الراحل البروفيسور علي المك ينعي صديقه عبدالعزيز محمد داؤود‎ .. ‎

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-19-2024, 08:00 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-23-2015, 11:51 AM

د.محمد بابكر
<aد.محمد بابكر
تاريخ التسجيل: 07-16-2009
مجموع المشاركات: 6614

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الراحل البروفيسور علي المك ينعي صديقه عبدالعزيز محمد داؤود‎ .. ‎

    10:51 AM Dec, 23 2015

    سودانيز اون لاين
    د.محمد بابكر-بحرى الشعبيه
    مكتبتى
    رابط مختصر

    Quote:
    "مولد زهرة الروض الظليل"

    مساء السبت الرابع من أغسطس 1984 م مات عبدالعزيز‎ ‎محمد داؤد، كان بدأ رحلته في طريق ‏الأبد مساء الجمعة، وانطلق الموت يلهث إلى قلبه‎ ‎الكبير، فمصير القلب الكبير إلى لهاث، وارتاح ‏الموت حين أسكته، لم اصدق كل ما حصل،‎ ‎وبعضه قد شهدت، ولم اصدق، في يوم الجمعة التي ‏بدأت فيها رحلة الموت كنت مدعواً في‎ ‎بيت أحد الجيران، والدعوة غداء والنهار حار ومضجر، لا ‏اعلم، تباطأت شيئاً، ولكني‎ ‎ذهبت علي كل حال، وجدت خلقاً كثيرين، كان منهم أحد المغنين، ودأبه ‏كان تقليد أداء‎ ‎عبدالعزيز، ولكنه بون شاسع، قال يبدي تظرفاً امقت صنوفه (صاحبك صوته خف) ‏قلت بحدة‎ (‎صاحبي منو؟) قال (عبدالعزيز داؤد) قلت ساخراً (ما هو أنت موجود!) ضحك القوم ‏ضحكاً‎ ‎كثيراً، تشاءمت، أكلت في عجلة، عدت للبيت، وحدي كنت، و في التلفزيون وجدت ألواناً من‎ ‎مسابقات الأولمبياد في لوس انجيلاس، لم تفد حالتي كثيراً، اعرف الاكتئاب النفسي‎ ‎يقيناً، كنت لا ‏اعلم من أمره، الاكتئاب، كبير شيء، ولكن الأزمنة الصعبة، والتمرس‎ ‎بمقابلة المكاذبين يبدون، ‏أول أمرهم، براءة أطفال، هد من صلابة النفس ونقائها‎ ‎كثيراً. عرفت الاكتئاب إذن. يقيناً. والجمعة ‏‏3 أغسطس كان يومه‏‎.

    وحين بدأت شمس النهار بالإخفاق أبصره حيث كنت في‎ ‎البرندة، سمعت حركة أقدام، ثمة من ‏يصفق، نهضت من موقعي، فتحت الباب، أمامي كان‎ ‎عثمان محمد داؤد، أحييه في حماسة، ثوان ‏وتخال دهوراً، لعله كان يود يختزل مجاملات‎ ‎التحية الطويلات ليقول لي شيئاً أهم كثيرا من ‏مجاملات السلام. توقف السلام، قال‎ (‎صاحبك جه من الأبيض عيان جداً) تركت التلفزيون يحفل ‏بالعدو والملاكمة والسباحة‎ ‎وانطلقت معه نبحث عن طبيب، وعدنا صديق طبيب أن يتبعنا، ذهبنا ‏إلى الخرطوم بحري، ما‎ ‎أنكرنا حي الدناقلة، كان بي حفياً منذ أن جعلته وطن الوجدان يكون في دار ‏عبدالعزيز،‎ ‎ذلك كان في أخريات الخمسين، جسر مطمئن علي الخور يفضي إلى زقاق فيه دار ‏عبدالعزيز،‎ ‎لا اعلم لماذا تفرست في معالم الجسر الصغير في ذاك الموعد من ذاك اليوم ولأول ‏مرة‎! ‎فوقه حصى، وعليه مع الحصى تراب، وكان يضايق السيارة انه علي حافي الجسر تكون ‏دائماً‎ ‎مجموعة صبيان، أقدامهم تزيد ضيق الجسر ضيقاً تخال أحياناً، إن أقدامهم تدعو إطارات‎ ‎السيارات أن تدهسها، تارة ينهضون من مجالسهم برمين، وأحياناً بذوق حسن، في ذاك‎ ‎الموعد ‏من ذاك اليوم لا صبيان ولا أقدام صبيان، ليس هناك من شيء علي الجسر إلا‎ ‎الحصي وإلا التراب، ‏صرنا إلى البيت، ثوان وتخال دهوراً، بعد الباب المضياف، وجه‎ ‎عبدالعزيز، كان جالساً علي ‏كرسي، اسند ظهره علي وسادات، تعبن علي قليل من راحة‎ ‎يحتاجها قلب متعب مجهد، مرهف، ‏أنفاسه تجعل من جلابيته شراعا تعبث به الريح وتنفخ‎ ‎فيه، لا تسعفه الأنفاس المبهورات، لم يتعود ‏هذا الإنسان الرائع أن يصمت، هش لي وبش،‏‎ ‎وضعت اكتئابي بين يديه، دأبي منذ أن عرفته، ‏يعرف ما يضايقني قبل أن أبوح به، نظر‎ ‎إلي، ضحك ضحكاً صافياً هزم به الأنفاس المبهورات قال ‏‏(أنت لسع محافظ علي جلابيتي‎ ‎الجبتها ليك؟) ضحكت بصفاء جعل الاكتئاب المر يتساقط من خيوط ‏الجلابية، يغادر نفسي،‎ ‎جلست انظر إليه، تذكرت لحظتها زماناً في الستين وكنت اعد نفسي للسفر ‏للدراسة في‎ ‎أمريكا. جاءني عبد العزيز وأهداني جلابية زرقاء اللون وفصلتها وحملتها معي، وحين‎ ‎عدت إلى الوطن سألني؟ ماذا أحضرت معك، إن شاء الله جلابيتي رجعت معاك؟) ضحكت، قلت‎ ‎‎(‎والله يا أستاذ كل الجبته معاي اسطوانات وفونوغراف) قال (بس! مرحب الغاب وجاب‎)!


    لم يكن عبدالعزيز داؤد يحدث كثيراً عن حياته،‎ ‎نشأته أو صباه أو مدارسه، ولم اكن كثير علم بذلك ‏وبعض ما عرفت كان من أحاديث سجلها‎ ‎للإذاعة يذكر فيها طفولته في بربر، وبعض مراحل تعليمه ‏ويبدر أنه قد درس في مدرسة‎ ‎الخرطوم الابتدائية وقتاً قصيراً، مدرسة ومكانها في قلب السوق، ‏ذكر عبدالعزيز أن‎ ‎نوافذ الفصل كانت تجلب الضوضاء خارج المدرسة، وضجيج المقاهي وغناؤها ‏ينبعث من‎ ‎الفونوغرافات، قال في خضم الجلبة الهائلة، يأتيه صوت كرومة عذباً صافياً، لكأنه‎ ‎خلاصة الخلاصة من ينابيع الفن، وذكر أن إنصاته لتلك الخلاصة ما ترك له بالاً أو‎ ‎عقلاً، فقد عرف ‏إذن طريقه فليس عنه يحيد، وفي تسجيل للإذاعة يروى انه سار على قدميه‎ ‎مسافة بعيدة ليستمع ‏إلى زنقار، ذكر أن الليل كان مظلماً، وحده، وأخطار الطريق،‎ ‎استأسدت عليه الكلاب، مزقت من ‏ملابسه طرفاً، أتمثل العبادى يقول (شق حشا الطريق‎ ‎اتيا من الحلال زفنوا الكلاب، ما نالن الا ‏علال) كلا فكلاب الطريق نالت من‎ ‎عبدالعزيز! من هنا وهناك تأتى أخبار بداياته، ذكر لي مرة انه ‏غنى (زمانك والهوى‎ ‎أوانك) لعلى المساح في نحو عام 1939م، كان عبدالعزيز شديد إعجاب بهذا ‏الشاعر‎ ‎العبقرى، وكان يبحث عن قصائده ويدونها ويغنيها، غنى له (طول يا ليل على الباسل) ‏وهى‎ ‎من بعد كلمة رائعة، أتذكر خاتمتها (جميع من سمى باسمو، حرام النار على جسمو)، وقد‎ ‎خلق بأدائه (غصن الرياض المايد) ثورة في الأداء تتشرف بها مطالع الستينات، وغنى له‎ (‎بالله يا ‏نسيم الصبا)، ولم يتم تسجيلها للإذاعة، وربما كان هذا هو السبب في أن لم‎ ‎يكتب لها ذيوع كثير ‏ومرة ذهب إلى عطبرة فسمع مطرباً مغموراً يغنى أغنية بهره لحنها‎ ‎لم يتذكر منها سوى قول ‏المطرب (مساء الخير يا أمير) ولكن اللحن استقر في حنجرته فلا‎ ‎يبرحها، وحين لحظ المغنى ‏إنصات عبدالعزيز المركز، شعر أن الرجل بسبيل أن يختطفها‎ ‎ويستعمرها فامسك عن الغناء، ولكن ‏قضي الأمر، استقر اللحن في ذهن عبدالعزيز، بقى‎ ‎النص، ليست هناك مشكلة سافر عبدالعزيز إلى ‏شندي، وحمل قضيته لمؤلف الأغاني على‎ ‎إبراهيم خليل، واسمعه اللحن وكانت الكلمات، بعضها ‏‏(عار الصيد منك عيون، أهدت ليك‎ ‎البانة لون).. مرة جاء من إحدى جولاته الفنية يدندن بلحن ‏فريد، من الحان كرومة،‎ ‎كعادته تعلق صوته الفريد بالمطلع، جن به جنوناً (نسايم الليل زيدينى) ‏قال إنها من‎ ‎كلمات عمر البنا، أين الشيخ عمر؟ قالوا يسكن مدينة الثورة .. وأين؟ ابحثوا عنه،‎ ‎إصرار وفريد، ذاك شأن عبدالعزيز، ذهبنا وصلنا، جلسنا في دار الشيخ، بصر و وهن، وجسد‎ ‎عليه ‏من آثار الأعوام الكثير، بشاشة معهودة فيه، هذا الفارس بالشعر، القوى بالقصيد،‎ ‎الشاب بإحساس ‏القلب الوثاب، الذي شهد النقائض تكون بين شعراء عصره، وكأن العصر‎ ‎الأموي فينا، وكأن ‏الأخطل وجريراً والفرزدق بيننا، ظاهر صالح عبدالسيد، وشارك في‎ ‎المعارك، وظهر الغناء كالذهب ‏النفيس، نحن في حضرة الشيخ الشاعر وهن بصره القوى‎ ‎بالشعر، عمر البنا، لم يمهله عبدالعزيز ‏فيكمل ترحابه لم يلق عليه القصيدة إلقاء، بل‎ ‎غنى ما علق بذاكرته منها غناءً عذباً استبدت بالشيخ ‏القوى بالشعر، هاشمية الطرب،‎ ‎شالته، بسمة رضا، صارت كل وجهه، جعل يهمهم، يدندن بصوت، ‏لا ريب قد عرف الغناء،‎ ‎صباه، بل حياته كلها، أنطقته هاشمية الطرب (آخ يا شافع .. يا سلام عليك ‏يا شافع‎ .. ‎يا شافع) .. نظرت إلى (الشافع)، فإذا هو ذلك الضخم، الطويل، العريض، عبدالعزيز‎ .. ‎فاجأتنا نسايم الليل إذن، انظر يحمل الشاعر سلامه النسيم ليس كمثل غيره من شعراء‎ ‎زمانه، بل ‏هو بمذهب شعراء المدائح ملتزم ومفتون، مثلهم يمزقه الحنين، تختلف الوجهة‎ ‎والمحبوب، لكنه ‏على المذهب مقيم، سلام أولئك الشعراء لا يحصى عدداً، يفوق أعداد‎ ‎الكمون والسمسم، سلام ‏شاعرنا مثل ذاك، لا يقع تحت حصر تأمل: سلامي بعد تجنينى‎.. ‎عليك وليالى سنينى .. في وصفك ‏وعد حنينى.. يغشاك مرفوق مع النسام روحى خلالو‎.. ‎تسلمنا القصيدة، انتشرت على حنجرة ‏الذهب، سخية الوقع والإيقاع واللحون ..

    لم يكن‎ ‎عبدالعزيز يتحدث كثيراً عن بداياته الفنية، ذكر ‏مختار عباس - صديق وحميم- انه قبلنا‏‎ ‎جميعاً، استمع إلى صوت عبدالعزيز، كان بهذا يباهى، وبه ‏يفاخر، قلنا كيف؟ قال (كان‎ ‎ذلك في عام 1943. كنا ماشين عرس في القطينة، مجاملة لصديق، ‏أجرنا تاكسى فورد،‎ ‎اتفقنا مع فنان من المشهورين، مشينا ليهو ما لقيناه، قعدنا مسافة ما ظهر، ‏أدانا‎ ‎طبقة زولك، زعلنا جداً اتكسفنا الجماعة هناك منتظرين، العريس والقطينة كلها،‎ ‎وبعدين؟ قام ‏صديقنا عبدالله محمد صالح قال يا جماعة ولا يهمكم، أنا بعرف واحد بغنى‎ ‎كويس، بس ما ‏مشهور، المهم نعدي الحفلة، أنا شخصياً ما كنت مقتنع بي كلامه، لكن‎ ‎قبلت، قلنا ليه يا عبدالله ‏زولك رين؟ قال طوالى بيكون قاعد في قهوة الزيبق، مشينا‎ ‎للقهوة، زولك عبدالله نزل القهوة، جانا ‏راجع معاهو واحد، أزرق زي الكحل، طويل،‎ ‎عريض، لابس طاقية، جلابيتو نص لياقة، ولابس ‏شبشب، ما معقول يكون ده الفنان؟ ما‎ ‎معقول! يا عبدالله، قلت ليه بالراحة .. ده فنان، واللا رباط، ‏المهم زولك ركب معانا‎ ‎ونهضنا على القطينة، ومما ركب كان بغنى، وبغنى أطربني شديد،.قلت ليه ‏يا عبد، الناس‎ ‎حتعرفك بعد عشرين سنة،
    في السكة يا زول موية العربية خلصت، زولك عبدالعزبز ‏من يومه‎ ‎دمو خفيف، والدنيا صقيعة والبحر بعيد، كنا ماشين بالطريق الفوق، رمال، رمال، مويا‎ ‎مافي وبعدين قلت ليك زولك عبدالعزيز من يومه دمو خفيف، وبحب يعمل مقالب قال: طيب‎ ‎أحسن ‏بدل نتعطل واحد يبول في اللديتر، واحد فينا سمع كلامو، قام البخار سخن من‎ ‎اللديتر والحصل ‏حصل)! وقد عرف الناس عبدالعزيز داؤد بعد ذلك بزمان لا يقل بحال عن‎ ‎عقد كامل من الزمان، ‏وقد بقى مختار عباس في حياة عبدالعزيز مستمعاً مخلصاً وصديقاً‎ ‎وفياً، وكان مختار زهرة ‏القعدات، وله فيها مواقف مشهودة ومشهورة، وكثيراً ما كان‎ ‎يمزق جلابيته طرباً، وكنت أخشى ‏مثل هذا الموقف، يبلغه مختار دائماً حين يبلغ‎ ‎عبدالعزيز في شدوه (خدام جناين يا نديم، لازلت ‏لامن انعدم) من رائعة الشاعر حدباى‎ (‎زهر الرياض في غصونه ماح). وكان عبدالعزيز يحب هذه ‏الجلسات الصغيرة، لأنها تجمع‎ ‎أصدقاءه ومعجبي فنه، وكانت له بعض أفدنة في الحلفاية، زرعها ‏برسيماً، وأقام عليها‎ ‎حارساً، ولكن عبدالعزيز لم يكن يعرف عن الزراعة أو التجارة كبير شيء، ‏وكسدت بضاعته‎ ‎وصارت المزرعة وبالاً بعد ان اقترض من البنك الزراعي مالاً وجعل البنك ‏يطارده،‎ ‎والفوائد تطارده، وأشباح المحاكم والحجز والبيع وهلم جرا، تغفل الحكومات كل أمر،‎ ‎وتستأسد أحيانا وذاك دين واجب السداد، وقد دفع من دمه ومن قوت عياله ما أسكت‎ ‎الأقساط ‏والفوائد حيناً، ولكن إصرار القوم شديد، فكتب عبدالعزيز خطاباً إلى‎ ‎المسؤولين يلتمس أن يشطب ‏ما تبقى من القرض، كان أهم ما فيه (لقد أنشأت هذه المزرعة‎ ‎أمنى نفسي أن أكون عزيز كافورى، ‏فصرت عزيز قوم ذل !).. ولقد اختفي عبدالعزيز بعد‎ ‎أيام ظهوره الأولي عهدا ليس بقصير، ومن ‏الناس من لم يكن يحب سماعه، وهذه سنة‎ ‎الحياة، ولكنه حين عاد للظهور، جاء بثورة في الفن، ‏ولم يسبق لها مثيل، كان‎ ‎عبدالعزيز صديقاً للسيد الدرديرى عمر كروم، كان الدرديرى مثل مختار ‏عباس يعرف ويثق‎ ‎بكل صدق، أن لعبدالعزيز صوتاً رائعاً وأداءً فريداً، وفي بيت الدرديرى في ‏الموردة؟‎ ‎كانت مجموعة من الأصدقاء تجتمع للسمر وسماع غناء عبدالعزيز، مرة كلم الدرديري، ‏برعي‎ ‎محمد دفع الله، أن يشاركهم في الجلسات، قال برعي (كنت بعزف العود كويس وما بفتكر‎ ‎إني كنت متميز خالص في الزمن داك، ما فكرت كثير في التلحين، جيت لي ناس الدرديرى،‎ ‎سمعت ‏عبدالعزيز بغني الأغاني القديمة، عزفت ليه انسجمنا جداً جداً، غناء عبدالعزيز‎ ‎من الزمن داك كان ‏غناء جميل، أداء سليم جداً، استمرت المقابلات، فهمنا بعض كويس‎)... ‎في عام 1950 سافر فريق ‏المريخ إلى مصر، كان من أعضاء الوفد الفنان إبراهيم الكاشف،‎ ‎كان الكاشف يظاهر فريق المريخ ‏في حماسة مشجعي الترسو، وكانت كرة القدم من صيم‎ ‎اهتمامات حياته، وله ولع بهذا الفريق لا ‏يخفيه، وقد عرف به وهو لا ينكر. كنا نعلم‎ ‎كلما سمعنا صوته الرنان نقول الكاشف مريخابي ومثل ‏هذا الصدق فتشجيع فرق كرة القدم‎ ‎أمر لم يألفه الناس من نجوم الأدب والغناء وغيرها، كثير من ‏هؤلاء خشية أن يفقد‎ ‎طرفاً من جماهيره يدعى الحياد، اذكر فناناً سئل مرة عن أي الفرق يظاهر قال ‏انه‎ ‎محايد وذكر انه يشجع اللعبة الحلوة، وقال آخر إنه يشجع الفريق القومي! على كل في‎ ‎قطار ‏المريخ عام 1950 سافر الكاشف إلى مصر، وكان معه برعي دفع الله، وحسن خواض‏‎ ‎وآخرون، ‏توقف القطار يسعى حثيثاً للشمال، في بربر جاء عبدالعزيز داؤد إلى المحطة،‎ ‎كان ساعتئذٍ يمضي ‏وقتاً في مسقط رأسه، بصر بالقوم قال على الفور(أنا مسافر معكم‎) ‎انطلق للبيت، أحضر متاعه، ‏وانطلق مع القطار المريخي إلى مصر، وهناك سجل بعض أغنيات‎ ‎الحقيبة لركن السودان .. برعي ‏والعود في يده ليس آلة. العود عند برعي إنسان يعشقه‎ ‎تحس أن للرجل علاقة مع ابن مدلل هو ‏العود، علاقة مع معشوقة هي العود، وعزف برعي عزف‎ ‎منفرد لا يطاول سماءه أحد، عود برعي ‏عود سوداني مثل اللون السوداني، ومثل العيون‎ ‎العسلية تكون على وجوهنا جميعاً، أن تفرد برعي ‏بأمر من أمور الموسيقى، فلأن الطبيعة‎ ‎قد منحته السر أن يعزف هذا‎ ‎اللون السوداني، وهذه السمة ‏التي لا نستطيع لها تفسيراً‎ ‎إلا أن نقول إنها شيء سوداني، وحين أذاع برعي في الناس معزوفة ‏‏(لحن الحرية)، عرفنا‎ ‎من بعد، إنه أعلن مولد الموسيقى الآلية، وأعلن مولد المعزوفة السودانية ‏المؤلفة‎ ‎تكون بعد المارش الشعبي، واختصت به، كانت، فرق الموسيقى العسكرية ويعبر عنه ‏بآلات‎ ‎النفخ الخشبية والنحاسية ثم ضروب من الإيقاع تؤديها طبول مختلف أحجامها.


    ذهبنا إلى داره‎ ‎في الدناقلة شمال، عبدالماجد بشير الاحمدى وأنا، كان الوقت عصراً، وفي اتحاد ‏طلاب‎ ‎جامعة الخرطوم حفل في ذات المساء وللرجل كانت سمعة مدوية في (التعليق) وعدم الظهور‎ ‎في الموعد المضروب، قال الاحمدى انه يثق في بلدياته عبدالعزيز وفي كلمته، الاحمدى‎ ‎من ناس ‏بربر، وكان بمدينته وأهلها يفاخر، كنت في شك من الأمر وكبير، اطل عبدالعزيز‏‎ ‎من الباب، رحب ‏بنا، قال سأحضر، وبر بوعده وغنى، ومنذ ذاك المساء توطدت صلتي به،‎ ‎وصادقته بضعاً وعشرين ‏سنة، لم نكن نفترق أثناءها إلا قليلاً، عرفت زوجه وأبناءه‎ ‎وأهله، وكأني بعض أهله، وحين ماتت ‏‏(فلة) وهى كلبة الأسرة، حزنت عليها زوجه حزناً‎ ‎شديداً، خاصة وان فلة قد الفت دار عبدالعزيز ‏جرواً صغيراً لحين أن أسنت وماتت، وكان‎ ‎عبدالعزيز قد أحس بحزن زوجته، فناداها وقد استبدت ‏به روح الدعابة فقال (يا فوزية‎ ‎شدي حيلك أنا شايف الجيران جايين يعزوك!). وكان مدخل كثير ‏من معجبيه إلى فنه غناءه‏‎ ‎أغنيات الحقيبة وخاصة ما كان منها من التراث المتلالىء، الذي كان قد ‏خلفه كرومه‎ ‎لوطنه وأبناء وطنه، ومن هؤلاء من زملائنا المرحوم اسماعيل بخيت عمر، ‏وعبدالسلام‎ ‎صالح (شلب) وفي الرجلين خفة روح ودماثة خلق لا تخفي، وصارا من بعد من ‏أصدقاء‎ ‎عبدالعزيز، و اذكر للمهندس عبدالسلام صالح إننا كنا أيام الطلب في الجامعة نسعى‎ ‎لإقامة ‏حفل بدار الاتحاد، وكلفنا أن نتصل بالفنان عطا كوكو، وكان عطا، رحمه الله،‎ ‎يعمل حلاقاً، وله ‏دكان صغير في سوق الموردة، وانطلقنا إلى هناك صباح يوم جمعة،‎ ‎لنخبر عطا بأمر الحفل. حين ‏بلغنا مشارف الدكان. توقف عبدالسلام وقال لي (تعرف يا‎ ‎أبو المك في مشكلة، عشان الراجل دي ‏أول ما يشوفنا حيفتكر إننا زباين! أنا اكتشفت‎ ‎انو شعرنا طويل، وما بنشبه ناس جايين يكلموه في ‏حفلة!).

    وذات يوم جاء عبدالعزيز إلى‎ ‎الإذاعة، رأى أن سيدتين ضخمتي الجثة تتقدمان نحوه، كانتا ‏مشهورتين بالدعابة ومن‎ ‎المعجبات بفنه، توقف عن السير، ينتظر، بلغت الأولى موقفه، وئيدة ‏الخطى، حيته، كانت‎ ‎الثانية، وهى اضخم جسدا لم تصل إليهما بعد، قالت الأولى (أظنك ما عرفتني ‏يا‎ ‎عبدالعزيز، أنا ما دار النعيم) ثم التفتت كأنها تريد أن تقدم صاحبتها إليه، لم‎ ‎يمهلها عبدالعزيز، ‏قال على الفور (عارف صاحبتك أتذكرتها دى مش دار الرياضة)؟!

    بعض‎ ‎المشتغلين بقضايا الشعر ‏السوداني يؤرخون له بأحد كتب الاختيار (شعراء السودان) الذي‎ ‎جمع مادته سعد ميخائيل وهو ‏كتاب له فضل الريادة في جمع مختارات من شعر شعراء ذلك‎ ‎العصر. وينسى هؤلاء فضل رجل هو ‏محمود عزت المفتى والذي جمع المختار من شعر شعراء‎ ‎العامية في ذلك العصر، وهو كتاب نادر ‏ندرة أسنان الدجاج (التعبير مأخوذ من الشاعر‎ ‎لانجستون هيوز): ويحوى الكتاب بين دفتيه قصائد ‏لخليل فرح، يوسف حسب الله، وإبراهيم‎ ‎العبادى وأبو صلاح وغير هؤلاء وكان عبدالعزيز يقتني ‏نسخة منه يحرص عليها حرصاً‎ ‎شديداً، كانت هذه النسخة بعضاً من مصادر فنه وينابيعه، ثم انه قد ‏أنشدني طرفاً مما‎ ‎كان انشأ خليل فرح، وبخاصة ما كان يسمى الخمريات، وكان عبدالعزيز هو أول ‏من تنبه‎ ‎إلى قيمة فن هذا الشاعر، وكان أول من غنى (عزة في هواك) بعد ظهور برنامج الحقيبة،‎ ‎ولا اعرف انه قد سجلها للإذاعة أم غير ذلك. وكان ينشد بعض أبيات الخمريات يصطنعها‎ ‎مطالع ‏لأغنيات الحقيبة، بأسلوب حر هو وسط بين إنشاد الشعر كما علمناه، وأداء‎ ‎المدائح المكتوبة باللغة ‏الفصحى، قر بذهني منها قول الخليل: أنا في بساتين الزهور‎ ‎بين الترايب والنحور اشرب معتقه ‏الدهور نداماى عصافير السحور جمدانه وابريقين وكاس‎ ‎ونديم وساقي خدوده ماس وجنينه سايقه ‏نخيل وآس أنا والحبيب ما معانا ناص ولقد أمد‎ ‎شعر الخليل هذا عبدالعزيز باستنباط طريقة في ‏الإنشاد استخدمها من بعد في قصائد ابن‎ ‎الفارض والبرعي وغيرهما مما سجل ولعل اشهرها ‏الميمية المعروفة (شربنا على ذكر‎ ‎الحبيب مدامة، سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم). ولعل هذه ‏القصيدة هي التي جذبت فن‎ ‎الفنان المصور والمخرج السينمائي حسين مأمون شريف إلى فن ‏عبدالعزيز، فجعلها مقدمة‎ ‎لفيلمه التسجيلي الرائع‎ dislocation of amber ‎ والذي ‏يحكى قصة الناس والبناء وحركة‎ ‎الحياة في ميناء سواكن، بغموضها وسحرها، وتجارة الرقيق. ‏هي كلمة حق يقولها المخرج‎ ‎باللون والحركة والصوت ثم يخلص حسين من ميمية ابن الفارض ‏في فيلمه إلى (انتم فروض‎ ‎ونفلي، انتم حبيبي وأهلي يا قبلتي في صلاتي، إذا وقفت أصلي، الله ‏الله) سنين بعدها‎ ‎ظل فن حسين السينمائي يطارد صوت عبدالعزيز. والتقيا، جاءني عبدالعزيز يوماً ‏في‎ ‎الجامعة كدأبه، وقال لي انه يريد أن يسجل شريط فيديو يقدم فيه بعض أغنياته، كان ذلك‎ ‎في ‏مطالع عام 1984، قال انه يريد أن يعطى للناس شيئاً لم يألفوه إذ هم قد سئموا أن‎ ‎ينظروا إلى ‏التلفزيون يستمعون إلى مغن تعزف خلفه الأوركسترا دونما تعبير أو حركة أو‎ ‎تغيير، حمدت له ‏حماسته، ثم قلت له أن الشخص الوحيد، الذي يقدر على هذا الأمر هو‎ ‎حسين شريف، كان حسين ‏شريف يود عبدالعزيز وداً كثيراً، وحين مرض حسين مرة مرضاً‎ ‎شديداً ألزمه الفراش زماناً، كان ‏عبدالعزيز يصحبني إليه، ويصعد إلى غرفته ويغنى له‎ ‎كل مرة أغنيته المفضلة (أمتى أرجع لأمدر ‏وأعودا)، ويطرب حسين كل حين يتقافز طربه‎ ‎بين آلامه الموجعة. وتحمس حسين للفكرة كأنه كان ‏بنتظرها، وكلفني أن أعد كلاماً، هو‎ ‎بالأساس رأى عبدالعزيز في أمور الفن والغناء، وجاء دور ‏الكاميرا لتسجل له هذا‎ ‎الكلام، حسين إذن (قد خلف العبء علي وولى). أشركني حسين في هذا ‏المجد، ماذا أقول،‎ ‎ماذا اكتب إذن؟ جاء الإلهام مرة واحدة شيدت كلامي كله الذي كتبته للفيلم ‏الموعود من‎ ‎صلتي بعبدالعزيز التي بلغت آنذاك بضعاً وعشرين سنة، لذلك حين بدأنا التصوير، ‏وكان‎ ‎في بيت أهل حسين في ود نوباوى كان عبدالعزيز يحدث الكاميرا والمايكروفون بكلام هو‎ ‎خلاصة أحاديث رواها لي، قد يكون قد نسيها، ولكنها جعلت إليه تعود كلمة، كلمة بصوته‎ ‎الدافئ ‏في الحديث. كان يحدث الكاميرا يقول (تعرف يا حسين اهلك من يوم ما ولدوك‎ ‎خاتين عينهم عليك، ‏عايزنك تبقى حاجة تقوم تطلع فنان؟، بفتكروا الفن عمل صياع لكن‎ ‎تحت، تحت، بطربوا ويرقصوا. ‏
    كرومة خلا حياة الناس بهجة، قهاوي السودان كلها تملا‎ ‎وتفضى بى صوتو، السباته في كل بيت ‏عرس مليانة عشان كرومة، الناس كانت تباريه طول‎ ‎الليل من محل لمحل، تعبنا نحن كمان عشان ‏نصل الإذاعة، المنافسة حادة قدامنا كان‎ ‎الكاشف وعبدالحميد يوسف واحمد المصطفي، وحسن ‏عطية والتاج، عثمان حسين والشفيع، عشان‎ ‎تظهر لازم تجتهد، زملاءنا كلهم كافحوا قبلنا كفاح ‏شديد لحد ما وصلوا،
    مرة كنت عملت‎ ‎فاصل غنائي في الإذاعة القديمة، وأنا طالع في الباب قابلت ‏واحد يشبهنى جداً، اسود‎ ‎زي الكحل عريض سمين، واهم من ده كله اصلع، كان شايل عود وداخل ‏الإذاعة، لما شفتو‎ ‎ضحكت ضحك شديد. قال لي: مالك ؟ قلت ليه: أوعى تكون جاي تغنى، قال ‏طبعاً! قلت ليه‎ (‎اسمع، أنا لما دخلت الإذاعة كان عندي شعر زي أولاد الهنود، قامت لي صلعة من ‏الغنا،‎ ‎هسع إنت داخل الإذاعة بى صلعة جاهزة؟ شيل شيلتك)!

