حي السودنة العتيق من أقدم الأحياء الأتبراوية شيده الانجليز لإسكان كبار الموظفين والعاملين بمرفق السكة حديد على نفس النسق المعماري للريف الانجليزي عندهم في بلادهم ، واشتق هذا الإسم بعد أن تم سودنة منصب مدير عام السكة الحديد التي كان يشغلها آخر مدير إنجليزي يدعى مستر فاركرصن وتعيين بديلا له السيد محمد الفضل كأول مدير عام لسكك حديد السودان بتاريخ ١٩٥٧/٠٧/٢٨م .
ما أن تدلف لهذا الحي العريق وحتى عهد قريب إلا وتتراءى أمام ناظريك لوحة فنية بديعة تحبس الأنفاس تجعلك مشدوهاً أمامها عاجزاً عن التعبير لفرط جمالها الذي يسحر العقول وبذهل الألباب ، فهذا الحي هو مزيج مبهر من العمران الراقي والخضرة الساحرة والحقول التي تحيط بالحي من كل جانب ، حيث تجد الحدائق المثمرة والشوارع المسفلتة والجداول التي يسمع خرير مياهها وهي تتدفق وتنساب لري الحدائق ، فضلاً عن أشجار الفواكه بأنواعها والزونيا التي لم يسلم طالبيها من مطاردات الغفراء والحراس ..
تنبعث من كل جوانب هذا الحي روائح الزهور والفل والياسمين المتسلق الذي يتصدر قائمة نباتات الزينة التي تنشر عبقها وشذاها .. حقاً أن تلك الحدائق بأزهارها متعددة الألوان التي تتألق وأطيارها المغردة التي تصدر أصواتاً جميلة تجعلك تسبح في فضاءات رحبة من عوالم الجمال .
قف تأمل وأنت ترى أشجار اللبخ الظليلة التي تحبس وصول أشعة الشمس للأرض لاستتارها بالأشجار إلا من بعض الضياء حيث يلقي الشرق على ثيابك من خلال تلك الأغصان الكثيفة وفتحات الظلال التي تحدث بفعل حركة وحفيف الأشجار لمعا من أنوار الشمس وكأنها دنانير تفر من الأيدي فلا تستطيع الإمساك بها مما يجعلك تستحضر قصيدة المتنبئ الشهيرة في وصف شعب بوان التي تقع بأرض فارس حيث أنشد في بعض أبياتها :
وألقى الشرق منها في ثيابي *** دنانيراً تفر من البنان
مهما وصفت وأسهبت في وصف هذا الألق والجمال الذي يعمر هذا الحي العريق فلن أستطع إلى ذلك سبيلا ، فهو أشبه بقصور الأمراء والملوك في العصور القديمة التي كانت تجري من تحتها الأنهار وتعد من جنان الله في الأرض ، فهذا الحي تحيط به الأشجار من كل جانب ، ومهما تلفت يمنة ويسرة ورجعت ببصرك كرتين لن ترى إلا أرضاً مخضرة وثماراً يانعة وأزهاراً ورياحين تملأ كل أرجاء الحي .. لن أكون مجازفاً أو مجانباً للصواب إن قلت أن أهل هذا الحي يتنفسون من الهواء أنقاه ويشربون من المياه أعذبها وتخلو أرضهم من الهوام والحشرات المؤذية !!!!!!!
يتكون هذا الحي من عدة وحدات سكنية تختلف من حيث المساحة وعدد الغرف ويتم إسكان العاملين في قطاع السكة حديد طبقاً لتصنيفات مراتبهم الوظيفية Category حيث نجد الفلل الكبيرة التي تكون بداخلها حدائق ملحقة بها يشرف على تشذيبها وريها عمال متخصصون في التصميم وتنسيق الحدائق ، وتتدرج تلك الوحدات السكنية من ناحية المساحة وعدد الغرف حسب الوظائف لكل فئة ، كما أنه تم تخصيص أقسام في السكة حديد لمتابعة صيانة تلك الوحدات السكنية ، فما أن يقوم الساكن بتبليغ مكتب الصيانة هاتفياً عن طلبه وإلا وتجد خلال دقائق معدودات فنيي وعمال الصيانة المختصين على جناح السرعة وهم يرنون الجرس الخارجي للمنزل لتقديم المساعدة وعمل ما يلزم حيال ذلك .
