|
Re: الزمن ، و السن: نوستالجيا الألفة و الذكريا (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
الألفة والمتغيرات: حميد سعيد كلما عدت إلى مكان بعد غياب طويل، أدركت عمق ما ذهب إليه شيخي أبو الطيب، حين قال: خُلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لَفارقتُ شيبي دامع العين باكيا وربما بدا لقارئ هذا البيت من الشعر، إن الأمر يتعلق بالفراق وصعوبته وما يترك في نفس المرء من شجن وما يترك فيها من أسى. ومن المؤكد، إن الفراق، أي فراق، يترك لدى كثيرين من بني البشر، وربما لدى غيرهم من المخلوقات، إحساساً بالغربة والفقد والوحشة، لكن، تجاوز هذا الفراق بعد حين، والعودة إلى من فارقنا وما فارقنا، يفاجئنا بأن الذي نعود إليه، إنساناً أو مكاناً، هو غير الذي فارقناه، إذْ يكون قد تغيَّر، ونكون قد تغيَّرنا أيضاً، فلا تستقيم العلاقة به، إلاّ أن نستعيد الماضي بكل ما كان عليه، وذلك أمرٌ ليس صعباً فحسب، بل يكاد يكون مستحيلاً. من هنا، أدركت، إنْ كنتُ مصيباً في ما ذهبت إليه، فأنا أتحدث عن انطباع شخصي، قد يوافقني بعض من يطلع على هذا الانطباع وقد لا يوافقني فيه بعض آخر. أقول، من هنا، أرى في موقف أبي الطيب المتنبي، وهو ليس مجرد شاعر عظيم، بل هو مثقف ومفكر بلغت عنده المعرفة حداً، لم نعرفها عند غيره من الشعراء الكبار. إن حزنه الذي عبَّر عنه بالدموع والبكاء، ليس بفعل الفراق حسب، وإنما بفعل استحالة العودة إلى الحال الذي كان، فإنْ عُدنا، تكون العودة إلى مكان آخر، مع افتراض إن المكان الذي عدنا إليه لم يتغير، ووجدناه كما تركناه من قبل، وحين أقول: إلى مكان آخر، فذلك لأن من عرفنا فيه من الناس وألفناهم، قد تغيروا، سواء بأشخاص غيرهم، أم هم أنفسهم قد تغيروا، بتأثير الزمن ومتغيراته، واقعاً وقيماً، وحين يتغير المرء فسيولوجياً، من الطبيعي أن يتغير سلوكياً وسايكولوجياً. حين التقى الشاعر جرير بامرأة اسمها بوزع، وقد عرفته شاباً، كما عرفها شابة، لكن حين التقته بعد غياب طويل، كان يتوكأ على عصا، فاستغربت حالته تلك، فقال: وتقول بوزَعُ قد دببتَ على العصا هلاّ هزئت بغيرنا يابوزعُ فهي الأخرى، قد بلغ بها الحال ما بلغ بجرير، ولكنها ألفت حالها، فنبهها جرير إليه، بسخرية لاذعة، عُرِفَ واشتُهِرَ بها، وكأنه أراد أن يقول لها، أنظري إلى حالك يا بوزع، فلست وحدي الذي بلغ به الحال إلى حد أن يتوكأ على عصا. وحدث لي ذات يوم قريب، أن وصلتني صورة تجمع عدداً من مثقفات عربيات مهاجرات، بينهن زميلة قديمة، كانت جميلة الجميلات حقاً، غير أن التي في الصورة، امرأة أخرى، فسارعت إلى محو الصورة، ولأنني أعرف أن لامجال لأن نلتقي، فقد أحببت أن أحتفظ بصورتها التي في الذاكرة. وقرأت قصة قصيرة للصديق عبد الرحمن مجيد الربيعي، عن كاتب كان قد أحب زميلته في الجامعة، وباعدت بينهما الأيام، إذْ ظلَّ مقيماً في بلده، بينما أقامت مع عائلتها في إحدى المدن الأوربية، وشاءت المصادفة أن التقيا بعد أكثر من عشرين عاماً، في ندوة ثقافية، فأسرع إليها وأسرعت إليه، لكنهما اكتشفا خلال لقاءاتهما على هامش الندوة الثقافية، بأنهما، هي وهو، غير الشابين المتحابين اللذين جمعت بينهما أعوام الدراسة الجامعية. ومنذ عامين زرت إحدى العواصم العربية، كنت في ما مضى دائم التردد عليها، وطلبت من مضيفي بإصرار، أن يحجز لي في فندق، اعتدت في تلك الأعوام أن أقيم فيه، ووجدت الفندق كما عرفته من قبل، لكن كل من كان فيه قد تغيَّر، الإدارة والعاملون والذين كانوا يترددون على المقهى الملحق به، فأحسست بغربة، ندمت بعدها على هذا الاختيار، فالألفة مهما كانت صادقة وحقيقية ، لا بد أن تفعل بها المتغيرات أفاعيلها.
حميد سعيد
| |
|
|
|
|