|
نخـــب ما بعــــــد الاستعمار
|
الكاتب : أ.د. أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع السياسي عميد كلية الآداب جامعة القاهرة
إن الحديث عن جماعات الصفوة أو النخبة حديث قديم, ولكنه حديث الساعة أيضا, ذلك أن الفرز النخبوي حقيقة من حقائق الحياة الاجتماعية والسياسية. وتعرف النخبة بأنها جماعة( أو جماعات) من الأفراد الذين لهم خصائص مميزة, تجعلهم يقومون بأدوار أكثر تميزا في حياة مجتمعاتهم, ومؤشر هذا التميز في الأدوار تأثيرهم البالغ علي مجريات الأمور وتوجيهها, كما ينعكس في تأثيرهم علي عمليات صناعة القرارات المهمة ورغم أن هذا التدرج في تركيب النخب من المركزية إلي المحلية هو التصنيف الأكثر شيوعا . إلا أن ثمة تصنيفات أخري , كأن نصنف النخب حسب المجالات أو النطاقات التي تظهر فيها , فنقول نخبة اقتصادية , وأخري فنية , وثالثة مهنية , ورابعة سياسية , أو كأن نصنف النخب وفقا لوظائفها , أو وفقا لنظم المجتمع المختلفة , أو كأن نصنفها إلي نخب سياسية , ونخب غير سياسية , علي اعتبار أن النخب السياسية هي تلك الجماعات الأكثر تأثيرا في القرارات السياسية الهامة , بينما يكون للنخب غير السياسية تأثير في مجالات الحياة الأخري .
ويهمنا في هذا السياق التركيز علي النخب السياسية . ونحن أميل للنظر إلي النخب السياسية علي أنها تختلف في طبيعة تأثيرها وفقا لما تتمتع به من قوة ومن نفوذ . ولذلك فإن أقوي هذه النخب وأشدها نفوذا هي تلك النخبة التي نطلق عليها ' النخبة المركزية ', والتي تتكون من كبار رجال الدولة في أجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية . وتدور في فلك هذه النخبة المركزية نخب سياسية واجتماعية عديدة , ومن النخب السياسية : النخب الحزبية التي تتكون من قادة الأحزاب الرئيسية , والأحزاب التي في طور التشكيل , والنخب السياسية في المدن والقري المكونة من الزعماء المحليين وأعضاء المجالس المحلية والقادة المحليين . أما النخب الاجتماعية فإنها تضم خليطا من النخب المهنية ( قادة النقابات ), والمدنية ( قادة المؤسسات الطوعية وجماعات الضبط السياسي ), والنسوية ( النساء النشيطات في مجال الحقل النسوي ), والدينية ( كبار رجال الدين ), والطلابية ( قادة الطلاب ورواد الأنشطة الجامعية ). وثمة تداخل كبير بين هذه النخب بعضها البعض , وبينها وبين النخب السياسية , ومن ثم فإن تصنيفا للنخب لا يكون جامعا مانعا بحال الأحوال .
وتلعب النخب دورا كبيرا في حياة مجتمعاتها . فالقرارات التي تشارك في صنعها , والسلوك الذي تنتهجه في إصدار هذه القرارات وفي تنفيذها يؤثر تأثيرا كبيرا في صناعة تاريخ المجتمع وتحديد مساره . فرغم أن القرارات السياسية , والتشريعات التي تحدد مسارات الحياة المختلفة وأطرها المعيارية , تصدر عن مؤسسات كالمجالس التشريعية , إلا أن هذه المؤسسات تسير أمورها من خلال نخب , أي أعداد قليلة من الأفراد تشكل في الغالب ' أوليجاركيات ' داخل هذه المؤسسات يكون لها دون غيرها التأثير الأكبر علي القرارات التي تصدر أو التشريعات التي تسن . ومثل ذلك يقال عن المؤسسات التنفيذية التي تحول هذه القرارات والتشريعات إلي سياسات واقعية . فهذه السياسات تتأثر في صياغتها وفي تنفيذها بمواقف وأراء الأشخاص الذين يقومون بصياغتها أو تنفيذها , أي بالأفراد الأكثر تميزا وتأثيرا في عمليات الصياغة والتنفيذ , أي بالنخب العلمية والتنفيذية .
