______ نشرب قهوتنا كلّ مساء في مقهى الأشباح، في حيّ المحيط، قبالة المارّة، مقابل أربعة دراهم فقط لكلّ كأس كبيرة. تستطيع أن تأكل سندويتش نقانق الدّيك الهندي بالبهارات، أو كفتة الحصان، ثم ارتشاف القهوة ببطء شديد ولذّة جنسيّة وأنتَ تدخّن وتتأمل المارّة وتثرثر مع صديقك ساعات وساعات دون أن تنتهي القهوة أو يتغيّر حجمها إلاّ خياليّاً. قال لي جواد أول يوم زرنا هذه المقهى: إنّ روّاد هذه المقهى كلّهم أشباح دون أيّ استثناء، بعضهم يأتي من مقبرة بحر الرّبَاط العامرة، التّي يحرسها سيدي الْيَابُورِي بعصا التّصوّف، بعضهم الآخر يأتي من سجن لْعْلُو المغلق على عروشه والفارغ منذ أكثر من ثلاثين سنة من السّجناء ومن حُرَّاسِهم. البقية يأتون من قلعة خَرِبَةٍ قبالة الأمواج العاتية كانت في السّبعينيات من القرن الفارط معتقلاً سريّا للتّعذيب حتّى الموت، أو ينزلون منارة مقبرة الشهداء المهجورة واحداً تلو واحدٍ بطريقةِ المنتحرين، يقصدون المقهى في صفّ لانهائيّ من النّمل دون أن يراهم أحد، حتّى يبلغوا كراسيّها المتشابهة، فيصيرون فجأة مرئيّين وهُم جلوس لمن يستطيع رؤيتهم. النّادل اسمه: إسماعيل. ننطق اسمه هكذا: سْمَاعِينْ. قرويّ أعزب وأخرس، جاء حافيا من مِيدْلْتْ، ليصير شبح نادل هنا دون أجرة، يخبّئ البقشيش في تبّانه، وينام وسط كراسيّ المقهى بعد أن يجمعها في الدّاخل في صفوف عالية متوازية، كالعمارات، كرسيّا فوق كرسيّ، محاذرا أن يتقلّب في نومه فتسقط فوقه. قال أحد روّاد المقهى ذات مساء بينما كنا جواد وأنا جالسين نحتسي القهوة: إنّ روّادا آخرين لم نرهم نحن ولم نسمعهم قالوا: إنّ ماسح أحذية ثِقَةً يأتي ليسترزق بمسح أحذية زبائن كرماء قال: إنّ امرأة عجوزا لا يمكنها أبدا أن تكذب وهي في تلك السِّنِّ قالت، مطوّحة بعكّازتها في الهواء: إنّ سماعين متهوّرٌ بَهْلُولٌ حقيقيّ، دهسته عجلات ماكينة حصاد رغم بطء سرعتها ذات ليلة غير مقمرة في مِيدْلْتْ، رآه الرّائح والغادي فشهدوا على ذلك شهادة حقّ مستعينين على رؤيته والتّأكد من ملامحه بمصابيح صغيرة كاشفة ذات بطّارية واحدة كبيرة أو بطّاريتين صغيرتين، بعضهم لا يملك مثل ذلك المصباح رأى مع الرّائين ما رأوه على أضواء مصابيحهم، أنّ عجلة ماكينة الحصاد الّتي تشبه عجلة دَبّابة سطّحت سماعين مع طريق جانبيّة شبه مهجورة بحيث صار كورقة الْبَسْطِيلَة دون أن يسيل منه دم، وأنّه والعهدة على الرّواة كان مبتسما في وضعيّته تلك. حين عادوا في الصّباح الباكر جِدّا قبل استيقاظ العصافير، ليفصلوه عن الطّريق كما تُفصل ضمادة لاصقة عن جلد الجريح، ليغسّلوه بماء السّاقية ويصلّوا عليه الظّهر في جامع القرية الصّغير جماعةً ويدفنوه في المقبرة التي على الهضبة، لم يجدوه، بل وجدوا صندله فقط، فقالوا إنّه هرب من موته. بعضهم جُنّ وصار يتيه في الأسواق القريبة والبعيدة طالبا الصّدقة من أهل اللّه. وواصلت العجوز كلامها ملوّحة بعصاها في وجه روّاد المقهى كأنّها تطردهم من هناك، أنّها هي أيضا من ميدلت، بل هي مِيدْلْتِيّةٌ أصيلة أبا عن جدّ، وأنّ روح سماعين هربت بالالتصاق بمؤخّرة شاحنة كانت متوجّهة بالصّدفة بثور يزن القناطير المقنطرة ليُذبح في مجزرة بالرّباط، وظلّت روحه لصيقة بحديد الشّاحنة طيلة اللّيل كقُرادة، حتّى أشرقت الشّمس أو كادت، فقفز سماعين دون أن يعرف في أيّ أرض هو ولا تحت أيّ سماء، فكان أن وطئ أرض الرّباط هذه، أرض سيدي اليابوري وسيدي فاتح وسيدي العربي بْنْ السَّايْح وسيدي القجيري وسيدي بْومْجِيمْرْ، فقَصَدَ أوّل محلّ رآه مفتوحا في تلك السّاعة الباكرة من الصّباح، كان ذلك المحلّ هو هذه المقهى، طلب فيها عملا، فوجده دون تسويف. بعد ذلك تسوّلت العجوز قليلا حتّى أعطاها البعض رشفة قهوة، وأعطاها البعض بقشيشا كان سيعطيه لسماعين. قال عنها أغلبهم كما قال الرجل الذي واصل كلامه: إنّها مجنونة مقاهٍ وأسواق لم تغير جلبابها منذ أجيال، والبعض قال: بل إنّها لم تقل سوى الحقّ المحقّق. قال لي جواد حين قرر أن يدلني على هذه المقهى قبل شهور، وهو صلة الوصل بين الأشباح في تلك المقهى وبين الأحياء ممّن لا يفهمون شيئا من ألغاز الجداول السّحريّة، ولا يستطيعون إلى فهمه سبيلا من فكّ شفرات العوالم الأخرى، ومعرفة أسرارها وألغازها وأخطارها الخفيّة، قال: إنّ الجاهل يمرّ من ذلك الشّارع فلا يرى أيّ مقهى، بل يرى فقط باب كَرَاجٍ مغلق على الدّوام، مركونة أمامه هياكل سيّارات معطلة قديمة الطّراز وهيكل شاحنة محروقة، بينما هو في الحقيقة باب المقهى الغاصّة بزبنائها، فلا يراها كما لا تراها أنت الآن إلاّ من كُشفت له الحجب، بل يستطيع أن يرتادها أيضا، ويشرب قهوته بين أشباحها بثمن أرخص، ويتفكّه بدغدغة النّادل سماعين أو بجرّه من أذنه كما تجري به العادة هناك من أمور التّفكّه والتّندّر، وإنّ الأشباح سيظنّون أنه شبح من بني جلدتهم ليس في عروقه دماء تجري، فلن يهتمّوا لأمره. وقال بعد أن جلسنا وهو يرتشف القهوة السّحريّة من فنجانها السّحريّ دون أن ينقص حجمها: إنّه حين جاء إلى حيّ المحيط أوّل مرّة ليسكن فيه قرب المحيط العميق، ويعمل في بيع السّمك في أسواقه لمن يريد أن يشتريه بثمن مناسب ويقليه أو يشويه. اكترى بيتا في زَنْقَةِ رُومَا على مقربة من الكنيسة الّتي بلا صليب، برقمٍ مَمْحُوٍّّ على الباب، وحين ذهب السّمسار وجد جواد داخل البيت صندوقا صغيرا في الباحة لم يكن ساعةَ دخلا معا ليتفقّدا الحُجُرات، فتحه فوجد داخله كتابا حين أخرجه اختفى الصّندوق فقرأ على الغلاف: خَارِطَةُ مَنَازِلِ وَمَقَاهِي أَشْبَاحِ رَوْضَةِ سِيدِي الْيَابُورِي وَالسُّجُونِ الْمُنْهَارَةْ وَأَخْبَارِ الْمَنَارَةْ وَأَسْرَارِ سَرِقَةِ أَرْوَاحِ الْمَارّةْ. عكف جواد على قراءة الكتاب أياما دون العمل في المرسى، حتّى وجد الطّريق السّالكة إلى المقهى إيّاها، التي ما هي في الظّاهر إلاّ كراج مغلق منذ الاستعمار لتمويه غير الأشباح من الآدميّين ممّن تجري في عروقهم دماء، ووجد في الكتاب طلسماً يجعله يَرى ما لا يُرى للجاهل من أمر تلك المقهى وأهلها، فأدمن الجلوس فيها واستراق السّمع لروّادها حتّى صار نصف شبح، وحين أخذني معه إليها أوّل مرة، ما كنت لأرى سوى باب المرآب وهياكل السيّارات المركونة أمامه وهيكل الشّاحنة المتفحّم العملاق. لولا أنّ جوادا أمسكني من يدي وقرأ الطّلسم الّذي يحفظه عن ظهر قلب وعن قلب ظَهْرٍ فانكشفت لنا الحجب. وكلّ مرّة كنا ندخل تلك المقهى بذلك الطّلسم، ونخرج به. قال جواد: إنّ أشباح المقهى يترصّدون أرواحا ساهية فيسرقونها من عالمنا إلى عالمهم، يسترقّونها ويستعبدونها هناك لخدمتهم إلى أبد الآبدين، وإنّ الشّرطة لا تستطيع فعل شيء إزاء ذلك، فتُقيِّدُ الدّعوى ضدّ مجهول أو ضد آدميّين أبرياء، والبعض يعزي ذلك إلى حملات اختطاف سري تقوم بها الدولة ضد معارضين، وإنّهم –الأشباح- لا يستطيعون سرقة روحينا ما دام يحفظ الطّلسم ولا يُلخبط كلماته، بل أن يقرأه كفقيه. كنّا في المقهى كعادتنا ذات مساء، نحتسي القهوة من الكؤوس دون أن تنتهي، ونتلصّص بالسّمع المرهف على أمور الأشباح وأسرارهم كموظّفي مخابرات، دون أن يفطنوا لأمرنا، حين أصابَ جوادًا مغصٌ مفاجئ شديد في بطنه بسبب سندويتش النّقانق، فسقط فوق الطّاولة كَثَمِلٍ تقطّعه سكاكين الألم وأنا أفرغ الماء فوق رأسه وأصرخ فيه أن يقرأ الطّلسم بسرعة حتّى نخرج لآخذه إلى أقرب مستشفى، لكنّه تلكّأ، ففقد الوعي أثناء القراءة، ومباشرة كفّ قلبه عن الخفقان، فمات. ثمّ لم تمرّ لحظة حتّى استيقظ وقد صار شبحا وجهه شاحب وليس في عروقه دم، فنكرني نكرانا غريبا ومخيفا شبيها بنكران الضواري لأشبالها بعد بلوغها، وانضمّ إلى جماعة من الأشباح يشربون الشّاي من برّاد مسحور ليشاركهم سمرهم. بينما بقيت أنا جاحظ العينين مذهولا لا أحفظ أيّ طلسم يخرجني من تلك المقهى، لأعود إلى بيتي في حيّ آخر، على الضفّة الأخرى من النّهر، خلف المرسى. حتّى سمعت البعض يناديني: سماعين.. سماعين.. يا وَلَدْ.. قم هات قهوة.. قم هات قهوة.. ويسحبني البعض من أذني متفكّهين، فأُقسم لهم أنّي لست من ميدلت وأنّي لست أخرس، واسمي بالمُطْلق ليس هو سماعين، فلا يسمعون كلام من بعروقه دم، بل يكتفون فقط بالقهقهة والتندّر والتّفكّه بدغدغتي ودفعي لأسقط أرضا حتى أحضر لهم القهوة في كؤوس كبيرة أضعها أمامهم فوق الطّاولات بعد أن أمسحها بِشِيفُونٍ أعلّقه على كتفي، وحين يعودون إلى مقابرهم ومناراتهم وسجونهم الفارغة قبيل الفجر أو بعده بقليل، أجمع الكراسي داخل المقهى في صفوف عالية، أنام بينها محاذرا ألاّ أتقلّب في نومي كلمّا رأيت في الكابوس ماكينة حصاد تدهسني، كي لا تسقط فوقي تلك الكراسي فأصير شبحا حقيقيّا كجواد. بل فضّلت أن أظلّ هكذا، نصف شبح، بتبّانٍ مليئ بالبقشيش، على أن تجفّ عروقي بالكامل من الدماء.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة