|
خواطر واحد شاهد مدينته بعد غياب عشر سنوات
|
ها هي مديني إذن! صاخبة لا تعرف للهدوء سبيلا، ولكنها تنام في السادسة . . . كأي طفل في السادسة! . إنها لا تبدو كما أعرفها، مديني التي أعرف كانت رقيقة كرقة أنثى في العشرين، هل شاخت، أم ترى أصابها المرض والوهن؟ عدت إليها بعد غياب عشر سنين قضيتها متسكعاً في أرصفة المواني . . . قذفتني ذات ليلة خريفية دامسة الظلام، في تلك الليلة لم تودعني مدينتي كما تودع الحبيبة عاشقها، ورغم ذلك أعود إليها اليوم كما يعود الطفل إلى ثدي أمه، ولكن ثمة خطب أصاب هذه المدينة، تبدو كعجوز أصابها الخرف، حائرة، تغطي جسدها التجاعيد، تتشبث بالهم والأسى، حتى هذه الأشجار العجاف بدت وكأنها تتمرد على أنوثتها المستكينة فوق أحضان النيل. هذا هو شارع النيل، يبدو وكأن النيل يغض الطرف عن مديني، هنا تتسارع خطوات النيل هرولة، كأنه يهرب من بشاعتها . . . أما قومي! ما بالهم صامتون لا ينبسون ببنت شفة؟ هل أصابهم الخرس؟ لماذا هم لاهـون هكذا؟ . . . يروحون ويغدون . . . يتسكعون في الطرقات، ملامحهم تنقصها الوداعة . . . إبتسامتهم ضاعت وسط زحام هذه الشوارع، يغدون ويروحون كأنما يشيعون أفراحهم، أجسادهم ناحلة، ثيابهم بالية . . . أما نظراتهم فحزينة متجردة من أي ملامح . . . قلق أنا في هذه اللحظة! يطوقني خوف كامن . . . هل هؤلاء هم قومي؟ كيف يمكنني أن أتكيف معهم؟؟ عبرت بنا السيارة كبري أم درمان . . . بدت لنا المدينة أشبه بقلاع من القرون الوسطى. . . حنين جارف يشدني إليها رغم ما يبدو بها من جفاء وفظاظة . . . يطبق عليها الغبار والعفن فتبدو مثل العجوز العارية . . . وهذه المنازل المتهالكة يحتويها الغبار من كل صوب فأصبحت كالبيوت المهجورة إلا من الأشباح . . . السيارة تعبر بنا نحو شوارع أم درمان، تكاد عجلات هذه السيارة أن تطير من هيكلها نتيجة لوجود هذه النتوءات في الشارع المؤدي إلى حي الموردة . . . - من فضلك! ممكن تشغل الراديو؟ يعلو صوت المطرب: (أنا أم درمان . . . أنا السودان . . . أنا الدر البزين بلدي . . . ) هل كان ذلك المغني يتخيل أن تستحيل هذه المدينة إلى هذا الحال؟ ها هي قبة الإمام، تقف متحدية كل تحولات التاريخ والجغرافيا وإن أصابها الانكسار –بعض الانكسار- فرياح الخريف عاتية ويصعب مقاومتها، ولكنها استطاعت أن تمارس بعض شموخها كل صباح ثم تعود أدراجها في تمام السادسة لتنام مثل أي طفل في السادسة . . . ! السيارة تدلف ناحية المحطة الوسطى، الجموع الكثيفة من الناس تحتوي المكان، يروحون ويغدون دون هدف. . . وما هذه الأكشاك الصغيرة . . . آه .. تذكرت! تلك محلات بيع الكتب، لم أرْ أحداً يدنو إلى هنا . . . يلهثون حول المكان ثم يرمقونه بنظراتهم التي لا تخلو من السخرية . . . هنا في هذا المكان كانت تعرض التجارب الإنسانية في كل أصقاع الدنيا، وهؤلاء القوم كانوا يتفاعلون مع الإنسان أينما وجد . . . تقترب الساعة من الثانية ظهراً، الطقس الحار يكاد يشوي هذه الأجساد التي لم يبق منها إلا القدر الذي يكسوها . . . الزحام يشتد ضراوة، أصوات كأنها استغاثة لبعض النسوة ، لا أحد يجيب ، لا أحد يتكلم، تعبر بي السيارة إلى أحد الأزقة الضيقة! المارة هنا أكثر من حبات الحصى . . . يتأففون في سرهم وفي علنهم ولكن لا ينبسون ببنت شفة!! - من فضلك! ممكن تشغل الراديو؟ ينطلق صوت الراديو عالياً . . . (الجلابية بيضاء ومكوية . . . يا حبيبي بيسحروك ليّ. . . !) ما هذا؟ سألت سائق السيارة! لم يأبه لسؤالي . . . رمقته بنظرة . . . رأيته وقد سرت فيه نشوة شاهدها للمرة الأولى . . . يا للعجب! إنه يتبسم، يا لسعادته . . . الآن فقط أدركت سر ذلك العبوس الذي يحتوي وجوه أولئك الناس!!
|
|
|
|
|
|
|
|
|