رحمة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-14-2025, 04:03 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2014م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-02-2014, 06:20 PM

حيدر سيد أحمد الشيخ

تاريخ التسجيل: 05-29-2013
مجموع المشاركات: 12

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رحمة

    رحمة
    قصة قصيرة
    الأول من شهر يناير 2013

    ... ما أجمل أن تكون مسافراً في نواحي كردفان خريفاً ... قبل رصف الطريق الرئيس الذي يربطها بالشمال ... على ظهر (لوري) تجاري للبضائع وهو الوسيلة الوحيدة للسفر في ذلك الزمن ... هذا فضلاً عن الجمال التي كانت تجوب تلك الأصقاع حاملة للبضائع ومحلاً لمفخرة أصحابها ومصدراً لكمّ غير محدود من الشعر العامي (الدوبيت) في وصف محاسنها وسرعتها وقوتها. الطريق غير معبّدة غير أنّ مرور السيارات المختلفة حفر فيها أخاديد عميقة يتوسطها شريط مرتفع من الرمال التي رسمتها عجلات "اللواري" وحددت معالمها ... وأصبح هذا الشريط من الأرض هو البقعة الوحيدة الخالية من الخضرة ... التي كانت تمتدّ إلى حيثُ يعجز البصر عن تحديد مداها ... وتحفُ بها الحياة من كل جانب ... الأشجار الطويلة والقصيرة بكل أنواعها ... والنباتات والحشائش داكنة الخضرة يتوسطها برك من مياه الأمطار ترقص في داخلها وعلى حوافها الحشائش التي نبتت في المنخفضات وفاجأها المطر.
    الطقس غائم ... نسائم رقيقة مشبّعة بالرواء ... خليط من روائح تثيّر في النفس شعور لا يُصدق ولا يُفسر ... إحساس من البهجة تكاد تلمسه بأطراف أصابعك ... رائحة أشجار "السنط" و "السدر" و "الطلح" و "اللعوت" أطلقت عطورها المميّزة إحتفاءاً - بعد طول إنتظار وجفاف كاد يُذهب بريحها – بالرواء الذي تخللها وأطلق عبيرها الذي طال إحتباسه فإنتشر كالبساط في طبقات الجو.
    في هذا الطقس الآثر... يحلو التعارف وتبادل الأحاديث بين الركاب ... تتناثر التعليقات المرحة عن اللوحات الطبيعية التي تتواتر والمركبة تئن بحملها وهي تسلك المنعرجات الرملية والتلال التي تشقها المركبة. كان يجلس بقربي رجل في منتصف الخمسين من العمر ... يرتدي "جلابية بيضاء" تغضّنت بفعل السفر والجلوس الطويل على شحنة التمر المغطاة بنسيج سميك تفوح منه رائحة الزيت والتراب لطول الإستعمال وتعاقب الشحنات المختلفة عليه التي بالقطع كان من بينها شحنات من الزيوت التي تشتهر بها المنطقة ... كان يرتدي "طاقية" مشغولة الحواف بلون حائل و"عمّة" لم يخلعها طوال مدة الرحلة – كما فعلنا جميعنا – ينتعل حذاءاً من جلد "الأصلة" الذي وضعه أمامه بجانب عصاة معكوفة المقبض يحيط طرفها جلد سميك "مضببة".
    لم يكن رفيقي ميالاً للحديث بإنطلاق وحماس كما يفعل الكثيرون منّا ... وكانت ردوده تتّسم بالإقتضاب مع مسحة من السخرية بصوت عميق كأنه صادر من مكان سحيّق ولا يمتّ لملامحه بثمّة شبه ... يجعل السامع ينتبه ويعيّد تأمل صاحب ذلك الصوت ... للبحث عن مقاربة ما. شعرتُ برغبة جامحة في التسلل إلى دواخل نفس ذلك الرجل ومحاولة إستكشاف ما يعتمل بصدره ... ولا أدري لماذا خامرني هذا الإحساس الداهم.
