|
Re: ( بانوراما الأرض و الترحال ) (Re: ابو جهينة)
|
كل الرجال أعمام و كل النساء خالات. ،، يقبلون الأيادي و يلثمون الجباه. كما ورث عبد الحليم ، على الجروف أمتارا تمتد حتى داخل النيل ،، يطلقون إسم (جَدِه) على الطريق الضيقة الملتوية التي تخترق (اللوبيا ). و من خلال المزروع على الجروف حتى مربط المركب ( المشْرَع ) و يستمر الإسم ملتصقا بهذا الدرب إلى أن يرث الله الأرض و ما عليها و من عليها.
جدران البيوت الطينية ،، تحكي طبقاتها ،، جهد الحبوبات و الأمهات و الأخوات و الجارات ،، يتجمعن على ( الزلابية و اللقيمات ،، و كفتيرة شاى ضخمة تكفيهن شر الانقطاع عن العمل ،، يتجمعن للياسة الجدران و أرضية الحوش ( يتنادين خفافا و ثقالا مثلهن مثل الرجال )،، مشمرات عن أكمامهن يختلط عرقهن السائل مع الزنجبيل في أكواب الشاى كل طبقة تحكي عن زمن مضى ،، و جيل يعقبه جيل ..
و لو نبش فيها ( عالم جيلوجيا ) و تحدثت الجدران عن مكنوناتها ، لوجد بين طبقاتها قصصا لم تدخل أضابير كتب التاريخ عندنا ،،
طبقات تحكي عن ( بنات ) مثل السمحة بت العمدة ( سعدية ) أم شلخا ( زى جدول المالية ( ،، التي كان التغزل البريء بها مباحا ،، حتى صال أكثر من ( جميل بثينة ) في جمالها بتأدب لا يتجاوز خطوط ( الحشمة). و جال أكثر من ( كثير عزة ) في صفاتها بفخر و إعزاز ،، فيختلط الغزل بالأدب و العشق بالمباهاة في إعتلاج فريد ...
و لكن شعلة الحب التي تتوهج في قلوب هؤلاء العذارى ،، تظل في القلوب سرا يحرق الخيالات البكر ، يفرهد في الدواخل بأمل يخبو ثم يتقد كفتيل لمبة الجاز في عتمة الحجرة الطينية،، حتى يأتي أمر العمدة في فرمان شفوي بأن زواج فلانة من علان بعد الدميرة و حش التمر ، ،، فترضى من ترضى و و ترضخ من ترضخ ،، و لسان الحال يقول : المكتوب في الجبين لازم تشوفو العين
و كم من جبين يظل ناصع البياض من لحظة الميلاد و حتى الممات ، و كم من عين رأت مكتوبا لم ترغب فيه و لم ترض عنه.]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ( بانوراما الأرض و الترحال ) (Re: ابو جهينة)
|
و لوجد أيضاً الباحث فيما يجد لو قام بالتنقيب ،، قصة الداية التي تأتي من طرف الحلة في ليلة ظلماء غاب عنها القمر ، على ظهر حمار ( أعرج ) دونما سرج تعتليه ،، تدلدل رجليها المدسوستين في حذاء ( العروسة المصنوع من البلاستيك اللين ) ، و محتويات شنطة التوليد المعدنية التي تحتضنها ، في ) رجة و ضجة ) تموسقان خطوات الحمار ، و نباح كلاب الحى تزفها لبيت الحبلى ، معلنة أن الداية في مهمة لتضيف رقما جديدا في إحصائية القرية.
و لوجد أيضا ،، أن شيخ المسيد ،، بزوجاته الأربعة ،، يستل سكينه من ضراعه و يذبح الذبيحة تحت ظل شجرة ، مستقبلا و إياها القبلة ، مبسملا و محوقلا و مكبرا ،، و يرسل في طلب زوجاته مبتدئا بالكبرى ( حفاظا على التسلسل والترتيب الهرمي للإحترام ) و يقول لكل واحدة من زوجاته منفردة في همس و هو يتلفت يمنة و يسرة كمن لا يريد أن يسمعه أحد لشيء في نفسه ، و هو يناولها نصيبها من اللحم :
هاكي ،، كومك أكبر و أسمح ،، بس ما يشوفنو ضراتك.
دهاء فطري بدخل في صلب علم النفس.
يقول هذه الجملة لكل واحدة منفردة ،، حتى تشعر كل واحدة منهن بأنها ( ذات حظوة و دلال عند النصيح حديدو ) ، فتهرول بكنزها الحنيذ إلى ( التكل ) لتتفنن في طبخه و هي حريصة على أن لا تدخل عليها واحدة من ضراتها حتى لا ينكشف (تحيز ) بعلها ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ( بانوراما الأرض و الترحال ) (Re: ابو جهينة)
|
و لوجد المنقبون و الباحثون فيما يجدون بين طيات الجدران ،، أن المغترب إلى مصر في ذلك الزمان ( الطاعم ) ،، كان يأتي سنويا وقت يشاء ( بلا تصاريح للسفر ) ، يعود محملا بصندوق إسكندراني خشبي ( السحارة ) ، و هو غاية الإغتراب و منتهى الأمل في ذاك الزمان البهي،، فيوزع الكولونيا ،، و الصابون و ( القمر الدين )،، و أقمشة ( غزل المحلة ) ،، و أقمشة ( الكرب روبر ) و ملاياتها ،، و يوزع عشرات الرسائل التي أتى بها من هناك ،، و يأخذ هذه على إنفراد و يقول لها وصية شفوية من زوجها ،، و يأخذ ذاك في ركن قصي لينقل له رغبة إبنه في الزواج من تلك،، فيحتفي به الرجال بدعوته على ( زير مترع بمشروب الدكاى ،، أو النبيت المدفون في باطن الأرض شهورا ) فيتحكر في الجلسة و هو يحكي مغامراته و صولاته و جولاته ،، و يندفع يضيف من خياله الكثير كلما سمع إستحسانا من الحضور ،، و تتوالى الدعوات من هنا و من هناك ،، و يمتلىء بيته بالحملان و العتان و الدجاج و البيض ( في تكافل لا نظير له )
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ( بانوراما الأرض و الترحال ) (Re: ابو جهينة)
|
و لوجد أيضا فيما يجد ،، قصة الحزن الذي خيم على أهل القرية عندما إنقلبتْ المركب في عرض النيل ،، و غرق عدد كبير من الفتيات الصغيرات ،، و كأن النيل لا زال يرغب في ( قرابينه القديمة ) فأبتلع هذه الزهرات ، فكان في كل بيت مناحة ، و في كل قلب جرح بليغ ،، يجتر أهل القرية هذه الذكرى الأليمة ، كلما فردوا شراع مركب يمخر عباب النهر الخالد ، و كلما غضبتْ الأمواج فأرتفعت مزمجرة تلطم جوانب المركب الخشبي فيتطاير الرذاذ على الوجوه ، و كأنها تنذرهم بأنها لا تزال عطشى للمزيد.
ذلكم هو عبد الحليم .. يوم أن مات والده ،، و ترك له هذا الميراث الذي لا يقدر بثمن ،، و هذه اللوحة الأزلية التي لم تتغير ألوانها على مر الزمان.
و تمر الأيام على ضفاف النيل ببطء لا يجارى سرعة دولاب الحياة في بقاع أخرى من المعمورة ،،
تمر بتراخٍ ، كبطء قواديس الساقية تجرها بقرة حردانة يلهب ظهرها سوط الصبي التربال المدندن بالغناء ، بطاقيته الحمراء المهترءة و الساقية تئن في إيقاع سيمفوني مع صوته الشجي. و ذنب البقرة الحرون يروح و يجيء ليهش الذباب و كأنه عصا ( مايسترو ) يقود كورال الساقية و التربال.
من القرية ... سافر سعد ، و جبر الله ، و حامد ، و سر الختم ،، كلهم سافروا للحاق بركب الكسب السريع و العودة بحقائب تبهر الفتيات ، و ليضوع منهم عطر ( البروفيسي و عطر الكاشيت) ، و تتوهج على معاصمهم خواتم الذهب و الفضة و ساعات ( السيكو و الأورينت ) ،، و ليعتمروا عمائم من ( التوتال الإنجليزي وارد عبد الصمد ) و ليوزعوا علب الماكنتوش و علب البنسون و ولاعات الرونسون و تياب ( أب قجيجة ) و بخور ( الند ) وارد باب شريف بجدة .. ... و ( عبد الحليم ) صامد لا تغريه المغريات ، قناعته فريدة ... متشبث بأرضه ،، حفرتْ أصابعه علامات صبره على مقبض المنجل و الطورية ، و تزين راحتيه طعنات أشواك النخيل و آثار فتْل الحبال . الشقوق في كعبيه و قدميه غافل عنها و عن صغائر أخرى.
صلب كصخور ذلكم الجبل الذي يقف شاهدا على أن أحد أحفاد أولئك العمالقة ، ما زال يحمل في جسده جينات الصمود يقاوم قساوة السموم ،، و يكرع من ماء النيل العكران بالطمي ، و لا يشتكي من ( إلتهاب في المعدة ) أو ( جفافا في البشرة ).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ( بانوراما الأرض و الترحال ) (Re: ابو جهينة)
|
و رغم هذه الصلابة في العود و هذه القوة في الشكيمة ،، إلا أنه يحمل بين خافقيه قلبا عامرا بالحب و الوفاء لأرضه و لأهله. يأتي المسافرون ،، تنبهر الفتيات ،، تفرح الأمهات ،، تحبل الزوجات ،، تنطلق الزغاريد في زخات معلنة عن زواج ،، ثم تعود كل هذه الطيور المهاجرة لمنافيها.
و عبدالحليم ،، يستقبل ،، و يكرم الوفادة ،، و يودع ،، ليعود و يستقبل ،، حركة مستمرة في دولاب أيامه ،، كحركة مواسم الزراعة ،، المحصول تلو المحصول و كحركة النهر الخالد ،، فيضان و إنحسار.
كل من وقف و حمل معه الطورية سافر و هاجر ،، تركوه لهذه الأرض ،، يفلح قدر إستطاعته و قدر طاقته ، يحمد الله إن تغدى ببضع تمرات ،، و يشكر الله إن تعشى ( بقراصة يطفو عليها السمن و الحليب ). حاولوا أن يأخذوه معهم ،، و لكنه رفض ، و إستنكر محاولاتهم المتكررة ،، و دائما ما يقول لهم و هو يحدق في النهر عبر فرجات النخلات :
أنا و النخلات دي واحد ،، عروقنا ضاربة جوة الأرض و واصلة لغاية النيل . لو ما غرفْت من موية النيل بإيديْ ديل و شربت ،، و لو ما أكلت الدفيق المنقرو الطير ،، و لو ما دخل جوفي الهوا الجايي يهفهف بين سعفات النخيل و قناديل العيش. ما بحس إني عايش
و يتواصل عشقه لطين الأرض .. و نخلاته و جروفه .. تنتظره محاصيل المواسم .. أو ينتظر هو مواسم المحاصيل .. كلاهما سيان ..
| |
|
|
|
|
|
|
|