبة والرهبة فيه - وهو، كلما أحسن السيطرة على رغائبها، كلما زاد قوة ومقدرة على التمييز. وهي قد تزداد مطاوعة، أو تزداد تمردا، تبعا لمقدرته هو على العدل، أو عجزه عنه، وركوبه مركب العنف والشطط.
    وإذ ولد العقل في بيت منقسم، من أبوين متشاكسين.. أم شهوانية، جامحة، شديدة النزوات، كثيرة الرغايب، وأب ضعيف، جبان يسوقه الخوف إلى العنف، فيرد مطالبها في شدة وصرامة، قد تبلغ به أن يحيف عليها ويكبتها في غير موجب للكبت، فإن طفولته لم تكن سعيدة، بل كانت طفولة مشردة، حانقة، كثيرة الجنوح والانحراف، وقد ظهرت عليه خصائص أبويه، وأثر فيه جو البيت الذي ولد فيه، فجاء منقسما على نفسه أيضا، بعضه يقف في مناهضة بعضه الآخر، وقديما قيل (البيت المنقسم لا يقوم).
    ولقد ترسب الخوف في أغوار النفس منذ نشأة الحياة، وقبل ظهور البشر على مسرحها، ثم نشب الصراع الطويل بين (إرادة الحياة) و (إرادة الحرية) الذي صحب ظهور البشر على مسرح الحياة، والذي لا يزال يتسعر ضرامه إلى اليوم، ولقد نتج عن هذا الصراع أن بعض الرغائب المحرمة، والتي كانت تتحرك طليقة قبلا، قد كبلت بالأغلال، وكبتت، وأصبحت حبيسة في سراديب مظلمة من حواشي النفس. وكل هذه الرغائب أصيلة، وكثير منها، لطول ما حبس في الظلام، فقد البصر، وفقد القدرة على الحركة، ولكنه لم يمت، وهو ينتظر أن يفرج عنه، من هذا المحبس يوما من الأيام.
    فالنفس البشرية اليوم معرضة لآفات كثيرة.. خوف ترسب فيها قبل أن تصبح بشرية، وذلك بين فجر الحياة البدائية الأولية، وعهد ظهور البشر على المسرح، وكبت موروث منذ ظهور المجتمع البشري، وإلى أن يولد أحدنا، ثم كبت مكتسب في حياة الفرد، بين ميلاده ووفاته، حيث يتسلط القانون، والعرف، والرأي العام على تكبيل رغائبه التي لا تجد الموافقة على تحركاتها، وتعبيراتها في حرية وطلاقة.
    وكل الكبت بفعل الخوف، فالخوف، سواء كان الخوف البدائي، الساذج، الذي لا مبرر له، أو كان الخوف العاقل، الموزون، المعروف الأسباب، المعقولها، قد ترك طابعه على النفس البشرية بصورة مزمنة.
    والخوف، من حيث هو، هو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك، ولن تتم كمالات الرجولة للرجل وهو خائف، ولا تتم كمالات الأنوثة للأنثى وهي خائفة، في أي مستوى من الخوف، وفي أي لون من ألوانه، فالكمال في السلامة من الخوف.
    ولن يتم تحرير الفرد من جميع صور الخوف الموروث إلا بالعلم.. العلم بدقائق حقيقة البيئة الطبيعية التي عاش، ويعيش فيها، والتي كانت سببا مباشرا لترسيب الخوف في أغوار نفسه، فإن الخوف جهل والجهل لا يحارب إلا بالعلم.. ومن أجل ذلك وجب الاهتمام بإعطاء الفرد صورة كاملة، وصحيحة، عن علاقته بالمجتمع، وعن علاقته بالكون، وهو ما نحن بصدده منذ حين.

    من كتابات الأستاذ محمود محمد طه
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de