نقرشة بالعود

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 08:54 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-05-2015, 10:08 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نقرشة بالعود

    09:08 PM Nov, 05 2015
    سودانيز اون لاين
    ودقاسم-
    مكتبتى

    الليل ثابتٌ مكانه كتمثال قديم راكز على أرضية صخرية ، لا ينقشع ، ولا يتزحزح . والصبح بعيد لا يزال يتمطى في فراشه النائي وكأن البلدان المجاورة قد وفرت له دثارا ودفئا لا يريد أن يفقده .
    وما عرفت إن كان الليل هو الذي يصر على البقاء فيلفّنا بظلامه الدامس دون أن يترك لنا نقطة ضوء ، أم أن الصبح هو المتكاسل فيصر على حجب ضوئه فلم يصلنا بعد وكأنه ينتظر منّا تأشيرة دخول أو إذن مسبق ،
    ووسط كل هذا نحن لا نهتم . في أول الليل – كعادتي دائما - شربت حد الثمالة ، ثم - كما حكت لي زوجتي - نمت نوما عميقا علا فيه شخيري ، وتقلبت في فراشي كالملدوغ ، وكنت أرسل زفرة عالية مع كل انقباضة نفس ،
    إلا أنني لم أكن أحس بذلك كله ، أو استشعره لولا أن زوجتي بقيت ساهرة إلى جانبي تبلل شعر رأسي بالماء حتى أفوق مما أنا فيه . ما كنت أعبأ بالليالي ، ولا أهتم ببزوغ الفجر ، ولا أخرج من بيتي منتصف النهار ،
    ولم يكن الوقت يعني لي شيئا . كل ما يهمني أن أرتب أحوالي لقضاء الأماسي كما أريدها ، أو تأتي هي طائعة بكل ما أريد . أبحث عن مجالس المغنين والعازفين والشعراء ، ففيها أجد السلوى وأتناسى عذابات العمر كلها ،
    وأستعيد مرحا وسرورا افتقدتهما منذ أن افترق أبي وأمي ، ثم طردتني أمي خارج البيت . ومع هؤلاء فقط تنفتح مسام عقلي وتستوعب بعض تفاصيل العلاقات الإنسانية وأبعادها ، فأهيم وجداً وطرباً ، ويحلو لي الأنس .
    بعد طلاقه من أمي، سافر أبي بعيدا ، ولم يعد ، وانقطعت أخباره ، ولم يعد يسأل عنا أو نسأل عنه ، ثم سمعنا أنه توفي بعد حياة عادية ، وترك أرملة هناك تقوم على تربية ولدين وثلاث بنات .
    وقد قيل لنا أنه لم يترك لهم شيئا يعينهم على نشأتهم وتعليمهم ، ولم يترك وصية تعيننا أو تعينهم حتى على الصبر والاستمساك به .
    وأنا أردد تسبيحا تعلمته من أمي . لا أعلم إن كان مطابقاً لسنةٍ ، أو مخالفاً ، أو هو من سنن من هم قبلنا .. يا ربي ياسيدي تحقق مرادي وتأخر ميعادي ، هكذا كانت تقول أمي وتردد ،
    ولا أعلم لها مرادا بيّناً ، ولا أرى ما يهدد ميعادها ، فهي تعيش منذ رأيتها حتى يومنا هذا دون أن تطلب عونا من أحد ، وقد بلغت التسعين أو يزيد ، لكنها لا تزال تمشي معتدلة الظهر ، لا تستعين بعصا ، ولا تشكو ألماً ، ولا تزور طبيبا .
    كان هذا الدعاء يمنحني إحساسا طيبا ، وكأنه يهدهدني فأعود إلى نومي من جديد كلما انتابتني نوبة أرق، أو أحسست بما يكدّر علي حياتي ، فاطمأننت إليه ، وجعلت أردده ، فأصبح يجري على لساني مجرى اللعاب .
    ولم أشغل بالي أبدا بمعناه ومقصده ، لكني عندما راقبت بعض أمري بدقة وجدت أنني – بالمقارنة- يتحقق لي ما لا يتحقق لغيري . لكن ليس كحال أمي ، فأرزاقها كثيرة لا تنقطع . يأتيها نصيب من أبنائها المغتربين في عدد من دول العالم ،
    وهي جالسة في عقر دارها لا تحرك شيئا ولا تدير عملا إلا من شرب القهوة والثرثرة . لا تقبل رأيا من أحد ، ولا تدير حوارا مع أحد ، ولا تستمع إلا لمن تضمن لديه مصلحة . حتى حين كنا نحتج على تصرفات بعض أحفادها ،
    كانت تقول لنا : بكرة يكبروا وربنا يهديهم . لم تكن أمي تبذل مجهودا يذكر في تربية أحفادها ، ولم تكن قد بذلت مجهودا يذكر في الاهتمام بأولادها وبناتها من قبل . كانت تترك كل واحد منهم لنفسه ، ليخرج إلى الدنبا كما يريد هو ،
    أو كما تريده شلته ، فنشأ أولادها وبناتها المنحدرين أصلا من ثلاثة رجال نشأة غريبة لا تتلمس فيها وحدة في المنهج أو السلوك أو الفكر . لم تكن أبدا تسعى لإرضاء أحد ،
    لكنها لا تغضب أبدا من فعل يصدر من أحد أبنائها أو أحفادها مهما كان الفعل مشينا أو ضارا . وظلت تقابل كل أمر بابتسامة ، ودونما انفعال ، ودائما تردد دعاءها :
    ياربي ياسيدي تحقق مرادي وتأخر ميعادي . كانت فقط تدعو بهذا الدعاء وكأنها تردده تلقائيا فلا تمنحك إحساسا أنها ترسله من داخلها موجها إلى الخالق ،
    لكن يبدو لي أنها تعيش حياتها كليا معتمدة على هذا الدعاء . ولم أكن أعلم من علّمها هذا الدعاء ، أهي ورثته عن أحد والديها ، أم تعلمته من أحد الشيوخ العارفين بالله ،
    أم أن الله ألهمها له في لحظة صفاء فاستمسكت به فكان لها بمثابة مفتاحٍ لرزقٍ لا ينقطع . كان نصيب أمي في الزواج ثلاث زيجات ، طلقت منهم من طلقت ، ومات من مات، وبقيت هي تحتضن عددا من الأولاد والبنات والأحفاد .
    ورغما عن هذا الجيش الجرار الذي يدخل البيت ويخرج منه في أوقات مختلفة طوال اليوم ، فيضج البيت بالفوضى ، وتسيطر عليه العشوائية السلوكية ، فقد ظلت أمي تعيش في دعة، وسعة من أمرها ،