    بعد هبوط الظلام بوقت ليس بالقصير ... و "اللوري" يكافح الرمال الممتلئة حتى الثّمالة بماء المطر ... لاحت لنا أضواء راعشة من البعيد تنطفئ كلما تلوّى "اللوري" في منحنيات الطريق وحالت بيننا وبين تلك الأضواء الأشجار الداكنة التي تبدو كالأشباح في ظلام الليل الخريفي ... بدأت تتضح معالمها كلما دنونا منها حتى توقف "اللوري" أمام إستراحة بلدية مبنيّة من جذوع الأشجار ومسقوفة بالأعشاب الجافة ... مثل كل المحطات التي تتواتر على الطريق ... كانت تفوح من المكان روائح البخور مختلطة بروائح الطعام الشهي ... تتناثر "البنابر" القصيرة المضفورة بالجلد ... والحبال المصنوعة من سعف "الدوم" أو نباتات أخرى ... "بروش" منسوجة من جريد النخل تغطي جزء من المساحة الواسعة التي تمتدّ من أمام الإستراحة حتى تخوم الطريق. نزل الجميع لفرد أجسادهم التي هدها السفر ولأداء الصلاة وتناول ما تيّسر من الطعام والشاي والقهوة إستعداداً لسفر ليلي طويل. إستقبلتنا عند بوابة الإستراحة سيّدة في منتصف العمر ترتدي "ثوباً" ملوناً وبصحبتها فتيات صغيرات يبدو أنهن بناتها ... كما كان هناك رجل خمسيني يرصّ المناضد في الداخل بهمّة ونشاط.
    جلست على "بنبر" بعد أن أخذت "إبريقاً" للوضوء ووضعته أمامي كما فعل الآخرون ... بالقرب مني جلس رفيق سفري الرجل الغامض على "بنبر" آخر ... وشرعت في الوضوء وهو أيضاً خلع "مركوبه" ووضعه جانباً على مسافة منه ... بعيداً عن الماء ... وخلع عمامته والطاقية معاً – لأول مرة طوال مدة السفر – ووضعها على "بنبر" آخر بالقرب منه وعليها "عصاته" ... ثمّ شمّر أكمام "جلابيته" وأطرافها وبدأ في الوضوء. حانت مني إلتفاتة فضولية إلى رفيقي، وكانت تنعكس على صفحة وجهه أضواء مصابيح "الجاز" الراعشة وتضفي غموضاً عليه ... لمحت رأسه الذي يكاد يخلو من الشعر ... يتناثر شعر خفيف في مواقع متباعدة مثل "الزراعة المطرية" ... وتغطي فروة رأسه ندوب كثيرة بارزة وظاهرة للعيان تبدو لامعة وخالية من الشعر تماماً ... يصعب معرفة عددها ... توقفت عن الوضوء دون قصد أو إدراك مني ... إستغرقت في النظر ... رمى إلي بإلتفاتة سريعة كأنما شعر بحرارة النظرات تكوي صفحة وجهه ورأسه ... ورأى الدهشة والحيرة اللتان إرتسمتا على محيّاي ... عبرت سحابة من الضيق على صفحة وجهه لبرهة لم تفلح محاولته في إخفاءها ... واصل الوضوء بسرعة ووضع "عمامته" وإنتعل "مركوبه" على عجل دون أن يترك أقدامه تجف من الماء كما فعل الآخرون ... حمل "عصاته" وأسرع صوب المكان المُعدّ للصلاة.
    بعد إلحاح مني جلسنا معاً على طاولة واحدة داخل الإستراحة ... من فوقنا تدلى مصباح معلّق في سقف الإستراحة ... ترمي قاعدته بظلال راقصة تضفي جواً من الغموض والسحر حولنا ... أثار شجوني هذا الجو المعبّق برائحة بخور بلدي طاغ سيّطر على المكان وعمّق الفضول داخل نفسي ... رميتُ إليه بحيرتي ودهشتي ... توقف عن مضغ الطعام الذي وضعته السيّدة "صاحبة الإستراحة" بإبتسامة ترحيّب لبرهة ... وأطرق مدة خلتها طويلة لفرط تلهفي وتوجسي ... رفع رأسه أخيراً وحدّق داخل عيّني بقوة ... قال في صوت عميق هادئ: ("عرفت بأنك تسأل عما حلّ برأسي ... أعلم يا صاحبي بأنني تعرضت كثيراً لمثل هذا الموقف ... حتى من أولادي الصغار ... فقط أمهم التي لم تطلب إيضاحاً ... لأنها تعلم بدقائق الأمر مثلي تماماً ... على العموم كانت هذه الأشياء تؤرقني والحديث حولها يسبب لي الكثير من الألم والمرارة والحرج ... إلاّ أن مرور الزمن والحياة المستقرة التي أعيشها الآن خففت الكثير من هذا الحرج ... إليك بقصتي فأسمع ...").