والطريق السهل في درس الأدوار التي تقوم بها النخب في عمليات إصدار القرار أو التشريعات , أو تنفيذ هذه القرارات هو الذي يرتبط برسم أدوار مثالية للنخب في المستويات المختلفة لصناعة القرار أو تنفيذه . ومع أهمية مثل هذا الطرح الذي يحدد أدوارا مثالية للنخب , فيجب - وعلي نفس القدر من الأهمية - أن نكشف عن الجوانب التي يمكن أن تعوق النخب عن أداء هذه الأدوار , بل التي أعاقتها بالفعل في كل دول العالم النامي تقريبا عن أن تقود تنمية حقيقية , وأن تلعب نفس الدور الذي لعبته النخب في المجتمعات المتقدمة والتي غالبا ما نأخذ عنها هذه المثاليات المرتبطة بدور النخب السياسية وغير السياسية . وفي ضوء هذا فإن علينا أن نميز في حديثنا عن دور النخب بين العام والخاص , فالنخب السياسية وغير السياسية ليست قائمة في مكان ما مستقلة بذاتها عن سياق البناء الذي أفرزها والذي تديره أو تعيد تشكيله وفقا لمقتضيات العصر . فنجد علي سبيل المثال النخب في دول العالم النامي قد نشأت في ظروف خاصة , وتطور تشكيلها في ظروف خاصة , ومن ثم فإن أدوارها تحددت في ضوء هذه الظروف بنفس الطريقة التي تحددت بها مشكلاتها والعقبات التي تواجهها .
وهذا المنحي يمكننا من أن نفهم تركيب النخب السياسية وأدوارها في ضوء السياق الذي ظهرت فيه هذه النخب , والمشكلات المرتبطة بتكوينها الاجتماعي والنفسي , وبمصالحها وأهدافها . فمثل هذا الحديث ينزل بنا من عالم المثاليات و ' الينبغيات ' إلي عالم الواقع , ويفتح عيوننا علي آفاق أخري للمستقبل . وفضلا عن أن الطرح الواقعي لقضية النخب يبرز الطابع الخاص للمجتمعات التي تشترك في خبرة تاريخية واحدة , فيبرز الفرق بين النخب التي نعيش في ظلها , وبين النخب التي بنت الحضارة في العالم الغربي . وإذا كانت خبرة الاستعمار هي الخبرة المشتركة بين معظم الدول التي تقع في جنوب العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية . الا أن هذه الخبرة الاستعمارية قد ساهمت بشكل أو بآخر في تشكيل النخب السياسية في هذه الدول . ولذلك فتاريخ ما بعد الاستعمار لا يمكن انفصاله عن تاريخ الاستعمار ذاته .
كانت النخب السياسية , التي تهيمن علي مقدرات هذه الشعوب فيما قبل الاستعمار , تتكون من جماعات من المحاربين أو زعماء القبائل تتعاون معهم جماعات من رجال الدين والتجار , وكانت هذه الجماعات تحكم في ضوء علاقات أبوية أو عسكرية أو سلطانية . ففي المجتمعات البدوية والقبلية والتي انتشر الكثير منها في قارة أفريقيا وآسيا - كانت النخب السياسية في فترة ما قبل الاستعمار تتكون من زعماء القبائل والعشائر , وكانت تستمد نفوذها من القوانين القبلية التي غالبا ما تعطي تميزا لجماعات بعينها في ضوء السن أو الانتماء إلي قبيلة بعينها . ويتأسس الحكم في هذه المجتمعات علي نوع من ' الرئاسة '- بالمعني الخلدوني - الأبوية القائم علي العصبية القبلية . وثمة نوع آخر من المجتمعات التي كان النظام الاجتماعي فيها يتأسس علي الحرب والقتال . فالقوة والغلبة للمحاربين الأشداء من داخل البلد أو من خارجها . ويتأسس الحكم في هذه المجتمعات علي خليط من الأبوية والنزعة العسكرية التي غالبا ما كانت ترتبط بروح إقطاعية . ولعلنا ندرك طبيعة التداخل بين النظم البدوية الأبوية والنظم العسكرية , فغالبا ما يتأسس الحكم في المجتمع البدوي علي صراع وقتال بين القبائل القوية من أجل السيطرة والنفوذ . أما النمط الثالث من مجتمعات ما قبل الاستعمار فقد كان نمطا إمبراطوريا يعرف الحكم السلطاني , كما هو الحال في الإمبراطورية العثمانية . في هذا النمط ثمة نخبة مركزية سلطانية في مركز الإمبراطورية , وثمة ' نخب ولايات ' تتمحور حول الوالي الذي يعينه السلطان , وتتكون من جماعات من المحاربين والتجار ورجال الدين . وتتأسس سلطة الولاة وأتباعهم علي شرعية تقليدية , تستمد في الغالب من شرعية الإمبراطورية .
ومع قدوم الاستعمار وبداية اندماج النظم التقليدية في الثقافة الغربية الحديثة برزت إلي الوجود وجوه جديدة هي الوجوه التي نمت مع النمو المؤسسي الحديث في مجال النظم العسكرية والاقتصادية والثقافية الحديثة . لقد برز إلي الوجود عسكريون , ومثقفون ورجال صناعة وتجارة حديثة , وأطباء ومحامون وقضاة وعلماء , كما ظهر إلي الوجود أيضا كبار ملاك الأرض بعد تحول الأرض إلي سلعة تباع وتشتري في ظل التحولات الرأسمالية التي أدخلها الاستعمار , ومن بين كل هؤلاء ظهر رجال سياسة ساهموا في حركة التحرر وتحاوروا مع الاستعمار بالمفاوضات تارة وبالكفاح المسلح تارة أخري . وهؤلاء هم الذين شكلوا النخبة السياسية القومية التي عملت وكأنها ورثت البلاد بعد خروج الاستعمار .( انظر مقالنا المنشور بعدد أكتوبر 1994 من مجلة الهلال بعنوان ' دور النخبة ومشكلات التخلف ').
لقد نشأت النخب السياسية التي أخذت بزمام الأمور فيما بعد الاستعمار في كنف النظم الاستعمارية , ونشأت في نفس الوقت في كنف النظم الأبوية أو العسكرية أو السلطانية التي كانت سائدة فيما قبل مجئ الاستعمار . ولذلك فإذا كانت هذه النخب قد تعلمت تعليما غربيا , واكتسبت خصائص ثقافة الغرب , وذلك بفضل النظم التي أدخلها المستعمرون , فإننا نفترض أن هذا التعليم وذلك الاكتساب للثقافة لم يفقدها روابطها التقليدية . ومن ثم فيمكننا أن نفترض أن ثمة رافدين أثرا في تكوين نخب ما بعد الاستعمار , الأول : يرتبط بطبيعة الروابط التقليدية التي انخرطت فيها هذه النخب , وطبيعة الثقافة التقليدية التي لم تحدث هذه النخبة معها قطيعة قط . والثاني : يرتبط بطبيعة الثقافة الغربية التي اكتسبتها والتي ميزتها عن أضرابها , وربطتها ربطا قويا بالمستعمرين في كثير من الأحيان , أو دفعتها إلي مقاومة المستعمر في بعض الأحيان . ولقد تركت هذه الروافد تأثيرا كبيرا علي الطريقة التي حكمت بها النخب السياسية البلاد فيما بعد الاستعمار .