    يجري المال بين يديها كما يجري بين شاطئيه النيل حاملا السقيا والطمي وجزءا من غذاء الإنسان ، فتمنح وتعطي وتطعم وتكسو وتتصدق ولا تفلس أبدا . ويبدو لي أنني الوحيد في عالم أمي الذي نال غضبها ،
    فثارت ثورتها تلك ، وأمرتني بالخروج من البيت ، وأن لا أعود إليه أبدا .
    لم أكن أتودد أمي ، أو أسألها أن تمنحني تصدقا أو كرما أو جودا . كنت أرى أنه لزامٌ عليها أن تعطيني ما أريد ، وأن تجعل لي نصيبا منتظما من ثروتها المنسابة دون جهد ودون عرق .
    لكنها لم تكن تتقبل هذا ، فالإحساس بالغنى حوّلها إلى امرأة قاسية متسلطة ، تنظر إلى الناس من علٍ ، خاصة الذين اعتادوا أن يحصلوا منها على بعض الفتات أو الذين يتزلفونها وينافقونها .
    ويظل هذا ديدن أصحاب الأموال ، يتحصنون بأموالهم ويتمترسون خلفها لاكتساب روح التسلط والتعالي ، فهم يرون أنهم إن وزّعوا شيئا من أموالهم للفقراء ، فهم يوزعونها من بقاياهم وفتاتهم وما زاد كثيرا عن حاجتهم .
    وكلما أحسّوا بتكاثر الفقراء من حولهم ، ازدادوا ترفعا وتسلطا ، وتعاظم إحساسهم بالغنى ولجأوا إلى المزيد من الترف والصرف التفاخري .
    وكما كنت متأكدا ان ما يحدث لأمي هو بسبب هذا الدعاء الذي ظلت متمسكة به ، إلا أنه لم يكن هذا حال الدعاء نفسه معي ، فقد كانت تأتيني أرزاق تكفي احتياجاتي ، لكنها لم تكن مما يرسله لي أولادي ،
    وهم أيضا مثل أولاد أمي ، سافروا وكسبوا ، لكنهم لا يرسلون لي شيئا ، ولا يسألون عني . فأنا مجرد متلقي صدقات لا أكثر ولا أقل . أولادي يرون أنني سكّير عربيد لا أستحق أن أضع يدي على المال ،
    أو أمنح حق التصرف فيه ، فهم يعرفون أنني أصرفه في لا شيء . والغريب انني كنت ذو حظ عظيم في شرب الخمر وما يتبعه من عربدة . كنت دائما أجد مالاً أشتري به ما أريد من الخمر الجيد ،
    وأجد طعاما يقيم أودي ويملأ معدتي فتحتمل كميات كبيرة من الكحول . يحدث هذا بالرغم من أني كنت كأمي تماما لا أعمل عملا يذكر ، ولا أجيد فعل شيء أفيد به نفسي أو غيري ،
    بل وأكثر من ذلك لا أفعل شيئا يحمده الناس لي . وما شكوت يوما من جوع ، ولا توقفت عن عربدتي ، ولا تغيبت عن مجالسة أصحابي ، ولا مددت يدي لأحد .
    وأذكر أنني في إحدى الأماسي ما كنت أمتلك ثمن قارورة الخمر لتلك الأمسية ، فخرجت أحمل همي ، أبحث عن مكان ما أجالس فيه أحدا من الناس أو جماعة يعينوني على تمضية مساء بلا خمر ،
    لكني عند وصولي إلى مدخل النادي وجدت على الأرض ظرفا به بضع جنيهات ملفوفة بعناية وكأن صاحبها قد أعدّها خصيصا لي ، لكنه نسي أن يكتب اسمي على الظرف .
    أخذت الظرف دون أدنى تردد ، وكأنه ورثة قديمة آلت إلي دون أن أبذل سعيا في طلبها ، ثم استدرت إلى الخلف ، وتوجهت تلقائياً إلى البار القريب ، وأمضيت أمسيتي هناك.
    لكن هذا الليل مختلف تماما عن كل الليالي التي مرت طوال حياتي مذ صرت أعيش منفردا بعيدا عن أمي . فقد ظل هذا الليل يتطاول بي عبر المدى ،
    حتى يخيل لي أن المدة التي انقضت بين أوله ومنتصفه قد بلغت نصف عمري الافتراضي . ولا أعرف ليلا طال بي وتمدد مثل ما فعل بي هذا الليل حتى حسبته ينتمي إلى زمان آخر يحسبون فيه الليل
    خمسا وثلاثون ألف سنة كجزء من يومٍ مقداره سبعون ألف سنة مما نعد .
    يوم طردتني أمي من بيتها كنت رجلا رقيق الحال ، ليس في جيبي مال ، ولا في جسمي صحة تمكنني من البحث عن مكان يأويني . كان يمكن أن أنام تحت حائط ، أو شجرة ، أو أي جماد على قارعة الطريق .
    ولم يكن لأي من أصدقائي بيت خاص به فأداهمهم لأقضي الليل معهم ، فهم لا يزالون يسكنون مع أبويهم ، وبعضهم يسكنون عزابا في بيوت لا تتسع لغيرهم . فكرت أن ألتحق بأكثر من واحد ،
    لكنني أتراجع عن الفكرة سريعا حين اتذكر ما رأيته من سعة بيوت العزاب وأثاثها الخرب ، حتى يخيل إلى أن الفئران تنفر من المبيت في بيوتهم . لكن الحل جاءني سريعا حين رددت دعاء أمي ،
    ياربي ياسيدي تحقق مرادي وتأخر ميعادي ، فتذكرت (سلوى ) بائعة العرق التي تعيش في طرف الحي . تذكرت بيتها الواسع نسبيا ، وشجرتي النيم القائمتين في قلب الحوش ، والسرائر الموزعة تحتهما .
    سلوى امرأة رائعة ، ترحب بزائريها ، وتقوم على كل طلباتهم ، وتوفر لهم كل أسباب السرور، ولا يزعجها وجودي ولو طالت الجلسة .
    كم مرة جلسنا هناك ورفعنا صوتنا بالغناء على نغمات العود ، وتناولنا المزة ، ووجبات اللحم والكوارع .
    وكم مرة تركنا عندها بعض افراد الشلة يقضون باقي ليلتهم نياما هناك بعد أن يغرقون في الكحول فيأخذهم النوم العميق ولا يستطيعون وقوفا أو حركة .
    قلت في نفسي أن سلوى صديقة وفية لن تطردني إن طلبت المبيت عندها حتى الصباح ، أو ربما أقضي معها بقية عمري ، خاصة وهي تعلم كل تفاصيل حياتي وما يدور بيني وبين أمي من خلافات
                  