    ... أطرق قليلاً وهو يمضع الطعام ببطء ... ألححت عليه بعدم التوقف عن الأكل ... ليس ثمّة عجلة في التحدث وتناول الطعام معاً. رمى بنظرة ساهمة وهو يحدق في السقف المتعرج الذي تكسوه خيوط العنكبوت التي تظهر ثمّ تختفي مع الأضواء الراقصة كلما تسللت نسمة إلى الداخل ... نظرت إلى حيثُ مرمى بصره بصورة تلقائية كأنني سوف أجد بداية القصة عند نقطة الإلتقاء هذه. بصوت هادئ عميق النبرات ... قال ... تفتحت عيوني في قرية من قرى كردفان ... في أسرة رقيقة الحال حيثُ كان والدي يعمل مزارعاً أجيراً لا يملك من الدنيا سوى "قطية" وحوش مزروب "بصريف" من العيدان والحشائش الجافة مثل الكثيرين من أهلنا في هذه الأنحاء ... كنت الولد الوحيّد وسط ثلاثة من البنات ... وجدت الجميع ينادونني "الزين" ... كنت في باكر صباي عندما شعرت بأنني بلغت مبلغ الرجال أو أكاد ... ونحن صبية نستعجل الزمن لنصبح كباراً نرتاد بيوت الخمرة البلدية ... نفعل ما يحلو لنا ... وكانت تستهوينا قصص الشجاعة والمعارك وخاصة أخبار "الهمباتة" التي كنّا نستغرق في سماعها بوله صوفي ونتماهى معها ... نتخيل أن هذه البطولات – أو كما زُيّن لنا – منسوبة إلينا نحن وليست قصصاً تُحكى عن شخصيات لم نُحظى بلقاءها ... مثل "الطيب ود ضحوية" و "طه الضرير" وآخرين ... كنا نحفظ بعض أشعارهم "الدوبيت" التي تحكي عن الشجاعة والفروسية والقوة والكرم وقهر الرجال وأخذ المال والجمال عنوة وإقتداراً من بين يدي أشجع الرجال ... مما جعلهم مدار حديث النساء في تلك الأصقاع ... ومحرك أحلام الصبية وشجونهم، كنا نردد قول الطيّب ود ضحوية في مدح رفيقه طه الضرير:
    الليلة النفس صبحت عنيدة وعامدة ...
    وما بتتسلى غير برقع حميدة وحامدة ...
    يا حليل الرباع أبان قلوباً جامدة ...
    ناس طه الضرير ضو القبيلة الهامدة ...
    وإستطرد الرجل وهو ينظر ساهماً: كنت أردد كلمات الطيب ود ضحوية كشعار مقدس يمدني بالإلهام والقوة ويشعل في داخلي ناراً لا تخبو إلاّ لتشتعل مرة ومرات:
    زمنك كلو تاكل باردة ما ضق حارة ...
    وأطرى الليلة يا طه أم حمد والسارة ...
    درق البازة جاك زي السحابة التارة ...
    وحس أب جقرة والقربين صواقعاً تارة ...
    أو قول طه الضرير في رده على رفيقه:
    باكل حارة ما ضق باردة ماك داريني ...
    وأسعل مني ربعاي البعرفوا قريني ...
    حس الجقرة والقربين دوام طاريني ...
    أنا أخو اللينة كان يبقى الحديث عانيني ...