لقد افترضنا آنفا أن الجماعات التي شكلت النخب السياسية في مجتمع ما بعد الاستعمار كانت جماعات من العسكريين متحالفين مع كبار ملاك الأرض وكبار ملاك الثروة والتكنوقراط والبيرقراط من أصحاب المهن المتخصصة . وهذا التحالف اختلفت طبيعته من دولة إلي آخري . ففي الدول التي حاولت فيها النخبة إحداث تغيرات جذرية في بنية التركيب الطبقي وفي توزيع الثروة , كان التحالف قويا بين العسكريين والتكنوقراط والمثقفين ( كما كان الحال في مصر فيما بعد ثورة يوليو ). وجاء ذلك التحالف علي حساب إزاحة فئات أخري مثل كبار الملاك وكبار رجال الصناعة وكبار التجار وتهميش دورهم السياسي والاجتماعي . أما في دول أخري ( الكثير من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا ), فقد كان التحالف واضحا أكثر بين العسكريين وكبار ملاك الأرض وكبار الرأسماليين .
وفي كل الأحوال لم تتساو هذه الجماعات في قوتها ونفوذها . وكانت جماعة العسكريين علي رأس هؤلاء وفي مقدمتهم بسبب ما تتمتع به من قوة تستمدها من سيطرتها علي نيران المدافع , ومن ظهورها المبكر , فقد كانت المؤسسة العسكرية من أولي المؤسسات الحديثة التي ظهرت إلي الوجود , فقد أسس محمد علي مثلا الجيش المصري بنظامه الحديث قبل أن يؤسس النظم الأخري . ويقول بعض علماء الاجتماع بأن الجماعة الاستراتيجية التي تظهر أولا في السياق الزمني يكون لها نصيب الأسد من الثروة والقوة . وإذا كانت جماعة العسكريين قد ظهرت في سياق زمني مبكر , فقد كان نصيبها من ملكية القوة السياسية والاقتصادية أكبر من غيرها . هذا فضلا عما تتمتع به من قوة تستمدها من سيطرتها علي السلاح في مجتمعات لم تكن القوانين والتشريعات المرتبطة بالفصل بين السلطات قد تبلورت علي نحو جلي بعد .
وفيما بعد الاستعمار كانت المهمة الأولي أمام هذه النخبة السياسية أن تكون دولة قومية حديثة مستقلة , وأن تخلق ضربا من التجانس والوحدة في هذه الدولة , حيث كان علي هذه النخبة أن تخلق ثورة تكاملية IntegrativeRevolution عن طريق تدعيم المؤسسات الحديثة والجماعات الاندماجية CorporateGroups التي تتجاوز انقسامات الديانة , أو السلالة , أو اللغة , أو الإقليم . كما كان عليها أن تواجه المشكلات المتفاقمة للفقر والمرض والأمية بسياسة تحديثية متكاملة . كما كان عليها أن تنقل النظام السياسي إلي نظام حديث يتواكب مع متغيرات العصر , وأن تدفع الشعب إلي مزيد من المشاركة في صناعة مصيره , وكان عليها في إطار كل هذا أن تشجع العلم والإبداع , وأن تنقل المجتمع إلي حالة يتواكب فيها مع المتغيرات العالمية من حيث المستوي المعيشي والتكنولوجي والثقافي . لقد كان عليها باختصار أن تقوم بمهمة تحديث المجتمع , أو تحويل نظم التحديث التي أقامها الاستعمار إلي نظم تخدم الأهداف الوطنية في إطار دولة وطنية . لقد كان عليها باختصار أن تؤسس دولة وطنية حديثة قادرة علي أن توفر لمواطنيها حياة كريمة أفضل من الحياة في ظل الاستعمار , وأن تتفاعل في بيئة دولية علي أسس من المساواة .