11-06-2015, 10:25 AM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نقرشة بالعود (Re: ودقاسم)

    كأنكم تريدون أوركسترا كاملة
    خلاص نحاول إن شاء الله
                  

11-16-2015, 06:25 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نقرشة بالعود (Re: ودقاسم)

    أخيرا ، وبعد طول انتظار ، بدأ الصبح يطل متثاقلا كأنه يأتيني تصدّقا . نهضت من نومتي الخبيثة تلك ، وتوجهت مباشرة إلى الحمام . أرخيت ستارة من الخيش كنا نجعلها ساترا من المتطفلين والبرد ، وجلست وسط الطست المصنوع من (التوتيا ) ، وسطل الماء البارد ينتطر أمامي كقدر لا مفر منه ، فيمثل لي ، من شدة برودته ، نهرا من الثلج . أخذت نفسا عميقا ، ثم دلقت بعض الماء فوق رأسي ، فنزل على جسدي كسياط جلاد لا قلب له . لا أعلم لم تصر أمي علي أن أكون دائما نظيف الجسد والثياب . ظلت تصفني بالقذارة وتقول لي أن القذارة من الشيطان . فأرد عليها أن القذارة من الفقر ، والنظافة نوع من الترف يمارسه الأغنياء . فهم أصلا لا يعملون عملا يتصبب منه العرق ، ولا يعرّضون أنفسهم للغبار والأتربة وأنفاس الناس . وحماماتهم مغلقة ودافئة لا تدخل إليها الرياح الباردة من فرجات ستارة الخيش ، ويستمتعون بالماء الدافيء فلا ياخذون حماما باردا في فصل الشتاء .
    كانت زوجتي بعد أن أبلغها مبعوث أمي برغبتها في لقائي قد قضت جزءا من الليل تعمل تفكيرها في ما يمكن أن يحدث بيني وبين أمي ، أهي معركة جديدة ، أم أنه عفو رغبت أمي أن تمنحني إياه بعد أن تعدى عمرها التسعين وأحست أنها ربما تنتقل إلى الرفيق الأعلى في أي لحظة . ثم قامت تعالج جلبابي الذي تصدق به علي جار ثري ، يحبني ويحب أسرتي ويستمتع بالتصدق علينا ، فخاطت زرائره ، وغسلته ، وكوته ، فأصبح ملبسا جاهزا يليق بمن تستضيفهم أمي في بيتها.
    و أمي تكره سلوى ، وتكره زوجتي أيضا ، وتكره أولادنا ، ولا تود أن تسمع عنهم خيرا. لا شيء يربط أمي بسلوى أو ابنتها التي هي زوجتي ، فهن لا يتواصلن معها ولا يلتقينها إلا صدفة فتهرب منهما ويهربن منها ، فلا تبادلهن أي نوع من المودة أو المجاملة . فهي قد علمت أن سلوى احتضنتني وأسكنتني في بيتها ، ثم قدمت لي كل ما تستطيع من عون ، ثم جعلت لي عطاء شهريا باعتبار أن وجودي في البيت يؤمّن لها نوعا من الحراسة وتوفير الأمن خاصة وأن المتربصين ببيتها كثر. وما كنت أجد حاجة للخروج من بيت سلوى لأي مكان آخر ، فهو مكان عملي وسكني ، وقد توفر لي كل شيء هناك ، حتى الأصدقاء يأتون طوعا ليقضوا أمسياتهم السعيدة في بيت سلوى . فظللت أمضي نهاري تحت ظل شجرة النيم ، أراقب الداخلين والخارجين ، ولم أكن في حاجة لاستعمال القوة أو الفظاظة في وجه الداخلين الذين يسعون للتطفل وإطالة اللسان ، فكان مجرد وجودي كافيا لردع كل من أراد شرا بسلوى أو بناتها أو بيتها . وسلوى لم يكن لها حظ من الزواج ، بالرغم من أنها كانت امرأة وسيمة وطيبة ولماحة ، فلم تتزوج قط ، لكنها لا شك كانت تعاشر الرجال ممن تثق بهم ، وتخص بعضهم بحنانها ورقة روحها فتشاركهم متعة الفراش ، يستمتعون ببعضهم خارج الدوائر الرسمية بأطرها التي يتهيبونها ويعدونها معقّدة أكثر مما يلزم . رزقت سلوى من مغامراتها تلك بنتين جميلتين كانتا غاية في الأدب والتهذيب ، وقامت على تربيتهما ، واهتمت بتعليمهما ، فأخرجتهما إلى الدنيا نساء كاملات الدسم . ولما طلبت منها أن تزوجني ابنتها الكبرى لم تتردد ، فقد اطمأنت لحسن تعاملي معها ومع بنتيها على امتداد السنوات التي قضيتها معهن . وبالرغم من أننا لم نلتق أنا وأمي وجها لوجه منذ فراقنا ذاك يوم طردتني من بيتها ، إلا أنها كما يبدو كانت تطارد أخباري وتعرف الكثير من تفاصيل حياتي ، وهي باستمرار ظلت تعدّني جزءا من أسرة سلوى ، وتصب كراهيتها على سلوى وبنتيها وتمددها لتصلني أنا أيضا ثم تشمل أولادي .