    حين أصبحت رجلاً بالغاً ... بدأت تتملكني نوازع الشر باكراً ... صرت لا أحفل بأي قيمة إجتماعية أو أخلاقية ... أزدري الأعراف والتقاليد ولا أكنّ إحتراماً لأي شخص كبيراً أم صغيّراً ... أرى أنني أحقُ بما يملكه غيري ... وعلى الآخرين التنازل عما بأيديهم من مجرد إشارة. لم يتقبل أحد في القرية خاصة شيوخها ما إعتراني من شر ... بدأ الأمر أول مرة بالتأنيب وإنتهى بالرفض مع الغلظة. مع فوران الشباب إندفعت عميقاً في بحر الرفض ... وإنتهى بي الأمر إلى أن أصبحت سكيراً عربيداً وخائناً لا أتردد في الدخول في الموبقات ... أصبحت القرية بالنسبة لي أضيق من سمِّ الخياط ... لم تعد القرية تتسع لي ولغيري في آن معاً - ... إزدرد لقمته بصعوبة وألم كأنه يبتلع ماضيه العلقم ... ثمّ واصل الحديث – حينها قررت الخروج منها متأبطاً خيبي وباحثاً عن مكان يحقق ما أصبو إليه.
    بدأت تجربتي الأولى في "الهمبتة" بكارثة كادت أن تؤدي بحياتي مبكراً ... وقع بصري في الخلاء الواسع – وأنا أهاجر بعيداً عن قريتي – على قطيّع من الإبل ليس بكثير العدد كما عهدنا أن نراه ... حينها بدأت نوازع الشر تتحرك في داخلي ومنيّت نفسي "بركوبة" سهلة تعينني على تحمل مشاق السفر وتكون ضربة البداية في طريق المخاطر الذي عزمت السير فيه. كان مع القطيع شخص واحد في مثل سني أو أكبر قليلاً وهو ما شجعني على ما أزمعت فعله ... كان يركب على جمل صبي ... لم يكن يحمل في يده سوى "سوط عنج" يوجه به الجمال التي تتهادى في مشيتها بإطمئنان ... تماماً كما حفظنا من قصص "الهمباتة" ... ناديته بصوت إجتهدت فيه القوة والغلظة، وطلبت منه أن ينجو بنفسه ويترك الجمال وإلا سيكون مصيره الموت المحتوم ... لم يلتفت إلي رغم سماعه لصوتي في هذا الخلاء الواسع ... كل ما فعله أن قال: ("ها جنا ... أرعى بقيدك ... إت قايل البلد هاملة ..."). حينها تملكني الغضب ... إندفعت نحوه رافعاً "عصاتي الثقيلة المضببة" قاصداً ضربه من على الجمل القصير الصبي الذي كان يمتطيه ... سمعت فرقعة "سوط العنج" وبعدها لم أعي بما حدث.
    فتحت عينيّ بصعوبة ... ألفيتني مدداً على "برش" وحولي ظلام تتخلله خيوط من الضوء صادرة من مكان لم تستوعبه أفكاري ... أصدرت أنيناً متقطعاً بدأ خافتاً كأنما يصدر عن كائن آخر لا علاقة له بي، ثمّ تصاعد قليلاً ... فجأة غمر المكان ضوء ساطع من إنفتاح باب مصنوع من جوالات "الخيش" السميك ... ظهر شخصان أحدهما الشاب الذي كان يمتطي الجمل الصبي والآخر رجل فارع الطول قوي البنيان دون ترهل ... في العقد الخامس من العمر ... قال في صوت ضاحك: ("آجنا وكتين ما قادر عليها ليش تتشبر ..."). أسنداني كل من جانب وخرجنا من الباب ... تبيّن لي بأنني كنت أستلقي داخل "قطية" وحيدة ... أمامها شجرة "لالوب" معمّرة يوجد تحتها "عنقريبين" منسوجين من الحبال أبعادهما غير متساوية ... لا يوجد أي كائن بشري في هذه الناحية سوانا ... أجلساني على "عنقريب" وجلس الرجل الكبير على الآخر أما الشاب فقد جلس على الأرض جوار الرجل وأصبح الشخصان يواجهانني. بدأ الرجل بالسؤال عن إسمي ومن أين جئت وإلى أين أذهب ... ثمّ تطرّق إلى السؤال عن سبب إعتدائي على "عبيد" الذي سماه إبنه. طلب مني الوضوح والصراحة ... لم أتورّع عن إخباره بما كنت أنتوي فعله ... ضحك كثيراً حتى السعال ... فيما ظللت أبحلق فيه بغضب ومرارة ... توقف عن الضحك وإرتسمت على وجهه علامات الجدية ... وبعد إطراق لبرهة رفع رأسه ونظر إلى عينيّ مباشرة: ("ظنيتك بتدور تبقى همباتي ذي عمك القدامك ده ... علاّ الطريق صعب ياولدي ... دايرلو زولاً كلس يضوق مرها قبل حلوّها ... مارق للربا والتلاف ... شن قولك تبقى رفيق لإخيّك ده – أشار "لعبيد" الجالس على الأرض بجواره – تتعلّم منو الإتعلموا مني ... تساندو بعض وكت الشدّة ... أصلو ما عندو أخو تاني"). فجأة بعد الذي قاله الرجل الكبير بدأت أنظر لهما بعين مختلفة ورقص قلبي بداخلي ... لسان حالي يقول بأن الظروف وضعتني في الطريق الذي خرجت من أجله وإعتبرت الثمن الذي دفعته بوجودي بينهما قليلٌ بما كنت أُمنّي النفس به ... يبدو أن أساريري إنفرجت دون أن أشعر وإكتسى وجهي بعلائم القبول ... لأن الرجل لم يكن يحتاج لردي فقد إلتفت إلى إبنه "عبيد" وطلب منه مصافحتي ... ووجه حديثه في البداية إلى إبنه بأن يكون خير رفيق وصديق وأخ لي – كما قال "في الحارة والباردة" – وإلتفت ناحيتي وطلب مني نفس الطلب ... وافقناه على طلبه بصمت وأصبحنا أصدقاء.
    بدأت أتعلم فنون ومهارات "الهمبتة" بإشراف الرجل الكبير، الذي كان يناديه صديقي "عبيد" - "أبّا الحاج" -وصرت أناديه بها مثله.
    كلما إزدادت ثقتي بنفسي ... قلّ العطف في نفسي ... وبقدر المال الذي أضحى يجري بين يديّ ... تفتّحت أمامي دنيا النساء والخمر والعربدة التي أصبحنا أنا وصديقي "عبيد" أساطينها ... توسعت معارفنا وصرنا نقطع الفيافي لنُحظّ بمجالسة إمرأة وخمر في مكان بعيد ... زادت ثقتي بنفسي أكثر ... كنت أنتزع ما تهواه نفسي من المال والبهائم والنساء من بين يديّ أشجع الرجال وأقواهم وأجعلهم مطيّة للسخرية والضحك والإستهزاء والإستهجان من أقرانهم دون أن يطرف لي جفن أو تأخذني بهم شفقة ... إمعاناً في الثقة بالنفس صرت أخرج "للهبرة" - كما كنّا نسميها – لوحدي ... أُقسّر الرجال على ترك مالهم وبهائمهم ... والنساء في بعض الأحيان ... أصبحت أجد المتعة الخالصة في كسر كرامة الناس وتحطيم رجولتهم أمام من يحبون من النساء ... أذهب في حال سبيلي غانماً كالملك المتوّج دون أن يمسني شر.
    في ذات ليلة خريفية تشابه يومنا هذا – إستطرد الرجل - ... هطل المطر مدراراً وأنا أجوبُ وحيداً النواحي المترامية على ظهر ناقتي "الياقوت" الأثيرة إلى نفسي ... التي شهدت معي معارك كثيرة كنّا نخرج منها سوياً منتصرين دون أذى ... لم أجد سقفاً يأويني من المطر والبرد حتى توقف تماماً ... إنقطع الماء وأصبحت الريح شفيفة محمّلة ببقايا الماء الذي يضمّخ الجو ... حنّت نفسي "للونسة" والخمر ... بدأت أستعرض في أقرب الأماكن المتاحة لذلك من موقعي الذي كنت فيه ... غيّرت وجهتي بعد أن إستقر الرأي على التوجه إلى "إنداية" "التومة بت جاد الله" التي يقع بيتها على أطراف قرية "بلوم". شارفت تخوم القرية من الجانب الآخر ... لم تكن بي الرغبة على دخول القرية من وسطها للوصول إلى "الإنداية" – خلافاً للعادة - حيثُ كنّا نتباهى بالجرأة على إستعراض القوة والبأس والإطّلاع على ما يدور في داخل بيوت الناس من على ظهور جمالنا ... نمتّع ناظرينا برؤية النساء والصبايا ولا يجرؤ أحد على إبداء الإستهجان على ما نقوم به. في أحد البيوت القريبة من "الإنداية" ... على أطراف القرية ... تنسّمت رئتاي عطراً من بخور الصندل الفواح القوي وزاده الهواء المشبّع بماء المطر قوة ونفاذاً ... تملك الإحساس نفسي وصرت كأن "حمار النوم يحملني" ... قادني البخور قبل أن ألمح ضوء مصباح زيتي خفيض تتلاعب به النسمات كأشباح راقصة في عتمة الليل وسكونه إلاّ من نباح كلاب بعيّدة تتجاوب معها نباحات متفرقة أقرب ثم أقرب. أول ما وقع عليه بصري حوش مزروب "بالصريف" ليس له باب ... وأنا أطلّ عليه من علِ رأيت شجرة ضخمة وارفة الأوراق تتوسط "الحوش" وناقة مشرّبة البياض تربض على مدخل "الحوش" وجهها داخله وذيلها في الخارج. في البداية لم ألمح شيئاً واضحاً سوى "لمبة الزيت" التي كانت موضوعة على منضدة ومغطاة بصفيحة مطوية من الحديد من جانب واحد في مواجهة تيار الهواء حتى لا تنطفئ وتذهب جذوتها ... شخص ما لا أتبيّن ملامحه يستلق على "عنقريب" تبدو منه أطراف "برش" قاتم مدلاة على جوانبه ... الرجل "يخلف" رجليه فوق بعضها كأنه على ظهر جمل ... ويضرب عليها "بسوط عنج" مطوي ضرباً رفيقاً كأنه غارق في تأمل عميق ... إمرأة شابة تحمل إناءً مغطى تضعه على المنضدة بجوار "لمبة الزيت" ... توقف الرجل عن مداعبة أرجله بالسوط وبدلاً عن ذلك مسح بيده الأخرى على شعر المرأة المنحنية على الطاولة ... عندما كادت أن ترفع رأسها لمحت وجهها ... خرجت مني شهقة كالمذبوح من فرط جمالها ... أسرعت بالدخول إلى "القطية" وهي تتعثر وتلتفت مذعورة. رفع الرجل رأسه عن "العنقريب" قليلاً ولمح شبحي منتصباً فوق "الصريف" ... ("إنت منو ... شيطان ولا إنسان؟") ... جاء صوته قوياً آمراً لا خوف فيه أو وجل. إستثارني صوته القوي وحرك مكامن الشر في دواخلي ... رغبتُ من كل قلبي أن أمرغ رجولته وعزته بالتراب أمام تلك الفاتنة – التي قدرت أنها زوجته على ما أظن - علني أجد حظوة لديها أو هكذا زُيّن لي. أنختُ ناقتي الأثيرة خارج "الصريّف" ... دخلتُ من جانب ناقة الرجل ووقفت فوقه متأبطاً عصاتي تحت الإبط الأيمن و "سوط العنج" بيدي اليسرى ... واجهته وهو ما يزال مستلقياً بذات الوضعية دون أن يحرك ساكناً سوى ظلِ إبتسامة خفيفة إرتسمت على محياه ذو الوسامة الصارمة ... طفق يقول: ("حباب الضيوف ... علّا أكان إستأذنوا كان خير ..."). قبل أن يكمل الرجل جملته صحتُ به آمراً: ("أقعد حيلك وتأدب أمام الرجال ... أنا ماني ضيف ولا ######## عشان أكاتلك وإنت راقد في الحالة دي ... أنا قصدي الناقة الباركة والمرة الحسيّنة ببطن القطيّة ..."). صمت قليلاً ثمّ أردف: ("... يا إبن العم الرجال ما بتخلي الحريم علّا بالموت الأحمر ... المرة الشفتها دي زوجتي ... الناقة شيلها بخيتة عليك ... بس أبقى مارق"). إمعاناً في الإزدراء به وطعنه في كرامته لكزته "بسوط العنج" وهو "مطوي" في وجهه كنوع من الإحتقار ... قبض على يدي اليسرى التي تقبض على "سوط العنج" ... لم أكن أصدق ما مررت وشعرت به حينها ... خلتُ أن "كماشة" من حديد صلب أحاطت بمعصمي حتى سمعت صوت طقطقة جريدتّي المعصم وعظامي ... أو كأن إطار "لوري" ثقيل الحمولة وقف عليها ... غابت الأصوات الليلية التي كانت تزدحم بأذنيّ كأنما توقفت الحياة فجأة ... إزدحمت الدموع بعينيّ من فرط الألم ... ضغط يدي إلى الأسفل حتى وجدتُ نفسي جاثياً على ركبتّي ... رأيت من بين دموعي الرجل يُنزل رجليه من "العنقريب" على الأرض وهو يضغط على يدي ... مدّ يده الأخرى إلى الإناء الموضوع على المنضدة ... أزاح غطاء "الكورة" ثمّ أدخل يده فيها وأخرج تمرة وضعها في فمه ... أخذ نواتها وضغط بطرفها على فروة رأسي بقوة ... شعرت بأن مسماراً إخترق جمجمتي ... سمعت دوياً أو هكذا خُيّل لي ... الله ... فقد كسر النواة على رأسي وشعرت بأن الدم ينبجس من رأسي ويسيل على وجهي وعينيّ الغائمتين ... غبتُ عن الوعي لمدة لم أستطع إدراكها ... شعرت بذات المسمار مرة أخرى يقتحم رأسي ... يا الله ما هذا اليوم الأسود الذي أمر به ... مرة ... ثمّ مرة ... ثمّ مرات لا أعلم عددها ... كأن الزمن قد إستطال وأضحى دهراً ... ثمّ لا أدري بشئ سوى أنني وجدت نفسي ممداً على "برش" ظننته ذات "البرش" القديم الذي ألفيتُ نفسي مُسجياً عليه عندما صرعني صديقي "عبيد" ... إختلطت الزكريات والأحداث وضجت في رأسي المجهد الثقيّل ... شعرت بألم وصداع يعصف بمخي ... ناديت "عبيد" فأجابني صوت أنثوي بألاّ بأس وطلبت مني المرأة عدم التحرك ... ثمّ شعرت بالغطاء ينزاح عن رأسي ويشدّ الجلد عنه بفعل الإلتصاق ... سائل ساخن يشعل فروة رأسي حتى صرت أتأوه من فرط الألم والمرأة تحاول تهويّن الأمر عليّ.
    ظللت على هذا الحال لما يقارب الشهر ... وعلمت بأن المرأة الشابة التي كانت تقوم على أمر علاجي وإسمها "رحمة" – كما أخبرتني لاحقاً - هي شقيقة الرجل القوي الذي إستطاع أن يوقع بي هذا الأذي ويهزمني ... وإسمه "جابر" وقد تحادثت معه طويلاً قبل مغادرتي منزله ... قدمت إعتذاري له بالرغم من الجراح الغائرة التي خرجت بها من "غزوتي" معركتي الخائبة ... وذلك لأنني – ... أخيراً ... وأخيراً جداً ... – شعرتُ بتفاهة ونذالة ما كنت أتمرّغ فيه وبأن الخطأ كل الخطأ كان من جانبي وحدي ... وأنني أستحق ما جرى بي وأكثر منه. أعلنت توبتي وإقلاعي عن مقارعة الخمر والتعدي على أموال الناس وأعراضهم ... أصبحت أتضرع إلى الله في كل صلاة أن يغفر لي ما جنته يداي ... تمنيت لو أن كل من ظلمته وقف أمامي وإقتصّ مني حقه ... بحثت عن الستر و"اللقمة الحلال" وعملت في التجارة والزراعة لبعض الوقت بمساعدة "جابر" الذي أصبح من أقرب خلق الله لي ... تزوجت وأنجبت ثلاثة صبية وبنتين ... وقد عفا الله عني وأصلح حالي وحباني "برحمة" زوجة جميلة وطيبة وأصيّلة راعتني في كل أحوالي. لم أقاطعه طيّلة الوقت الذي كان يحكي بتدفق لما إرتسم على وجهه من تعابير دفعتني بأن أحجم عن إبداء أي سؤال ... فقط عندما ذكر بأن إسم زوجته "رحمة" فقلت بدهشة: ("ماذا قلت ... ؟ "رحمة ...؟")... نعم هي ذاتها "رحمة" شقيقة أخي وصديقي "جابر" ... فقد نسيت أن أذكر بأنني تعلقت بها بعد أن أشرفت على علاجي ورعتني بالرقة والحب ... طلبت يدها من "جابر" وكان مهرها "توبتي" ... طرق مسامعنا صوت "بوري اللوري" وهو يدعو الركاب لأخذ مواقعهم إيذاناً بالرحيل ... أطلق "الزين" تنهيّدة عميقة من أعماق صدره كأنه يطرد آخر كلمة تعلقت بسقف حلقه ويحررها في سماء المكان ... أزاح "بنبره" إلى الوراء قليلاً ... ثمّ نهض خفيفاً كأنه أراح كاهله من حمل ثقيل ... ودون أن ينظر ناحيتي أسرع صوب "اللوري" ... تبعته ساهماً أجرجر أقدامي بعد أن أزاح عنه صخرة "سيزيف" وألقاها على عاتقي...


    حيدر سيد أحمد الشيخ علي – الدوحة – قطر
    الأول من يناير 2013
                  

10-03-2014, 05:10 PM

Nagat Sid Ahmed Elshiekh
<aNagat Sid Ahmed Elshiekh
تاريخ التسجيل: 03-04-2011
مجموع المشاركات: 3222

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رحمة (Re: حيدر سيد أحمد الشيخ)

    يا سلااام يا حيدر سيد احمد ود أمي ....
    اولا انا من فترة طويله ما دخلته سودانيز لظروف خاصه ...
    اولا مرحب بيك ًبقلمك السنين ...
    مكسب كبير واضافه ما سهله للمنبر العام
    سعيد بيك جدا
    وح نرجع للقصه....
                  

10-11-2014, 02:18 PM

حيدر سيد أحمد الشيخ

تاريخ التسجيل: 05-29-2013
مجموع المشاركات: 12

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رحمة (Re: Nagat Sid Ahmed Elshiekh)

    توتا يا حبيبة تحياتي وأشواقي لك وللأسرة. آسف جداً للتأخير في الرد. لم أكن متاحاً طيلة الأيام الماضية.
    النصّ المعروض مجرد محاولة لعرض وقائع تلقيتها من أحد الأصدقاء وعلى ما أعتقد هي قصة حقيقية. عموماً هي مجرد مشاركة أو ضربة بداية للدخول للموقع أرجو أن تجد من ينتقدها موضوعياً.
                  

10-11-2014, 02:22 PM

حيدر سيد أحمد الشيخ

تاريخ التسجيل: 05-29-2013
مجموع المشاركات: 12

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رحمة (Re: حيدر سيد أحمد الشيخ)

    أكون في غاية السعادة لرؤية تعليقاتك عليها وأنا أعلم أنك قارئة ممتازة.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de