ولتأسيس الدولة الوطنية الحديثة بدأت النخب في اختيار نماذج للتنمية والتحديث . وتبارت النخب السياسية بالأخص في تطوير هذه النماذج التحديثية , وتراوحت هذه النماذج بين استعارة النماذج الجاهزة من الغرب أو الشرق وفقا للتوجه الأيديولوجي الذي كان يسيطرعلي هذه النخبة , وبين تطوير أطر خاصة تراعي الظروف المحلية في عملية استعارة النماذج . ومن هنا ظهرت مفاهيم مثل الاشتراكية الإفريقية ( الاشتراكية التي تتلاءم مع معتقدات أفريقيا وتقاليدها ) والاشتراكية العربية ( أي الاشتراكية النابعة من التراث العربي والمحافظة عليه ). وفيما عدا تجارب قليلة , كانت عملية استعارة النماذج تخضع لعملية انتقاء عشوائية لا تخضع لنظام عقلي أو إطار أيديولوجي راسخ , بل أن النخب السياسية المتتالية , والتي جاءت بناء علي انتقال طبيعي للسلطة أو بناء علي انقلابات عسكرية , بدلت كثيرا من التوجهات الأيديولوجية , وأدخلت نماذج تحديثية لتحل محل نماذج أخري , فازدادت الطينة بلة , وتراكمت علي المجتمع المزيد من المشكلات والتناقضات .
والسؤال المهم الذي يطرح الآن , وبعد أكثر من أربعة عقود من محاولة تحقيق هذه المهام تحت خطاب التنمية والتقدم والثورة السياسية ( تغيير النظم السياسية ورموزها والأيديولوجية السياسية ) والثورات النوعية ( الثورة الزراعية , والثورة الخضراء , والثورة الإدارية , والثورة التعليمية ... الخ ) هل حققت النخبة السياسية المهام المنوطة بها؟ وهل ساعدتها ظروفها وخصائصها وظروف مجتمعاتها , والظروف الدولية علي تحقيق أهدافها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا تحتاج إلي جهد كبير , ولا إلي تفسيرات كثيرة . فكثير من الشواهد تدل علي أن التنمية في معظم بلدان العالم النامي كانت وهما , وأن ' المهمة التاريخية ' للنخبة قد تبددت في متاهات التخلف والركود , وتحولت إلي ' مهام أخري ' ليست لها علاقة بتكوين الأمة أو صيانة هويتها أو دفعها إلي مستقبل أفضل ( ولا شك أن هناك بعض الاستثناءات لهذا الحكم في بعض بلدان العالم النامي ). ويكفي للتدليل علي ما نذهب إليه هنا أن نشير إلي الفشل الذريع في خلق الثورة التكاملية , أو في جمع الأمة علي كلمة سواء , الذي يتبدي في صراعات وحروب بين الجماعات والقبائل بل بين فئات متصارعة من النخبة ذاتها . لقد كانت أهم مهمة تاريخية للنخبة هي خلق بناء الأمة المتماسك , وتفجير طاقاتها في عملية تنمية مستقلة معتمدة علي الذات . ولكن واقع الحال الآن يكشف عن أن هذا البناء المتماسك لم يخلق , وأن أية أزمة ترجع بهذه المجتمعات بما فيها جماعات النخبة السياسية أنفسها إلي المشاعر البدائية والروابط التقليدية والقيم التراثية الجامدة . وفي ظروف كهذه يتوقع أن تتفاقم المشكلات الاجتماعية , وأن تتضاعف مشكلات الفقر والبطالة والصحة والتعليم , بالرغم من وجود مؤشرات علي تحسن كمي فيها .
وهناك تفسيرات عديدة لمثل هذا الوضع منها التفسيرات المتعلقة بسيطرة الأبنية الرأسمالية العالمية , فيما بعد الاستعمار , وإبداعها لأساليب جديدة لتكريس التخلف في الدول الفقيرة عن طريق إغراقها بالديون وحرمانها من التكنولوجيا المتقدمة , وفرض شروط تبادل غير متكافئ عليها . ومنها أيضا الإشارة إلي النمو الداخلي لفئات طبقية طفيلية تتحالف مع النخب السياسية لوراثة الاستعمار , فيتحول الاستعمار الخارجي إلي استعمار داخلي يمارسه أهل البلد الأصليون . لقد تحالف الاستعمار الجديد بشركاته المتعددة الجنسية وأنماط هيمنته العسكرية والثقافية , مع الاستعمار الداخلي لإفشال عمليات التنمية والتحديث في كثير من دول العالم النامي , بل إن بعض هذه الدول قد دخلت في متاهات وصراعات إقليمية وداخلية أدت إلي تدهور الظروف الاقتصادية تدهورا كبيرا .
وبرغم أهمية هذين التفسيرين , فإن هناك تفسيرا ثالثا يركز علي جماعات النخبة ذاتها - فيما بعد الاستعمار - من حيث تكوينها وخصائصها الاجتماعية والنفسية , وأنماط تحالفاتها وأهدافها .. ونراه تفسيرا مهما رغم ميلنا إلي فهمه في ضوء التفسيرين السابقين , ولذلك فسوف نوجزه باختصار .
إذا كانت جماعات النخبة السياسية قد ظهرت وتطورت في ظروف الكفاح ضد الاستعمار , فإن وراثتها للحكم من هذا الأخير قد خلق لديها بنيه نفسية خاصة تقوم علي الشعور بالتفوق علي سائر الأمة , والربط بين النجاح في تحقيق الاستقلال والحق في الحصول علي مكاسب , أقلها التمتع بالحكم لفترات طويلة , كما تقوم علي الشعور الفياض لدي جماعات النخبة بحمل الكاريزما دون سائر الأمة , فالنخبة هي التي تشع الكاريزما علي بقية أفراد المجتمع , والمجتمع غير قادر علي إفراز هذه الكاريزما بدون مباركة النخبة . فهي إذن التي تحييه وتكسبه طاقة , إذا تصورنا الكاريزما مصدرا للطاقة النفسية , وبدونها لا تساوي شيئا . ومن هنا ظهر هذا التوحد الذي نراه بين جماعات النخبة السياسية والأمة , فصارت الأمة إلي نخبة والنخبة إلي الأمة , فتحول مفهوم الأمة إلي مفهوم مجرد لا معني له إلا في الخطاب الأيديولوجي .
ويتجلي هذا التوحد بصور عديدة , ويتم التعبير عنه بخطابات أيديولوجية مختلفة . ذلك أن جماعات النخبة السياسية قد نشأت في أحضان الطبقة الوسطي التي تفرز بحكم تركيبها المتناقض طلائع نخبوية متناقضة . ويؤدي هذا الوضع إلي خلق انقسامات في بناء النخبة وهي انقسامات تنعكس علي المجتمع في شكل صور من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الناتج عن تعدد النماذج والسياسات والأيديولوجيات التي تطرحها النخب في الفترات التاريخية المختلفة .
وغالبا ما يرتبط التوحد بين النخب وبين الأمة أو روحها , بالتأكيد علي العلاقة الوثيقة بين مصير الأمة ومصير حكامها . فهؤلاء الحكام هم الذين كافحوا من أجل استقلال الأمة , أو هم الذين قادوا كفاحها نحو التنمية والتحديث , ولذلك فإن لهم عليها يد عليا . ولا فرق إذن بين مصير النخبة ومصير الأمة , فكلاهما يرتبط بالآخر ارتباطا عضويا . وتتدعم هذه العلاقة من خلال مفاهيم تقليدية موروثة من المجتمع الامبراطوري القديم كالمفاهيم المرتبطة بالأبوية , والحفاظ علي التراث والهوية . فالظروف التي تربت فيها النخبة في مجتمع ما قبل الاستعمار وفي مجتمع الاستعمار يتم تناقلها عبر الأجيال المتلاحقة للنخب السياسية دون أن تؤثر عليها نظم المجتمع الحديثة . فالطريقة التي نقلت بها هذه النظم لم تحدث قطيعة مع الأبنية التقليدية التي تنتمي إلي المجتمع ما قبل الحديث أو إلي المجتمع الإمبراطوري . حيث استمرت هذه الأبنية حاكمة للسلوك السياسي , حتي وإن لم تكن حاكمة للفكر السياسي . فمن المتوقع أن تؤثر التنشئة الاجتماعية التي خضعت لها النخب السياسية في الأسرة وفي المدرسة وهي تنشئة مثقلة بأطر تقليدية وآليات تسلطية وأبوية علي طريقة النخب السياسية في الحكم , وعلي نظرة هذه النخب لنفسها ومجتمعها .
