|
جاري العراقي
|
07:25 PM February, 26 2016 سودانيز اون لاين حاتم الياس-أمدرمان مكتبتى رابط مختصر جلست على الطائرة أتصفح جريدة الحياة اللندنية وأنتظر, صديقي الذي رافقني لتوديعي اشتراها من مكتبة بالمطار لتعيننى على ملل الرحلة أهداني أيضاً كوفيه فلسطينية دافئة ومتينة الصُنع ونحن نخرج من منزله باتجاه المطار تلفحت بها جيداً من برد صريح وعدائي نزل مبكراً. شعرت بلسعاته البارده تخترقنى فأصطكت عظامي لمرورها كآلة نفخ مشروخه .على مقعد فى الصف الأخير أخذت مكاني هناك اطالع الجريدة منتظراً لحظة الأقلاع ’ لم تكن مصادفة طيبه أن تقع عيني على عنوان كبير لكارثة جويه تقول أن طائرة سقطت بركابها فى مكان ما على صفحتها الأولي . تمرغ قلقي قليلاً فوق هواجس العنوان المخيف لكننى أطمأنيت لفكره قلت فيها لنفسي بأن الخالق لايمكن أن يكون متفرغاً لهذا الحد حتى يلاحقنى وحدي دون بقية البشر فى هذا التوقيت بالذات فثمة كون كبير وشاسع عليه الأنهماك فى تدبير شوؤنه.
شهر قضيته فى أوروبا والأن اعود للخرطوم في رحلة لم أخطط لها من قبل جاءت كسانحه سعيدة وغير متوقعه, أن تطأ فيها قدمي أرض تلك القارةالحسناء واشاهدها , لكنى على كل حال لم أكن بأى وصف مدرجاً ضمن فئة اولئك السياح المحترفين الذين دربتهم هواية الأسفار وتبويب متعها المختلفة فى سجلات العابرين ومشاهداتهم شغفاً وأكتشافا , بل كنت أحتقب استطلاع ضئيل أتجول به بين معالمها هنا وهناك, مثل طفل ريفي شاهد لأول مره مدينة الملاهي, فاضفي لاحقاً لأنداده الكثير من نسج الخيال. صورها ومعالمها كانت تمر بي كطيوف لمشاهد مستعادة من ذاكرة تلفاز أوسينما وحكايات قديمة أستوطنت حس صبا باكر عن قصص مشحونة بالمغامرات وحب الترحال سمعناها وشغلت احلامنا وقتها , وهذه كانت مؤونه كافية لغايات رحلتى قلت حين أعود ساتصدر بهاالمجالس عندما تسقط الحكايات فى التكرار ..عندها سأحكي
..هل أنت عراقي....قال وهو يصافحني مستأذناً الجلوس
رجل قصير بملامح ودوده ومرتبك قليلاً , جاء من خلف الطائرة الخالية حيث كان يجلس ومعه أخر لمحتهم عند دخولي ببزات وقمصان سوداء هادئين مثل تلامذة فى أنتظار بداية درس , هدؤ خجول يكلل وجودهما هناك لمحت ابتسامةً فرديت محيياً
لا سوداني..
قلت أن الكوفية والجريدة ربما اعطياني هوية للمكان الذى أنتمي اليه... أستأذننى الأطلاع على الجريدة , لم يقرأ منها الكثير واعادها بنفس الأرتباك والقلق ,هجس عقلي بظن خافت هل هما ارهابيان , تذكرت صديقنا الذى اعترته الهواجس من كثرة الجلوس أمام نشرات الأخبار فأصيب بفوبيا طفت بجموح متطرف أخل باتزانه الذى نعرف فكان يسمع عن تفجير سيارة مفخخة فى لبنان فيتجنب فى الصباح كل شوارع الخرطوم الرئيسية ومواقف سياراتها حتى يحل المساء
قال الرجل أننى اشبه العراقيين, فخمنت انه ربما يقصد أولئك العراقيين ذوى البشرة الفاحمة قاطني شطوط العراق فقذفت به موجة حنين للديار وأهلها من مكانه ذاك نحوي . ذلك كان أعلان نفسي مريح بأننى حقاً فى طريقى للبلاد فثمة أنطباع تركته خلفى باني كنت لمدة شهرمثل كائن غير مرئي يتجول بتقويم غير معتمد رسمياً فى سجل الحياة ’ لاتلتقطك أى اشارة تعلن عن وجودك حتى يداخلك أحساس بانك ربما أنحدرت ألى اقل وحده من فئة الأنتباه الأنساني الصالح للتداول ... أو هكذا خيل لى...!
حين زرت مصر بعد الثورة قلت أن تلك البلاد التى تجهمت روحها ولن تعود لسابق عهدها المرح طالت وقفتي أمام مرآة عند مدخل حمام البار منهمكاً فى حوار صامت ومغتبط مع صورتي الرجل المترنح فى طريقه للحمام وقف خلفى وقال ..لا والنبي أنت أأمر(قمر) .. أستمر يرددها بالداخل.. لا والنبي ضحكت وقلت .....عادت مصر الأن......
قال لى ذلك الرجل فى الخلف صديقي ومعنا زوجتى فى الطائرة..فألتفت نحو المقاعد الخالية فلم المح سوى ذلك الصديق ..أستطلع فى الأنحاء وجودها الغائب ؟
..لا أنها فى صندوق
أصيبت بحاله نفسية منذ وقت طويل وأنتحرت.. كنت معها فى المحطة ننتظر القطار ثم غافلتنا والقت بنفسها تحته لدي اربعة أطفال تركتهم خلفي هم أيضاً شاهدوا موتها وأنا ذاهب الأن لدفنها فى العراق
المضيفة تتثبت من الأمكنه والركاب ,تجهز الطائرة للاقلاع وصمت متاهب يخشع أنتظاره تحت الأزيز الخفيف للمحرك , التفت ركاب الطائرة القريبين من مكاننا للصوت القادم من المقاعد الخلفية ..الفااااتحه.. أرتبك الرجل لليدين المبسوطتين تجاهه كيف يتصرف هل يصافحهما هل يبسط يديه محاكياً بنفس الطريقة , هل هذا شكل معلوم من الدين نسي شعائره فى غربته تلك, لم يتشتت تفكيره كثيراً امام هذه المواساة الجامحة التعبير فرفع يديه وهمهم بخشوع وحين صافحته معزياً راجياً للمرحومة الرحمة والمغفرة دس وجهه فى المقعد وبكى بحرقة قاسية تحشرج صوتها بين دوي الأقلاع والأزيز....هبطنا فى أسطنبول
غادر بصندوقه ذاك نحو العراق وعدت أنا للخرطوم
|
|

|
|
|
|