    وأنا أعود بعد انقضاء أمسية دعيت إليها في بيت أصدقائي العزاب ، لم أكن أعلم شيئا عن مجيء زائر إلى بيتي ، حتى فاجأتني زوجتي بأن أمي تطلب مقابلتي في صباح اليوم التالي وقد أرسلت إلينا من أوصل هذه الرسالة ، لكن مندوب أمي لم يستطع توضيح الأمر فيما يتعلق بطلب أمي ، لكنه أكّد أن الأمر ضروري وأن أمي ترجوني أن لا أتأخر . وحين بلغني الخبر كنت كمن يدخل إلى غيبوبة فجائية لا يستطيع معها حراكا ، فقامت زوجتي وأبدلت لي ثيابي بملابس نوم مناسبة ، ثم أرقدتني على السرير وكأنني ميت ينتظر الغسل والكفن . ودخلنا في ليلنا ذاك الطويل الذي تباعد صبحه وتمدد ظلامه ، فكان ثقيلا علينا كليل امرؤ القيس ، فلم نكن نعلم لم طلبتني أمي بعد هذه السنين من القطيعة الكاملة . ولا ندري ، أشرا أرادات بنا ، ونحن الذين ظللنا نتحاشى حتى ذكر اسمها ، أم أنها أرادت بنا خيرا لم نتوقعه ولم ننتظره منها. زوجتي كانت تسرح وتؤمّل ، وتغرق في التفاؤل ، وأنا كنت على النقيض من ذلك . فما زلت أذكر يوم أن صاحت بي :
    "اخرج من بيتي أيها القذر ، فمثلك لا يستحق أن يطلق عليه صفة ابن آدم . أنت دميم النفس والخلقة ولا أريدك في بيتي ابدا . اخرج ولا تعد إلى البيت مجددا . سكّير أنت ، وقليل الأدب ، أنت خنزير نجس لا يجب أن يعيش وسط أسرة محترمة."
    وكان زوجها الأخير يسمع ويرى ذلك كله ، لكنه لم يكن يجرؤ على منعها أو إثنائها عن طلبها ، ولم ينطق ببنت شفة ، فهو مجرد لعبة في يديها تحركه كيف تشاء. كان انتهازيا متميزا ، يتزلف أمي ويتملقها ويمارس الكذب علنا دون حياء . ومما لا شك فيه أنه تزوجها ليتمكن من الانتقال من مذلة الفقر إلى ساحات الغنى ، فيرتاح من التعب والضنك اللذان كانا يظللان حياته السابقة . وبدا لي سعيدا بخروجي من بيت أمي كهمٍ انزاح عن صدره، أو كأنه كان ينتظر مثل هذا اليوم في أحلامه ، فتأخر ولم يتحقق إلا في ذلك التوقيت ، وهذا وحده كان يفسر لي سعادتي الغامرة يوم سمعت نبأ وفاته ، فشربت ، وغنيت ، وطربت حتى بُعيد منتصف الليل في زمرة من أصدقائي . حين نهرتني أمي وطردتني من بيتها كان المساء قد أرخى سدوله ، فخرجت أبحث عن ملجأ أقضي فيه ليلتي تلك ، ثم أتدبر أمري حين يطل الصباح . لم يكن ذاك المساء حزينا ، ولم يكن داكنا أو حالك السودان ، لكني ما كنت أعلم أن تلك اللحظة ستكون مفصلية في حياتي ، وأنني يمكن أن أمضي بقية عمري بعيدا عن بيتٍ ولدت ونشأت فيه .
    أمور كثيرة كانت تمر بذاكرتي التي أنهكها الفقر والكحول ، وأهملتها أمي ، وشحنتها بالآلام والمآسي ، فكانت تحتقرني دون سبب ظاهر ، وتزيد في استفزازي حتى أفقد أعصابي وأنفعل في وجهها ، فتكيل لي السباب ، وتنهرني وتهددني بالضرب ، والطرد من المنزل . لم تختزن ذاكرتي حدثا طيبا مما كان يجري بيني وبين أمي ، فقد كانت الحياة كلها مشاحنات وشد وجذب ، وكنت دائما أخرج من معركتي مع أمي مهزوما مهموما ، لكني لم أتنازل لها يوما لتحقق ما تريد من إذلالي وإهانتي . ثم جاء أولادي فتمردوا علي وتناسوا أبوتي ، وكادوا يصدرون فتوى بتحريم العيش معي في بيت واحد . فلم يكن نومي هادئا تلك الليلة ، ولم يكن باستطاعتي تقدير ما يمكن أن يحدث لي وأنا أقف أمام أمي في صباح اليوم التالي . سنوات طويلة مرت دون أن أرى وجه أمي ، أو أسمع صوتها ، ولم يقل لي أحد أنها كانت تشتاق لرؤيتي أو تتوق إليها ، ولم ينتابني مطلقا إحساس بفقدها، فقد عشت بدونها كأنني أصلا لم أخرج من رحم أم . لذا عندما ادخلوني إليها ، ذلك الصباح ، كنت كأنني أقف أمام جماد ، لا قلب له ولا دم يجري في عروقه . لم أخف ولم يحتويني شعور بعطف أو حنان ، فلم أبادرها بالسلام ، ولم أرتمي في أحضانها ، بل كنت أنظر إليها ببلاهة وبرود غريب ، وما زلت أتساءل أي طارئ طرأ عليها فطلبت حضوري بعد هذه الجفوة العميقة المزمنة.
                  

11-17-2015, 05:57 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نقرشة بالعود (Re: ودقاسم)

    ابتسمت أمي ابتسامة أعرفها تماما ، فمن تحت تلك الابتسامة خرجت كتل الاستفزاز والاحتقار ، وكتائب الطغيان . أشارت أمي علي بالجلوس إلى جانبها ، فلم أتردد ، بل جلست تلقائيا قبل أن تكمل إشارتها . وبدا لي أن أمي رددت دعاءها ذاك مئات المرات قبل أن ترى وجهي ، وهاهي ذي يتحقق لها ما تريد . جلست إلى جوارها كأنني أجلس أمام دمية كبيرة وضعت أمام طفل صغير لا يعلم ماذا يمكن أن يفعل بها ، بل ربما يفكر أن يركلها بقدمه ليبحث عن دمية أخرى تناسبه. كنا كندّين ولدا في يوم واحد ، بالرغم من أنها تكبرني بعشرين عاما ، لكنني أمضيت عمري أتقلب في مضاجع الفقر ، بينما كانت تتقلب هي في مضاجع الثراء ، وربما بدا لبعض مجالسيها أنني أكبر منها. مدت ذراعها فوق كتفي من خلفي محاولة أن تضفي على المشهد شكلا من الحنان فتُكسب الموقف بعض المرونة وتطييب الخواطر، ثم خاطبتني :
    أأنت ما زلت غاضبا مني ؟
    تجاهلت سؤالها كأنها لم توجهه إلي ، فلم أجبها بكلمة ، لكنها أحست بنظراتي ودواخلي تقول : نعم .
    يبدو أن أمي كانت تعلم جيدا أنني لن أتجاوب معها بسهولة ، فلم أكن يوما طائعا أو مرنا في التعامل معها ، لكنها كعادتها لا تهتم لمشاعر مجالسيها ، فهي تنفذ مباشرة لما تريد ، فلم تهتم بصمتي . قالت أنها تثق تماما أنني لا أكرهها ، وتؤكد لي أنها تحبني ، وأن قلب الأم لا يمكن أن يتخلى عن الحب يوما ، ثم انطلقت تحكي لي حكاية طويلة عن والدي الذي بلغها خبر (بيانه) في قبره حيث بانت لحيته خارج القبر لساعات في منتصف نهار ، بشهادة عدد من الناس ، ثم عاد القبر سيرته الأولى بعد أن رفع المادحون والذاكرون أصواتهم بالذكر على ضربات ( النوبة ) والطار ، وأرسلت النساء الزغاريد ، وبكى بعض العارفين بأفضال والدي ، وردد الناس الصلاة على النبي . كل هذا جعل أمي تعتقد في صلاح أبي واستحقاقه لمشيخة باسمه يكون مركزها هنا في بيتها . وقالت أنها تريد أن تقيم ( حولية ) لوالدي مثله مثل كل الشيوخ الصالحين ، وتريد أن تخصص لي جزءا من البيت وتجلسني خليفة لوالدي . وقالت أنها لثقتها في ابنها - الذي هو أنا – فهي تضمن عودته وقبوله بالدور الذي قررت إسناده إليه ، وأضافت أنها وجهت الدعوة لعدد من المشايخ والذاكرين والدراويش ، وعامة الناس لتشريفها وتشريف ابنها الخليفة على الغداء اليوم ، وإقامة ليلة ذكرٍ مشهودة في المساء .
    حين افترق والدي ووالدتي لم أكن أعلم عن والدي شيئا من الصلاح ، بل لم يكن متدينا بأي مستوى يميزه عن الآخرين . كان حليق الذقن ، كثيف شعر الرأس ، يهتم كثيرا بنظافة جسده وثيابه . لم يقتني مسبحة قط، وليست له مصلاة خاصة به، ولا إبريق للوضوء ، ولا شيء مما اتصف به أهل الصلاح . لكنه كان رجلا شديد الزهد ، مترفعا عما في أيدي الناس ، ولا يعجبه الكثير من تصرفات الغنى التي تصدر عن أمي . وكان يختلف مع أمي كثيرا حول تربيتنا ، ويطلب منها أن تولينا اهتماما ورعاية ، وأن لا تتركنا نخرج إلى الدنيا من باب الصدفة ، لكنها لم تكن تتقبل منه شيئا من ذلك . وكانت أول مرة رأيت فيها أمي تبكي بكاء حقيقيا ، يوم تركها وودعنا ، ثم لم يعد مطلقا . وبقينا نحن نعيش في كنف أمي التي لم تتردد في إبداله بزوج جديد ، تماما كما تبدل زوجا من الأحذية . ولم تذكره بخير منذ أن فارقها .
    قلت لأمي لماذا لا نسافر إلى البلدة التي شهدت حدث بيان والدي ونتحقق من الأمر، ونتعرف على تفاصيل حياته في الفترة الأخيرة التي عاشها هناك ، فربما أن الرجل قد تغير عما كان عليه هنا ، فارتقى ذاكرا وعابدا وسائحا وسلك طريق القوم العارفين بالله. وربما نجد له أبناء أكثر مني جاهزية وتأهيلا لدور الخلافة لأنه ربّاهم على الزهد والذكر والأدب ، يعرفون طريقته ، وأوراده ، وبعض مريديه ، فنسند إليهم دور الخلافة هذا ، وسيقومون به أفضل قيام . لكن أمي لم يعجبها هذا الاقتراح ، فصكت وجهها ، وتمطت ، وتثاءبت ، ورددت دعاءها االمأثور ، ثم نهضت واقفة ومدت يدها وأمسكت بيدي ، ففهمت أنها تريدني أن أقف وأرافقها إلى وجهة أرادتها . فأطعتها دون أدنى مقاومة ، ودون أن أسألها عن وجهتها، فخرجت بي إلى الصالون الكبير في بيتها وهو مضيَفة متسعة يعدّها بعض الناس بيتا كبيرا منفصلا . مكان معطر يفوح برائحة الند والصندل ، وقد فرشت أرضيته بالسجاد العجمي الذي ظلت تحتفظ به منذ أن أحضرته معها وهي عائدة من رحلتها للحج قبل سنوات عديدة . وقد أعدت مجلسا وثيرا للخليفة هناك ، تحيط به مقاعد لخاصته والمقربين منه . قادتني أمي لهذا المكان الذي لم أره من قبل في منزلها ، وأجلستني على مجلس الخلافة مباشرة ، ثم وضعت عباءة مذهّبة فوق أكتافي ، ثم أمرت النساء فأطلقن الزغاريد ، وانهالت التهاني من الحاضرين ، وكان البيت أصلا يعج بمن يعد وجبة الغداء للمدعوين ، وتجمّع جيران أمي وقدموا التهاني لي ولأمي وبدت على وجوههم فرحة غريبة لم استطع إدراك معناها أو مصدر انطلاقها . ووسط كل ما يجري حولي كنت صامتا لا أكلم أحد ، ولا أرد على تهانيهم ، ولا ابتسم في وجوهم ، فظللت جالسا ملتصقا بمجلس الخلافة ، لا أتململ ، ولا يصيبني اهتزاز ، وكنت فقط أمد يدي للناس وهم يقبّلونها ويتمنون لي التوفيق ويتمنون لأنفسهم النفع بجاهي
                  

11-18-2015, 06:26 AM

ياسر السر
<aياسر السر
تاريخ التسجيل: 08-06-2010
مجموع المشاركات: 3204

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نقرشة بالعود (Re: ودقاسم)

    الخال الجميل ود قاسم ماهذا الالق فقد حلقت بنا في سماوات الابداع واتحفتنا غاية الاتحاف بهذا السرد الجميل المفصل الذي احسب ان الغربة كانت تخفيه عنا فما ان استقريت بين اهلك وناسك في السودان حتى بدأ ينكشف لنا هذا الابداع فلك تحية خاصة وواصل من غير فواصل .... كلام جميل من رجل جميل .... سلامي لك وللاسرة الكريمه ,,,,,


    تحياتي : ياسر العيلفون ....
                  

11-19-2015, 08:11 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نقرشة بالعود (Re: ياسر السر)

    شكرا حبيبنا ياسر
    لك التحية وكثير الأشواق
    أهديك هذا الجزء
    .........................

    يا لبساطة هؤلاء القوم ، إنهم ينقادون لرغبات أمي وكأنها تسحر عيونهم وتسلبهم عقولهم فيتصرفون دون وعي منهم . بعضهم كان يدخل علي منحنيا ، وبعضهم ينزل عمامته من رأسه ، ولا أحد منهم يجرؤ على الدخول منتعلا . رأيت من هم أكبر مني سنّا ، يشاركون في مباركة الحدث ، رأيت المتعلمين ، ومرسلي اللحي ، والنساء والرجال ، والشيب والشباب ، والوجهاء ، والبسطاء والسذج ، كلهم يدخلون علي ، كثيرون منهم يسعون لنيل البركة ، وقليل منهم متطفلون يدفعهم حب الاستطلاع . ووقفت أمي في مدخل الدار ترحب بالداخلين ، وتودع الخارجين، تشكر لهم مسعاهم ، وتؤكد عليهم جميعا الحضور للغداء ، والمشاركة في إحياء ليلة الذكر. كانت أمي تدعو لهم بتحقيق مرادهم في زيارة النبي عليه الصلاة والسلام ، وتقول لكل واحد منهم ، قدمك لأبو ابراهيم . وأنا أعيش حالة من تكلس المشاعر أمام المشهد كله ، ولا أعرف كيف اتصرف ، وما الذي يمكن أن أقوله في مثل هذه المواقف التي لم تخطر لي على بال. لكني كنت متيقنا من مقدرتي على ضبط أعصابي وإخفاء مشاعري الحقيقية ، وعدم الكشف عن مدي اقتناعي وإيماني بالدور الذي أقوم به.
    كان البيت قد تحول كله إلى مسرح كبير يقوم الممثلون فيه بإتقان أدوارهم وإجادتها كأنهم قد تدربوا عليها خلال عدد من البروفات ، وتعلموها على يد أمهر المخرجين . وقد لبسوا جميعا أزياء تناسب أدوارهم التي أسندت إليهم . وكنت أحس أن العرض كله معدٌ ومنتجٌ لصالح أمي ، لكني ما كنت أفهم مراميها ومقاصدها وتفاصيل حساباتها ، إلا أنني كنت متأكدا أنها لن تفعل شيئا أو تتصرف تصرفا يكلفها آلاف الجنيهات مالم تكن قد عرفت تماما نصيبها المادي منه.
    تجمع حولي عدد من الدراويش في جلابيبهم الملونة ، كل الألوان تجتمع هنا ، وبعضهم أرسلوا شعورهم ، وبعضهم جعلوا من شعرهم جدائل ، وكلهم متمنطقين بأحزمة ملونة تتطابق او تتنافر مع الجلابيب ، لكنها في مجموعها تمثل لوحة زاهية الألوان بصرف النظر عن عمق معانيها . لا أعلم من حضّر لهم تلك الأزياء وبهذه السرعة ، أم أن أمي كانت ترسم خطتها وتنفذها منذ فترة ليست بالقصيرة ؟ لا أرى أحدا يندهش أو يتفاجأ بوجودي على مقعد الخلافة ، وأنا النافر عن الدين وتفاصيله طيلة العمر ، ولا أحد يسأل عن مصداقية حكاية والدي الذي اكتشف الناس صلاحه بعد موته ببضع سنين . هم الآن يهتزون بعنف في حلقة الذكر ، يكبرون ، ويهللون ، ويتمايلون طربا حتى يتصبب منهم العرق . وأنا جالس في منتصف الحلقة كمركزٍ قابضٍ يحرك أطرافا بعيدة بإشارة منه، والناس يطوفون من حولي يضربون النوبة والطار والرق ويهزون الكشاكيش ، فتخرج النغمات مرتبة ترتيبا يهتز له حتى من لا قلب له . والغبار يتطاير حتى يغطي المصابيح المعلقة في الأعمدة التي تم توزيعها بعناية فائقة ، فيقع ما ينفذ من ضوئها على رؤوس الذاكرين فترى ظلالهم وكأنها شجر يتحرك ويتمايل بفعل ريح عاتية . لا أعلم كم مر من الليل ، وأنا ما زلت متماسكا ، أحافظ على صمتي ، وأحبس ابتسامتي ، مصطنعا جدية لم أعهدها في حياتي كلها . وكانت النساء أيضا حاضرات ، حضورا كاملا ، وقد وقفن في الجانب الغربي من الحلقة ، فطربن بالقصيد واهتزت أجسادهن لضربات النوبة ، وقد تبينت بينهن بصعوبة زوجتي وأمها . ومن المؤكد أنهن لا يصدقن أكاذيب أمي ، ولم يأتين للسلام علي أو للتهنئة ، لكن ربما جئن إلى هنا بدافع حب الاستطلاع ولمعرفة الذي يدور هنا وأنا جزء منه . ولم أكن أعلم لم صمودي حتى الآن على موقف هزيل مثل هذا لم أكن سأقتنع به لو أنه طرح في حوار جاد ، فبقيت في صمتي ذاك أسخر من نفسي وأستغرب طول صبري . إلا أنني كنت مقتنعا أنني لا أستطيع أن أنهي المسرحية كيف ومتى أردت ، وكنت أخشى عيون أمي التي بثتها في كل أرجاء البيت ، كما خشيت من انهيار أمر خططت له أمي طويلا دون أن أفهم حقيقة جدواه ومراميه وأبعاده . فمددت حبال الصبر طوالا حتى جاءتني أمي لتشير علي بالانصراف وهي توجه كلاما للناس أتت به من عندها وحدها . كانت تقول لهم : تعب الشيخ وأرهقه الجلوس الطويل ، ولابد أن يرتاح قليلا ليتهيأ لقيام الليل وليكون حاضرا في صلاة الفجر ، ثم نادت على أحد الدراويش وأمرته أن يدعو للحضور . هذه المرأة تتمتع بمقدرة عالية على نسج الأحاديث والروايات وابتدار الكلام ، ولو انها استغلت هذه القدرات استغلالا حسنا لأصبحت من أكثر كتّاب القصص والروايات خيالا وإبداعا ، لكنها وهي التي ظلت تفعل كل هذه الأفاعيل وتخرج كل هذه الأقوال ، ومع ذلك تجهل تماما هذه المقدرات ولا تستطيع لها تطويرا .
                  

11-25-2015, 10:23 AM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نقرشة بالعود (Re: ودقاسم)

    طلبت من أمي أن تسمح لي بالذهاب لأقضي بقية الليل هناك مع زوجتي في بيت أمها ، لكن كما يبدو كان ظن أمي قد ذهب إلى أنني استوعبت الدور تماما ، واستطعت أن أؤديه وأنا مستمتع به . ففوجئت بطلبي هذا ، واستغربت أمي كيف يتنازل شخص مثلي عاش حياته كلها في الفقر ، عن دور مثل هذا ربما يفتح عليه أبوابا واسعة تكيل المال كيلا ، وطلبت مني أن لا أغلق بابا فتحه الله لي للتوبة والغنى . لكن إصراري جعل أمي ترتب أمر إعادتي لبيت سلوى بعربة قالت لي بعد أن ركبتها أنها أهدتها لي وطلبت مني أن أدعو لها حتى تعمها بركاتي وتنتفع بجاهي . غريب أمر هؤلاء الناس ، أمي نفسها تقول هذا ، وترفع صوتها ليسمعها الآخرون . وهكذا ، مثل حكايات أشعب القديمة ، يكذبون على الناس وعلى أنفسهم ، ثم يصدقون الكذبة ويحاولون اللحاق ببعض ما تأتي به من ثمار إن كان للكذب ثمار . وكنت قد رأيت أمي تجمع أموالا كان يضعها الذاكرون أمامي ، وتوزعها على المادحين وضاربي النوبة ، وبعض الفقراء الذين اعتادوا على عطائها ، ولم تدخل في جيبها فلسا واحدا منها . وكدت أمام تصرفها هذا أصدّق أحابيلها ، واعتبرها نصيرة للفقراء ، غير أنه فجأة قفز في ذهني صديقي أبرهة ، هكذا كنا نناديه ونحوّر اسمه من إبراهيم إلى ابرهة . كان أبرهة رجلا عميق الفهم دؤوب السعي على إعانة الفقراء ، وهو دائما يردد : الفقر لا يأتي من الله ، بل هو عمل وقح يقوم به الأغنياء بدأب شديد، فهو ليس فعلا عابرا يولد صدفة ، أو يختفي صدفة ، بل هو نتاج عمل طويل يخطط له الأغنياء بفهم استراتيجي طويل المدى ، وعندما يتمكن الفقر من غالبية الناس ، يظل مسيطرا عليهم بقية عمرهم، ويظل الأغنياء على غناهم ، بل يزدادون غنى، لأنهم ببساطة أخذوا نصيبهم واستحوزوا على نصيب غيرهم .
    إذن ، أمي تسعى لإقامة مشروع ديني يدر دخلا ماديا ضخما تتوقع أن لا ينقطع أبدا ، لكنها تريد أن تجعل مني حصان طروادة لتبلغ أهدافها ، وأنا لم يبق من عمري الكثير لأمنحه لأمي لتصنع منه مجدا لا تستحقه ، ولم تبذل جهدها يوما معي ولا مع أبي ليكون لها شرف الوراثة . عندما طردتني أمي من بيتها وأنا شاب أتحسس طريقي للمستقبل ، كانت تنظر إلي أنني لن أصبح رجلا ذو فائدة في يوم من الأيام . كانت تتصرف تصرفها ذاك بحساباتها هي ، ولا تحسب حسابا للزمن ، ولا تنتظر أن يأتي الله بما يغير أحوال عباده . وهي الآن حين تراجع مكتسباتها المادية تجد أنها قد حققت نجاحا كبيرا ، وتؤكد لنفسها أنها تصرفت في السابق بحنكة وحكمة حين قامت بطردي من البيت ، فقد تكاثرت ثرواتها ، واتسع بيتها ، وأصبح لها خدم وحشم ، وأناس يدخلون عليها يتزلفونها ويطلبون عطاءها . وحققت لنفسها ومن حولها من أبنائها وأحفادها سعادة كبيرة ، فدللتهم وأطلقت أيديهم ليخربوا بها مستقبلهم وكلهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . ثم أنها طلبت عودتي إلى البيت تماما في وقت حاجتها ، وفي مرحلة جديدة تحسب أنها ستكون مسك الختام في حياتها اللاهثة خلف الغنى ، إنها تفتح بابا واسعا يبقى مفتوحا حتى للورثاء . وقد أدركت - بحساباتها أيضا - أنني سأكون مفتاحا لهذا الغنى إن تمكنت من استغلالي على الوجه الذي تتوقعه ، وما أنا إلا بداية لخلافة تمتد بعدي لأجيال من أحفاد أمي ، وهي تعلم أنها ستبذل صبرا طويلا لإدراك غايتها ، لكنها – كما تظن – ستجد ضالتها في نهاية الأمر .
    عندما دخلت بيت سلوى ، كان الليل في منتصفه ، لكن أناسا عديدين كانوا هناك . حسبت ان أحدا من أهل البيت قد أصابه مرض أو وعكة في منتصف الليل فاجتمع حوله الجيران يقدمون الدعم والعلاج والعون . لكني سرعان ما اكتشفت أنه تجمّع تلقائي يهدف لتقديم التهاني لزوجتي وأمها بانتهاء المشيخة إلي ، فلما دخلت عليهم انهال الناس يقبلون يدي ويرجون بركاتي ويتدافعون للقائي. هذا الكابوس يتمدد حتى يصل إلى هذا البيت الذي شهد الكثير من الجدل حول ضرورة محاربة الدجل والكذب والنفاق ، وكثيرا ما نادى الذين سهروا فيه واستمتعوا بليالي الأنس هنا برغبتهم في محاربة الفقر ومسبباته ، وإضعاف سطوة الأغنياء وكسر سلطانهم ، وفك قيود الفقراء وانطلاقة الثورة . لكن هذه الأفكار ظلت حبيسة في صدور دعاتها ، وبين حوائط البيوت التي تدار فيها هذه الحوارات . والآن تنتشر نيران الدجل وأخباره لتملأ المدينة كلها ، وتنتقل بواسطة الضحايا أنفسهم من بيت إلى بيت وفي سرعة خرافية لتطفئ كل بقعة ضوء تسعى لنشر الوعي والاستنارة .
                  