ويؤدي هذا الوضع إلي أن تصبح لجماعات النخبة السياسية أهداف خاصة ترتبط باستخدام السياسة لتحقيق مطامح شخصية . ويصبح تحقيق هذا الهدف مسألة ميسورة مع وجود الإحساس بملكية الأمة وإحكام القبضة عليها . ويتم هذا في أغلب الأحوال بخلق أشكال من التحالف في الداخل والخارج , وإعطاء الضوء الأخضر لفئات بعينها دون فئات أخري , وإغفال الأهداف القومية بعيدة المدي من أجل أهداف قصيرة المدي . ويعني ذلك أن النخب السياسة تميل كل الميل , ولا تعمل علي تبني قيم للمساواة , بل يكشف سلوكها دائما عن ميل ' أورليجاركي ', أي النزوع نحو العمل في جماعات صغيرة , وغلق حدود هذه الجماعات التي يتم تكوينها في ضوء مفهومات الشللية والولاءات الشخصية . ويؤثر ذلك تأثيرا كبيرا في نشر قيم الديمقراطية . فمثل هذا النزوع , ومثل هذا الميل , يؤدي إلي أن تستبدل الأبوية والباترونية بقيم المساواة , والأجندة المغلقة بالأجندة المفتوحة , والسرية والكتمان والمداراة بالإفصاح والشفافية , والتناقض بين الآليات المعلنة والآليات الفاعلة بالاتساق بين القول والفعل .
إن كل هذه الخصائص والأطر البنائية الحاكمة لها تشير إلي أن جماعات النخبة السياسية وغير السياسية في بلدان العالم النامي توجد في ظروف خاصة , ويحكم تركيبها وحركتها وأهدافها واقع خاص هو واقع التخلف . هذا الواقع الذي يفرز من المشكلات والعقبات ما يحول دون جماعات النخبة وتحقيق المهمة أو المهام التاريخية المنوطة بها في مثل هذه المجتمعات . بل إن بعض هذه العقبات يرتبط بتركيب النخبة ذاتها من حيث خصائصها الاجتماعية والنفسية وعلاقتها بالجماعات المكونة للمجتمع , أو علاقتها بالأمة التي تتولي زمامها .
وفي ضوء هذه الظروف قد يصعب تحديد أدوار مثالية لجماعات النخبة السياسية , فمثل هذا التحديد المثالي أمر مهم , فما كان أرسطو لولا أفلاطون , وما كان ابن خلدون لولا الفارابي , ولكن مثل هذا التحديد المثالي يجب أن يتم في ضوء وعي بالمتغيرات الواقعية وبالمشكلات المرتبطة بالبناء الاجتماعي والنفسي للنخب السياسية وغير السياسية . وفي اعتقادي أن غياب هذا الوعي يجعل التفكير المثالي ذاته مشكلة لا بالنسبة للنخب السياسية فحسب , بل والنخب الأخري التي تدور في فلكها , سياسية كانت أم اجتماعية .
وأختتم بالإشارة إلي فرضية ربما أمكن تتبعها في المستقبل وهي أن خصائص النخبة السياسية المركزية والتي أشرنا إلي بعض منها تشع علي النخب الأخري التي تدور في فلكها , بل أن هذه الخصائص قد تتزايد ويضاف إليها خصائص أخري كلما اتسعت دائرة النخب . فالاستبداد النخبوي يكون هو الأولي بالانتشار في حالة غلق الكاريزما واحتكارها . وأحسب أن طموح الدول النامية نحو تحقيق الديمقراطية والإصلاح السياسي لن يتحقق دون النظر العميق في المشكلات المرتبطة بتكوين النخب السياسية والاجتماعية علي حد سواء , ودون النظر العميق في طبيعة تكوين البناء الاجتماعي , والجماعات السياسية في مجتمعات ما بعد الاستعمار .
http://democracy.ahram.org.eg/UI/Front/InnerPrint.aspx?NewsID=260http://democracy.ahram.org.eg/UI/Front/InnerPrint.aspx?NewsID=260
|
|
 
|
|
|
|