    كان عبدالعزيز ينتظرنى بعد صلاة‎ ‎الفجر لنذهب إلى التصوير، لعله كان يحس دنو اجله، كان يحثنا على العمل، وسجل‎ ‎الأغنيات، ‏وحين انتهى التصوير، اطمأنت نفسه، وسافر حسين إلى واو وإلى كادوقلى‎ ‎بعدها، يعد فيلماً آخر، ‏وفي أمسية السبت الرابع من أغسطس 1984، والمطر يحيط‎ ‎بكادوقلى، ويضرب على سقف ‏الاستراحة وجدرانها، ما علموا ساعتئذٍ أن قطراته تنبئهم‎ ‎أنها دموع تذرف على العزيز الذي مات. ‏

    "الكمونية أخت العذارى"‎

    كانت اجمل الأغنيات تؤدي في الجلسات أو القعدات‎ ‎تكون في وداع صديق أو استقبال صديق، ‏أغنيات فيها حرية كمثل الحرية في الأمكنة‎ ‎الفساح، بعيداً عن لجان النصوص التي كانت، في أكثر ‏الأحوال، تجتمع وتنفض لترفض كلمة‎ ‎بعينها أو قصيدة كاملة .. وكنت أحضر كثيراً من هذه ‏القعدات بتنظيمها الدقيق، وكأنها‎ ‎ملاذ الفنان عبدالعزيز محمد داؤود، تصير فيه روح الفن ‏الرومانسي فيختلف إلى الغاب‎ ‎من ضجيج المدن والثقلاء ورسميات الأمور، حقا كان عبدالعزيز ‏داؤود، ربما عهد صباه،‎ ‎مولعاً بالطعام، وقد نسج الناس حول هذا الأمر حكايات عدداً، غير أن اكثر ‏هاتيك‎ ‎روايات فيها مبالغة، أو مغالاة، أو إسراف، يقولون انه في قعدة ما في الحتة الفلانية‎ ‎أكل ‏عبدالعزيز خروفاً، اعترف لي مرة، عبدالعزيز، إنه أتى علي صاج كبير من اللحم‎ ‎الشهي في بيت ‏عرس وقد شاركه (بالعزف) علي محتويات الصاج أحد الموسيقيين، هو بالواقع‎ ‎كثير الحديث عن ‏الطعام، يصفه وينتخب أطايبه كل حين يختلف فيه إلى السوق .. وذات يوم‎ ‎وكنا علي أطراف سوق ‏الموردة قطع علينا الطريق قطيع من الخراف، فأوقف السيارة‎ ‎احتراماً للقطيع وأعجبه خروف ‏فتسمرت عليه عيناه وسط القطيع، وكان خروفاً بني اللون،‎ ‎تمعن في ذلك اللون، ونبهني ‏عبدالعزيز إلى انه (خروف كموش)! ضحكت وهو صاحب تشبيهات‏‎ ‎لا تنسى .. اذكرها فيما يخص ‏صنوف الطعام، مثلاً كان يشبه الكستليتة بمضارب البنق‎ ‎بنق، ويقول عن الكمونية (كمونية أخت ‏العذاري)! لا اعلم لم اسماها كذلك، ولم أساله‎ ‎عن ذلك أبدا .. لعلي قد اكتفيت بطرفة التعبير‎!!

    كانت القعدات أيضاً مكان‎ ‎تجارب موسيقية وغنائية مدهشة، اعتاد بشير عباس أن يصاحب بعوده ‏عبدالعزيز في أغنيات‎ ‎لمطربين آخرين .. فما من جلسة حضرها بشير عباس إلا وقدم عبدالعزيز ‏فيها رائعة‎ ‎إبراهيم الكاشف‎ ‎(المقرن في الصباح) لخالد أبو الروس‎ ..

    الروض بسم‎ ‎والطير غرد‎ ..
    والطقس لا حر لا برد‎ ..
    الشمس إبان الشروق‎ ..
    أنا و الحبيب‎ ‎نجلس نروق‎ ..
    وسط الزهور العاملة روق‎ ..

    ويشجينا أيضا بأغنية محمد عوض الكريم‎ ‎القرشي وعثمان الشفيع (رب الجمال) وأولها (المالك ‏شعوري، أنا لي فيه آمال، رب‎ ‎الجمال) وكانت رب الجمال هذه ورب السعادة و سائر القرشيات ‏اللائي يسميهن الجمهور‎ ‎عاشق الغناء (الأرباب) قد وجدن من وقف لهن في الإذاعة بالمرصاد ‏فصارت رب الجمال (‎رمز الجمال) وشتان ما بين هذه وتلك، أعلم انه لو عاش هؤلاء القوم في ‏العصر العباسي‎ ‎لقتلوا بشار بن برد انه قال (ربابة ربة البيت) ومن لجان النصوص والمسؤولين ما ‏يقارب‎ ‎أن يشابه محاكم التفتيش‎.

    كان عبد العزيز صديقا لعباس بشير والد بشير عباس،‎ ‎ولعبد العزيز حبال صداقة وود مع كثير من ‏أهل حلفاية الملوك، ما تصرمت، وكان كلما‎ ‎سافر إلى بلد في أنحاء السودان وفيها عباس بشير إلا ‏زاره وأقام عنده، وفي 1956 حل‏‎ ‎عبدالعزيز مدينة سنار، وكان عباس بشير يعمل موظفاً بها، ‏وبشير بدأ حياته العملية‎ ‎هناك موظفاً بمصلحة الري، وكان عبدالعزيز قد جاء لحفل يقام في دار ‏السينما، ويعلم‎ ‎أن لبشير بدايات موفقة للعزف علي العود، فطلب إليه عبدالعزيز أن يصاحبه ‏بالعزف،‎ ‎وتلك كانت أول مرة وحدثني بشير عباس فذكر أن أول أغنية عزفها في ذلك الحفل كانت ‏هي‎ ( سمير الروح) من نظم الشاعر الملهم عبدالرحمن الريح‎..

    ولم تعد مدينة سنار‎ ‎تفي بأغراض بشير عباس الفنية وأشغاله .. فانطلق إلى الإذاعة بعد ذلك بعام ‏أو عامين،‎ ‎ولعل مصاحبته عبدالعزيز علي العود قد كانت إجازة فنية فتحت له أبواب الإذاعة، عين‎ ‎في مطالع يوليو 959ام سكرتيراً لأوركسترا الإذاعة، وفي واقع الأمر فقد كانت أخريات‎ ‎الخمسينات ‏وبدايات الستين تؤذن بعهد جديد في تطور الموسيقي والموسيقيين في السودان،‎ ‎كانت طريقة ‏بشير عباس في العزف علي العود تنبئ عن تأثر بليغ بالموسيقي العربية‎ ‎والمصرية بوجه خاص، ‏ولكن بشير عباس لم يستسلم لذلك الأثر، بل أفاد منه، ولم يجعل‎ ‎نفسه محل استسلام وخضوع لتلك ‏الموسيقي، فخلط ذلك التأثر بتربية فطرية سودانية‎ ‎صميمة، هي التي نسميها دون كثير حذر ‏طريقة بشير عباس، تحسها في‎ ‎موسيقاه وفي لحون‎ ‎الغناء التي صنفها، وكان عهد ظهور بشير ‏هو عهد جيل الموسيقيين من أمثال عازف الكمان‎ ‎محمدية الذي تأثر أو قل تعرض لذات المؤثرات، ‏وبأسلوب عبدالله حامد العربي أولاً، ثم‎ ‎درس في معهد الموسيقي في مصر وأجاد الأسلوب الشرقي ‏ولم يفقده ذلك موروثات الكمان‎ ‎السوداني من لدن السر عبدالله وحسن الخواض وسائر الذين .. ‏منحوا الكمان سيدة الآلات‎ ‎الموسيقية طراً، جنسيتها السودانية‎ ..

    سافر بشير عباس عام 1961م إلى القاهرة‎ ‎بصحبة عبدالعزبز داؤد، كان هناك حسن خواض ‏وبابكر محمد احمد وبرعي محمد دفع الله‎.. ‎ويذكر بشير انه وفي وجود برعي ربما لم تكن هنالك ‏من حاجة كبيرة إلى سفره إلى مصر مع‎ ‎الفرقة، ولكنه يبرر هذا أن عبدالعزيز كان بعيد النظر ولعله ‏عزم علي أن يمنح بشيراً‎ ‎فرصة (للتدريب) علي حد تعبير بشير عباس .. وقال انه حمل معه وعلي ‏استحياء أول لحن‎ ‎له هو أغنية (أشوفك) التي نظمها عبدالله النجيب لتكون بكورة تعاونه مع ‏عبدالعزيز‎.. ‎كان بشير يخشى أن يهمل عبدالعزيز شان أغنيته، ولكن عبدالعزيز تحمس للأغنية ‏وغناها‎ .. ‎ويعتز بشير بذلك كثيراً، إذ كان عبدالعزيز منذ بداياته قد قدم ألحانا رصينة‎ ‎السبك، جليلة ‏الصوغ، مثل هل أنت معي وفينوس وصبابة وغيرهن من ذاك العقد النضيد‎ ‎المتلالىء‎ ..

    في الجلسات حيناً بعد حين، تكون النكتة سيدة الموقف، وقد تاخذ‎ ‎مقاماً قريباً من الغناء، وقد تنبثق ‏فجأة رغم كل شىء، وقد يحكي عبدالعزيز لي ملحة‎ ‎أو نكتة انشأها أو سمعها ويريد أن يسردها ‏علي طريقته الفريدة يأتي إلى مكتبي في‎ ‎الصباح البكر يقول (سيد علي أنا جاييك بي واحدة بت ‏كلب) اقول له (طيب نسمع) ينطلق‎ (‎طبعا انت عارف اليومين دي الرعاة بقي عندهم سوق ‏وبيهاجروا كمان، عشان كدة اسعارهم‎ ‎عالية، المهم في واحد كان عنده خمسة غنمايات، قال احسن ‏يوديهم للراعي، قام مشي ليه‎ ‎وقال يا سيادتك تاخذ كم في الشهر وترعي الغنم ديل؟ صاحبنا ‏الراعي قال ليهو والله‎ ‎انت عارف اليومين الحكاية قرصت معانا شوية، يعني حنأخد منك مية جنيه، ‏كل غنماية بي‎ ‎عشرين جنيه! صاحب الغنم ضحك كدة وقال للراعي: عندى سؤال واحد الكتب علينا ‏ولا عليكم‎ ..

    حين اتجه عزمنا إلى تسجيل أغنيات الحقيبة، كتبت خطاباً حول هذا الموضوع‎ ‎إلى الاستاذ محجوب ‏عثمان، وكان وزيراً للثقافة والاعلام عصرئذ، فوافق علي الفور‎ ‎وأول أغنية سجلها عبدالعزيز فيما ‏اذكر كانت (عروس الروض‎) ..

    سارعي من قبل‎ ‎يشتد الهجير بالنزوح‎
    واسبحي ما بين طيات الاثير مثل روحي‎
    راذا لاح لك الروض‎ ‎النضير فاستريحي‎

    وهي قصيدة للشاعر الياس‎ ‎فرحات، وكان زنقار قد جعلها طرفا من تراث الغناء السوداني ‏فانتشمرت، في زمانه‎ ‎انتشاراً شديداً، وقد كان الفنان الممتاز زنقار من الفنانين الذين يكن ‏عبدالعزيز‎ ‎لهمم وداً شديداً، وكان معجباً به اشد الاعجاب، واذكر انها حين انتشرت بصوت‎ ‎عبدالعزيز وكلما سمعها صديقنا الموسيقي علي ميرغنى، بكي لفرط التأثر بالاداء‎ ‎الجميل، وسجل ‏عبدالعزيز ضمن هذا المشروع أغنيات عدداً، كنا نامل بالطبع أن تزيد‎ ‎ولكن تراكم الاشغال حان ‏دون بلوغنا ما كنا نروم، أما أنا فقد كان من دافعي كمستمع‎ ‎أن ينعم المستمعون كافة بسماعهم ‏غناء عبدالعزيز اغنيةصالح عبدالسيد ابو صلاح وكرومة‎ (‎كم نظرنا هلال) وقد سمعته يغنيها فيما ‏يشبه الاعجاز وكنت كثير الحديث عنها، في‎ ‎واقع الأمر، ما أزال، ويسألني الأصدقاء مداعبين ‏ولماذا كم نظرنا هلال، وانت مفرط في‎ ‎تشجيع المريخ؟ والرد عندي: لله في خلقه شؤون‎ ..

    وطرفة أخري، قال عبدالعزيز‎: ‎انه عاش في زمن ما شاب (درويش) يعتقد الناس أن فيه بركة، ‏وكان اذا قال مثلا (خالي‎) ‎يموت خاله في اليوم التالي، واذا قال (عمتي) تموت عمته في اليوم ‏التالي، وهكذا وكان‎ ‎أهله يخشون هذا كثيراً وفي ذات يوم وأهله كلهم في البيت صاح فيهم (ابوي)! ‏وفي اليوم‎ ‎التالي مات جارهم‎!!

    اللهم قد اخترت عبدالعزيز إلى جوارك، اجل لكل اجل كتاب،‎ ‎اللهم أن كان مسيئاً فتجاوز عن ‏سيئاته، وما كان عبدالعزيز كذلك، اللهم أن كان‎ ‎محسناً فزد في احسانه، وبالمعنى الذي نعلم فقد ‏كان براً بنا؟ عف اللسان، وعلمت من‎ ‎بعد أن مات انه كان يخرج إلى سور جامع ام درمان الكبير ‏عقب صلاة الفجر كل يوم جمعة،‎ ‎ويوزع علي المعدمين الفقراء عند سور الجامع مئات الارغفة .. ‏حدثني بهذا صديقي حسن‎ ‎يحي الكوارتي‎ ..

    كان الغبار مساء السبت الرابع من اغسطس 1984، يشيع معنا‎ ‎اعذب الاصوات في تاريخ هذا ‏الوطن غير مدافع، دونما ضجة، أو ثرثرة في الصحف، هو اعذب‎ ‎الاصوات في تاريخ غناء ‏السودان غير مدافع، اقولها لا ارجو تأييداً من احد، ولا‎ ‎تعضيداً، واري الان بعض اصوات ردىء ‏الغناء تريد لتثري من أغنيات عبدالعزبز، من‎ ‎هؤلاء من حاكي مذهبه في الاداء، يصيبني عمله ذاك ‏بتعاسة غامرة اقول لهذا أن انشاد‎ ‎عبد العزيز‎:

    بهديها روحي تقسما‎
    بدل الزهور في‎ ‎مواسما‎
    مهما النفوس قدرن سما‎
    دي الفي القليب ممضي اسما‎

    والتي ينشدها باسلوب الرميات الحر، مثل ما عهدنا‎ ‎من أيام سيادة غناء الحقيبة لم تصطنع (رمية) ‏قي واقع الأمر وانما هي أغنية لها لحن‎ ‎معروف وتؤدي به وهي أغنية (لي نيه في قمر السما) ‏لسيد عبدالعزيز، وقد تصرف‎ ‎عبدالعزيز في ادائها وجعلها مطلعاُ ينشده بحرية، وهو أمر لا يقدر ‏عليه إلا صاحبه‎ ‎الذي ابتدعه، والله تعالي اعلم، ثم هل يقلد مذهب في الاداء؟ ثم أن بعض اهل الفن‎ ‎الشعبي اسلموا لحونه (لكركبة) الايقاعات المنفرة، تصور لقد سمعت من يغني بتلك‎ ‎الايقاعات ‏المنفرة أغنية لبرعي وعبدالعزيز تعتمد اساساً علي استهلال موسيقي بارع،‎ ‎وعلي لازمات ‏موسيقية صعبة الاداء، تلك هي أغنية صغيرتي. والشيالون يرددون مع مغنيهم‎ (‎الشوق والاحلام ‏ما زالت تؤرق والسنين، هل كنت تعنين الذي ما تدعين، ما زلت اذكر‎ ‎خصلة عربيدة فوق ‏الجبين‎)..

    فوزية محمد حسين زوج الفقيد، خلف العبء، بعضه‎ ‎وهو جله،عليها وولي، عزة وعزام التوأمان ‏يصعدان درج التعليم صعوداً متفوقاً، عمران‎ ‎اكبر الاولاد صار من اهل فنون الطباعة، كان ابوه ‏العظيم طرفاً من حياته، صفيفاً في‎ ‎مطبعة، وداؤد في دبى، وعلاء الدين في شموخه، وعايدة تعمل ‏في الإذاعة، وماجدة تغني‎ ‎لابيها فيما قد علمنا، وشجرة النبق في ذلك البيت تجود بما تقدر عليه، ‏وقد تجادت في‎ ‎صباها بثمر حلو وفير، وقريباً منها غطاء بئر المجاري، وكان المجلس البلدي قد ‏اصدر‎ ‎قراراً بأن تحفر الابار في كل بيت علي نمط هندسة المجاري الحديث، وجاء الحفارون إلى‎ ‎بيت عبدالعزيز وقد استبد بهم الطمع، قالوا له يا استاذ البير بتجيب مويه في البيت‎ ‎ده بعد ما نحفر ‏عمق عشرة رجال، والراجل بكلف ميتين جنيه! ضحك عبدالعزيز ثم قال‎ (‎و..بتحفروه بي كم)؟‎!!

    واني مازلت اذكر والاسي بعضي وجلي وكلي والحزن تلك‎ ‎الليلة الرابعة من شهر اغسطس ‏‏1984م، والغبار ينشر الاسي، والمقبرة ذات الظلام واهل‎ ‎الفن قد تركوا الغناء للبكاء، اذكر أن ‏واحدا من المغنين المعروفين كان يغنى علي بعد‎ ‎خطوات من بيت الاسي في حفل عرس ليلة دخلت ‏الأمة (بيت الحبس) من قال أن الفن غير‎ ‎الاخلاق؟‎
    رد مع اقتباس
                  

12-23-2015, 02:44 PM

معاوية الزبير
<aمعاوية الزبير
تاريخ التسجيل: 02-07-2003
مجموع المشاركات: 7893

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الراحل البروفيسور علي المك ينعي صديقه عبد (Re: د.محمد بابكر)

    يا سلام يا محمد
    كان علي يود أبو داوود وداً يفوق الوصف
    كتب ذات مرة أن عبد العزيز لمّا يغني (زهرة الروض الظليل) كأنه يتلوها تلاوةَ
    الحقيقة كتب: (كأنه يتلو قرآناً)
    كلاهما رحل في قمة مجده وذروة عطائه
    اللهم ارحمهما كثيرا
    وهاك نكتته هذه التي استللتها من وسط المقال
وحين ماتت ‏‏(فلة) وهى كلبة الأسرة، حزنت عليها زوجه حزناً‎ ‎شديداً، خاصة وان فلة قد الفت دار عبدالعزيز ‏جرواً صغيراً لحين أن أسنت وماتت،
وكان‎ ‎عبدالعزيز قد أحس بحزن زوجته، فناداها وقد استبدت ‏به روح الدعابة فقال (يا فوزية‎ ‎شدي حيلك أنا شايف الجيران جايين يعزوك!).
                  

12-26-2015, 02:00 PM

د.محمد بابكر
<aد.محمد بابكر
تاريخ التسجيل: 07-16-2009
مجموع المشاركات: 6614

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الراحل البروفيسور علي المك ينعي صديقه عبد (Re: معاوية الزبير)

    ههههههههههههه الله يرحم ابوداوود وعلى المك وتسلم يا معاويه وكل سنة وانت طيب..

    (عدل بواسطة د.محمد بابكر on 12-27-2015, 12:38 PM)

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de