أجمل هذه الفلل السكنية على الإطلاق هو المنزل الذي يحمل الرقم (1) المخصص لمدير عام السكة حديد ويقع عند التقاء الأتبراوي بنهر النيل ويتميز بكبر مساحته لاستقبال الضيوف وإقامة الحفلات الخاصة بهيئة السكة حديد ، و يتألف هذا المنزل من طابقين أبدع الإنجليز في تصميمه المعماري كما هو حال فندق السودان بحيث يتسنى لك رؤية النيل من جميع نوافذ الغرف التي يصل عددها إلى ثمانية ، وكذلك بقية الفلل لأصحاب للمستويات القيادية من في السكة حديد من الدرجة الرابعة فما فوق فكلها من نفس الطراز مع اختلاف عدد الغرف والمساحة طبقاً للوظيفة ، وقد تم تخصيص كمية من العاملين لكل مسكن مثل السفرجية والطباخين وعمال الحدائق وعمال النظافة وحراسة الشرطة ، وقد كان يقوم السيد / محمد عبد الرحمن وصفي مدير عام السكة حديد آنذاك بالصرف عليهم وتحمل رواتبهم من موارده الخاصة ولكن لم يستمر الوضع حيث تخلى عنهم المدراء الذين أتوا من بعده .
لم يغفل مصممو هذا الحي وجود المنشآت والمرافق الرياضية للترويح عن الموظفين عن أنفسهم ولممارسة الرياضة اليومية فنجد نادي الخريجين للترفيه وملاعب القولف والسلة والباسكت والتنس وميادين كرة القدم ذات النجيل الطبيعي وحوض السباحة .
تملكني الحزن والحسرة لما آل إليه حال هذا الحي الجميل فقد تغير حاله وبكت أشجاره ونثرت أغصانها وأوراقها على الأرض معلنة الحداد على وداع الجمال و شاكية الإهمال الذي ضرب بأطنابه ، لقد تشقق الأسفلت من الحزن غضبان أسفا معلناً تمرده على هذا الإهمال الجسيم ، واستبدلت روائح الزهور بمخلفات الحيوانات المنتشرة في الحي ، وأصبحت أرض هذا الحي جرداء قاحلة وانعدمت الصيانة وتردى حال النظافة مما جعل هذا الحي كئيباً يشكو حاله وتصحره أراضيه وجفاف أشجاره بالرغم من وقوعه على مرمى حجر من مياه النيل العظيم ،
هذا التردى المريع وانعدام الخدمات وافتقار الحي لرونقه وجماله هو نتاج طبيعي لما آل اليه حال السكة حديد عموماً والتي بات التردي فيها لا يخفى على أحد وعودة هذا الحي للجمال الباذخ مربوط بعودة السكة حديد لسابق عهدها وهذا ما يجعلني أحس بالتشاؤم الذي يلفني وأفتقد حتى لبصيص الأمل وضوئه الذي ينبعث من آخر النفق .
كسرة :
أيام الإكسيريس والبوفيهات (السناتور) تأخر العامل في إحضار وجبه طلبها راكب في الدرجة الأولى مما جعله يغضب ويصرخ في وجه العامل ( عليك الله لو الإنجليز لهسع موجودين كنت بتتأخر كده ؟؟؟) .. رد عليه العامل ببرود ( لو الإنجليز لهسع موجودين شكلك ده ما حيركب هنا في الدرجة الأولى .. )
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست