هي مقارنة بين حالتين ، ويلاحظ أن المقارنة ما شملت ندي القلعة نفسها ، بل شملت الأستاذ الجامعي وأحد أفراد فرقتها من ناحية ما يتقاطاه كل منهما ماديا ،وهذا العازف المختار للمقارنة هو أقلهم نصيبا من العطاء المادي ، وندى القلعة وعازفو فرقتها لهم مجالهم ، وللأستاذ الجامعي مجاله ، وعندما تعلم أن الكفة تميل ميلا صارخا لصالح عازف فرقة ندى القلعة ، فإنك لابد أن تقف علي أهمية المجال الذي يمارس فيه عمله بالنسبة للمجال الذي يمارس فيه الأستاذ الجامعي عمله ...هذه الأهمية هي التي تميز دولة عن دولة وأستاذ جامعي أو معلم عن عازف في فرقة غنائية ، علي هذا الأساس يمكن أن تخمن موقع هذا العازف من الإعراب في تركيا مثلا حيث يأتي المعلم بعد الوزير من حيث حجم الراتب ، أو في الصين حيث يعطي للمعلم شقة مجهزة وتدفع له فواتير الماء والكهرباء والغذاء ويستلم أعلي راتب بين الموظفين ، أو في الهند حيث تتكفل الدولة ببناء بيت وتجهيزه وسيارة وفتح حساب جاري له ... وإذا تمعنا في أحوال هذه الدول ، لوجدناها كلها متقدمة ، فهل كان صدفة أن كان تقدمها مرادفا لتعاملها الإيجابي تجاه المعلم في شخص من يمثله معلما أو أستاذا جامعياً ؟ بالتأكيد لا لأن الدول يمكن أن تصنف علميا بواسطة بحوث تقوم بها معاهد مثل معهد التراث في بريطانيا والذي يصنف الدولة علي أساس مركزها في تسعة محددات هي : جودة الإقتصاد ، بيئة العمل ،الحكم ،التعليم ، الصحة ، الأمن والسلامة ، الحرية الشخصية ،الرأسمال الإجتماعي والبيئة الطبيعية ، الملاحظ هنا أنه لا يوجد قط ما يخص ندي القلعة أو عازف فرقتها ...ولكن دعونا نقف علي عنصرين من العناصر التسعة ، هي التعليم وبيئة العمل ، وإذا علمنا أن مركز السودان حسب معلومات بحوث المعهد المذكور في التعليم هو رقم مائة وأربعة وأربعين من بين مائة وتسع وأربعين دولة ، وفي بيئة العمل رقم مائة واحد وأربعين من بين مائة وتسع وأربعين دولة ...هنا ينهض السبب الذي نهض بالفرقة التي نهضت بعازفها فوق العلم وفوق العلماء ...وينسجم موقع الجامعات السودانية في سجل ترتيب الجامعات العالمية تماما مع هذا الواقع ، ذلك أن انحطاط موقع المعلم أو الأستاذ الجامعي إنما هو عمل خدمته سياسات تنسجم مع الإنحطاط العام ، وكمثال لجامعة هي احدي منتجات ما سمي ب (ثورة التعليم العالي ) في أثناء فورة الشعارات التي صدحت يومها مثل ( حنفوق العالم أجمع ) ( لا لدنيا قد عملنا ) ( هي لله ) هذه الجامعة كغيرها من الجامعات لا يقوم لها مقام بالتأكيد إلا بتوفر أهم عنصرين ، هما الأستاذ والطالب ، الطالب في قاعته والأستاذ في مكتبه ، أما بقية الهياكل فهي سنن ومستحبات ... فتعال إذن لتقارن مكاتب الأساتذة وقاعات الطلبة بمكاتب الإدارات بمكيفاتها وأثاثاتها والتي هي حقا تستحقها ، ولكن أين ما تستحقه بيئة العمل للذين تضمهم شبه زنزانات وهم العناصر الأساسية التي وفرت أسباب قيام الجامعة ؟ فمثلا هل يمكن أن تسمح إدارة الجامعة بانتقال بعض الإدارات بكل من فيها إلي مكاتب يشغلها أساتذة كانت فيما مضي حمامات ؟ وبالتأكيد لن يتجاسر طموح أي من هؤلاء الأشقياء فيحلم بمكيف ،ثم إذا كان كل مكتب من مكاتب الإدارات يشغله فرد أو اثنين أو ثلاثة يحتاج في تكييفه لمكيف ، فكم مكيف تحتاجه قاعة تتسع لسبعين أو ثمانين أو مائة طالب مع أستاذهم لتستقيم بيئة عمل ؟ مع العلم أن الجميع بشر يحسون بنفس درجة حرارة المدينة ، أساتذة كانوا أو طلبة أو إداريين أو حتى عمداء ...ثم انظر كيف يوزع المال الذي جمع بمجهود العطاء الأكاديمي الذي جاء بمهاجرين يدفعون بالعملات الصعبة وآخرين يدفعون في نطاق القبول الخاص ، هذا غير الزيادات التي تتوالي من جميع الجهات ، رسوم تسجيل ، مصروفات دراسية ، دبلومات ، رسوم استخراج شهادات وغيرها...ومع ذلك تصاب الكرامة العلمية في مقتل لما يأتي عالم ليمارس عمل ممتحن خارجي في لجنة مناقشة لنيل شهادة ماجستير، وتكون حصيلة ما يتلقاه بجميع تفاصيله اقل من الف ومائتئ جنيه والرجل أتي مسافرا تاركا أهله مدة لا تقل عن ثلاثة أيام ، أما تفاصيل المبلغ فتبوح بأن ما يدفع له مقابل ترحيله أكثر مما يتقاضاه مقابل العمل الأكاديمي ، وله خمس وسبعون جنيها للإعاشة ، إعاشة لو تناولها بمنطق الفول لسمحت له بوجبة واحدة يوميا ،بمعني أنه محكوم بصيام إجباري جزاء ما اقترفه من جريمة أن صار عالما ، أما المشرف علي البحث وقد قضي حولين كاملين مع الطالب يرشد ويراجع ويعدل فإن نصيبه ألفا جنيه أو أقل بينما ينال السباك في تركيب أدوات حمام كامل ثلاثة ألف جنيه وما استغرق العمل منه إلا ثلاثة أيام ، أما استحقاق الساعات الإضافية فهو يتصاعد من أحد عشر إلي ثلاثة عشرإلي خمسة عشربترتيب أستاذ مساعد ، أستاذ مشارك ،أستاذ بينما ينال السباك في تركيب طلمبة تستغرق منه ساعة مبلغ مئتي جنيه أما صبي الورنيش فيتقاضي ما يتقاضاه البروفيسيور في ساعة ،في تلميع ثلاثة أحذية في أقل من نصف ساعة ...هذا كله طامة كبري ، أما الطامة الأكبر فهي في التحكم الذي يشبه فرض الإرادة الإلهية في موضوع متى يصرف هذا الحق حتي بعيوبه تلك ، فقد يأتيك بعد أسبوع ،أو بعد شهر أو شهرين ، أو ربما لا يأتي بحجة أنه صار من حسابات سنة مالية انصرمت ، وعليك أن تتحمل الخسارة ، ولا تقل ليس لي يد فيها ...فهذه إرادة تسير بمنطق (فعال لما يريد )...بعد كل هذا هل يستغرب أحد أن يكون السودان في المرتبة السابعة من أصل أكثر دول العالم فسادا في الأرض أو أن تضم دار المسنين فيه صحفياً من حملة الدكتوراة ؟؟؟!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
Amina Saeed
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست