|
كرتكيلا في مدرسة الاستقلال النموذجية (بعد التنقيح)
|
03:12 PM Aug, 24 2015 سودانيز اون لاين عليش الريدة- مكتبتى فى سودانيزاونلاين
كرتكيلا في مدرسة الاستقلال النموذجية (بعد التنقيح)
1
هل لفتت انتباهكم يوما،تلك الأشياء التي لاتتغير؟..تلك الأشياء التي وقفت بشجاعة في وجه الزمن وروّضته،كما وقف السد بشجاعة في وجه النهر وروضّه،وكما وقف الزاهد بشجاعة في وجه نفسه وروضّها..تلك الأشياء التي فرضت ثباتها علي دورة حياتنا فصارت أمرا واقعا لايمكن طمسه أو التحايل عليه..تلك الأشياء التي تشبه حرّ مايو البطّاش،وروائح صناعة الحلومر قبيل رمضان،وتضلّع النيل في أغسطس... وطرائقنا الخرقاء في إدارة الإمور. سأحدثكم اليوم عن شئ أصيل من تلك الأشياء..عن ذلك الرجل العجيب الذي يدعى البروف جلال..ذلك الخبير التربوى الشهير الذى سلخ الأربعين عاما الأخيرة من عمره جائلا في دروب التعليم الأساسى ودهاليزه، في داخل وخارج القطر..حتى صارفي النهاية مستشارا وخبيرا لثلاث حكومات مرت علي البلاد على التوالى..إنه لأمرمحير ومربك،أن يستطيع شخص ما أن يجعل تلك الحكومات تتفق على رأى واحد،رغم أنها نالت شرعياتها الأساسية بل والمتوحدة ،فقط من تسفيه بعضها لبعض.. فماهو السر إذن،الذي جعلها تتفق على منح ثقتها لذلك البروف؟ إن البروف عندما يُسأل هذا السؤال يرد مبتسما: أنا لا اهتم بالسياسة. آه..كُشفت الحيرة إذن..فالبروف يتمتع بالميزة الأندر في هذه البلاد،تلك الميزة التي تجعله يبدو كالمالك للنظارة الوحيدة في بلاد المعمّشين..لكنّ المقربين من البروف يعلمون أن السبب الحقيقى لتلك الثقة هو الكفاءة الرفيعة التي يتمتع بها،ورغبة الإصلاح المستمرة التي تسيطر عليه..لم يكن البروف على الإطلاق مهتما ب(حكم يحكم) وإنما كان شغفه موجه نحو(تعلم يتعلم)..لقد حصرنفسه وحياته كلها في مجال عمله ورسالته.. وتمرّس على تجنب كل الأخطار التي قد تبعده عن أداء تلك الرسالة، وفي مقدمة تلك الأخطار بطبيعة الحال رجال(ساس يسوس)..أولئك الرجال الذين ملأوا أجوافهم بكؤوس ضخمة ومتساوية من نبيذي الجبن و الشراسة معا..حتى صاروا في النهاية مثل الدودة ذات الرأسين،كرها وفرها سواء. في صباح ذلك اليوم كان البروف يجلس بالقرب من السيد وزيرالتربية والتعليم في سيارته.. كانت السيارة وبقية السيارات الفارهة والمظللة تنهب الطريق في اتجاه مدرسة الاستقلال الأساسية للبنين،فقد كانت هناك زيارة معلنة للسيد الوزير ووفده الميمون لتلك المدرسة النموذجية التي احتكرت المركز الأول في امتحانات الولاية لخمس سنوات متتالية..ورغم أن البروف كانت الوزارة قد خصصت له سيارة فارهة أيضا،إلا أن الوزير يحب أن يصطحبه معه دائما في سيارته في مثل تلك الزيارات الخارجية. بدت المدرسة جميلة ومرتبة وأنيقة..وشكل المعلمون والتلاميذ لوحة متجانسة من الألق والتميز..وفي لفتة بارعة جدا،قُدم برنامج احتفالى صغير بهذه المناسبة..تولى هذه المهمة التلاميذ فقط..تقديم الفقرات وأدائها، وتقديم الضيافة،وكل شئ آخر..قام التلاميذ بكل شئ بأنفسهم،عدا كلمتى السيد المدير والسيد الوزير. في ذلك الصباح أيقن البروف أن مجهوداته المتعاقبة طوال ثلاث حكومات متتالية لم تذهب سدى..فى ذلك الصباح سمع البروف من أولئك التلاميذ اليافعين شعرا عربيا جاهليا فخيما،ومقطوعات من الأدب الإنجليزى المعتق،وقصائد وطنية من تأليف التلاميذ أنفسهم..وشاهدهم يؤدون مسرحية صغيرة باللغة الفرنسية، و يرقصون لعدد من القبائل الوطنية،ويتشقلبون بحركات شيقة من الجمباز. لقد تأثر البروف حتى أوشكت الدموع أن تسقط من عينيه..وكان الوزير أيضا مبتهجا للغاية..وبدا لساعات أن هذه الزيارة ناجحة جدا وتبعث الفخر من أقصى مدافنه..لكن أحيانا تراودنا في حياتنا إيحاءآت ملثّمة..لانعلم من أين أتت، ولانفهم لها حافزا..وتجعلنا نتسآءل لفترات طويلة لاحقة،هل أتت هى من همس الملك،أم من همزالشيطان،أم من مجازر العقل الباطن..في ذلك اليوم يبدو أن البروف تعرض لنفحة من تلك الإيحاءآت.. نفحة قد تجعل تمتعه بتلك الثقة الطويلة يتأرجح كما تتأرجح الدراجة على جسرالحبال.
|
|

|
|
|
|