11-30-2015, 03:00 PM

ودقاسم
<aودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نقرشة بالعود (Re: ودقاسم)

    ولما تيقنت من هدف القوم انفجرت في وجوههم دونما مقدمات ، وصحت بهم أن اخرجوا من هذه الدار . لا أريد أحدا هنا غير أهل البيت . لست دجالا ولا منافقا ، ولم يتغير شيء في حياتي فأنا الذي ذهبت منكم بالأمس وأعود إليكم اليوم دون أن يمس حياتي أمر جوهري ، ولم تكونوا من قبل من زوار هذا البيت.
    لكن الناس ظلوا يتقاطرون على بيت سلوى بشكل يومي ، وبعضهم لا ينصرف مطلقا بل يظل مرابطا يقضي الساعات الطوال تحت الظل ، وينتطرونني أن أخرج إليهم أو أدخلهم علي ، وأنا لا أستطيع أن أنفي صلاحي لأن الآخرين هم الذين فرضوه علي ، ولا قدرة لي على إثباته لأني أصلا لم تكن لي علاقة بصلاح في الدين . قلت في نفسي أنني لابد أن أستعين بصديقي أبرهة ، فهو أقدر مني كثيرا في إداراة الحوارات وإقناع الناس ، وهي فرصة له ليستمتع بالحوار مع كل الذين يمكن أن يدخلوا إلى بيت سلوى من مستويات مختلفة من الناس يبحثون عن البركة والنفع بالجاه ، فهو أصلا محب للحوار وله سعة بالٍ وأفق . اتصلت بأبرهة عند منتصف النهار فوجدته قد صحا من نومته التي عادة تمتد لأكثر من ذلك . وعاجلني بالسؤال:
    أين كنت البارحة يا رجل ؟ بحثنا عنك في كل مكان فلم نعثر عليك حتى ظننا أن الأرض قد ابتلعتك.
    فطمأنته علي ، وقلت له أنني أحتاجه في أمر هام وعاجل ، وطلبت منه أن يمر علي في البيت، فلم يتردد في قبول طلبي ، واختتم بقوله : إن الكلاب طويلة الأعمار . لكني كنت أتوقع أن يكون قد بلغه خبر مشيختي الذي ذاع وتلقفته الصحف في صباح اليوم التالي ، فوجدت أبرهة لا يعلم شيئا عن الأمر . كان أبرهة يتمتع بمقدرة فائقة في تبسيط الحوار لكثير من الناس الذين ظلوا يترددون علي في بيت سلوى ، يحدث الناس بلغتهم ولا يتعالى على أحد ، يتناول الأمثال ، يرتب حديثه جملة جملة ، فقرة فقرة ، ويجيد استخدام المترادفات ، وتبدو عليه جدية تجذب الآخر إليه . وكانت أمي في الناحية الأخرى تعد الناس وتطمئنهم بأنني سأعود بعد سفر لزيارة قبر أبي . تقول ذلك وهي تعلم تماما أنني متمترس ببيت سلوى ، بل وتعلم أن أناسا كثيرين يأتون للسلام علي هنا، فيحدثونني وأحدثهم ، ويستمعون إلى أبرهة وأفكاره حول الفقر والغنى ، وكثير منهم يصبح جزءا من مجلس أبرهة اليومي ، وبعضهم ما يزال يعتقد بصلاحي وبركاتي وينتظر مني المدد . وقد بلغ الأمر ببعض الناس أنهم ادّعوا الشفاء من أمراض مزمنة بمجرد زيارتهم لي وتقبيلهم يدي فانتشرت الأخبار وذاع صيتٌ كاذب عن قدراتي الخارقة للعادة . لكن المجموعة التي تنضم إلى فريق أبرهة كانت أكبر ، فكثيرون جذبتهم أقواله ، وشدتهم طريقته في الحوار ولباقته وبساطته ، لكن ليس مقارنة بفريق أمي ، فذاك فريق قوي لا يتزعزع ، فهو مدعوم بتمويل مالي كبير جعل منه مؤسسة اقتصادية ضخمة لا تتأثر بفكر أبرهة وأمثاله .
    عاش أبرهة حياته ببساطة دون تكلف أو تصنّع، وأنا أعدّه من أزهد الناس وأعفّهم ، لا يبغض الناس ولا يحسدهم ، ولا يجر نفسه إلى المنافسة فيما لا يستحق المنافسة ، ولا يتكالب على أمر مادي يتعارض مع مبادئه. كان يقضي وقتا طويلا في القراءة ، يتنقل بين الكتب والمجلات والصحف ، ويحمل جملة من المبادئ الرفيعة ، يؤمن بها إيمانا قاطعا فلا يحيد عنها قولا ولا فعلا ، وبحسب ما يرى هو فإن أقواله ، وأفعاله ، مطابقة لتعاليم السماء . كان يريد للإنسان أن يكون عزيز النفس ، ساعيا إلى الخير ، نفورا من الشر والعنف ، صادقا مع نفسه والناس من حوله ومع ربه . لكنه كان يشكو من عنت الناس ، وشدة خوفهم من ضعف الأرزاق ، وتبريرهم لما هم فيه من ضعف بقلة الحيلة ، فكان يصر على من يلقاهم ويحدثهم أنهم أقويا ، أسوياء ، كاملي العقول ، يمكنهم أن يمدوا آمالهم وتطلعاتهم الإنسانية لتبلغ الثريا .
    وسلوى التي عاشت عمرها كله تصنع العرق وتبيعه وتعيش مما يدر عليها من دخل ، دخلت علي وقبلت يدي ، وأقسمت أمامي أنها لن تبيع الخمر بعد هذا اليوم . قالت أنها ستبحث عن نشاط آخر حتى لا يقول الناس أن زوج ابنتها – الشيخ – يقتات من العمل الحرام . ولكي أكون صريحا ، فقد خفت وارتجفت لقرار سلوى ، فأنا وزوجتي وأولادي تربينا مما كانت تقوم به سلوى من عمل وتجارة ، وتعلّم أولادي مما صرفته عليهم سلوى ، بالرغم من أنهم نسوا ذلك بعد أن أصبحوا رجالا منتجين واغتربوا في البلدان الغنية ، فتنكروا لي ولأمهم ولجدتهم ، وقالوا صراحة أن كل البيت يعيش على الحرام وهم يعدون أنفسهم براء من ذلك . وسلوى امرأة حساسة ونبيلة ، قريبة مني ، تحب زوجتي وتحب أولادي رغما عن كل ما فعلوه معها. أحست سلوى بخوفي ، وأشفقت علي منه ، فقالت لي دون مقدمات : منذ اليوم سيكون هذا البيت بيتك أنت ، لن أقبل أن يقول الناس عليه بيت سلوى ، هو لك ولضيوفك وزوارك ومريديك . ولو كنت شخصا مجهولا أو جديدا على سلوى لوجدت لها العذر ، لكنها تعرفني جيدا ، وتعرف تفاصيل حياتي وتاريخي ، مما جعلني أزداد دهشة ، وخوفا ، وأتساءل في نفسي : ما الذي جعل امرأة مثل سلوى تتخذ قرارات مثل هذه ، وما الذي جعلها تصدّق أنني شيخ أستحق أن يتبعني الناس ، ويكون لي حواريين ومريدين ، وأُصبح فجأة مصدرا للبركة والنفع ؟
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de